يونيو 09، 2009

منتخب مقابسات التوحيدي


أبو حيان التوحيدي فيلسوف متصوف، وأديب بارع، من أعلام القرن الرابع الهجري، عاش أكثر أيامه في بغداد وإليها ينسب.وقد امتاز أبو حيان بسعة الثقافة وحدة الذكاء وجمال الأسلوب، كما امتازت مؤلفاته بتنوع المادة، وغزارة المحتوى؛ فضلا عما تضمنته من نوادر وإشارات تكشف بجلاء عن الأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية للحقبة التي عاشها، وهي - بعد ذلك - مشحونة بآراء المؤلف حول رجال عصره من سياسيين ومفكرين وكتاب.وجدير بالذكر أن ما وصلنا من معلومات عن حياة التوحيدي - بشقيها الشخصي والعام - قليل ومضطرب، وأن الأمر لا يعدو أن يكون ظنا وترجيحا؛ أما اليقين فلا يكاد يتجاوز ما ذكره أبو حيان بنفسه عن نفسه في كتبه ورسائله.ولعل هذا راجع إلى تجاهل أدباء عصر التوحيدي ومؤرخيه له؛ ذلك الموقف الذي تعّجب منه ياقوت الحموي في معجمه الشهير معجم الأدباء ، مما حدا بالحموي إلى التقاط شذرات من مما ورد في كتب التوحيدي عرضا عن نفسه وتضمينها في ترجمة شغلت عدة صفحات من معجمه ذاك، كما لّقبه بشيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء؛ كنوع من رد الاعتبار لهذا العالم الفذ ولو بصورة غير مباشرة.ترك أبو حيان التوحيدي خلفه إرثا نفيسا تزهو به المكتبة العربية في مجالات متعددة منها الأدب والأخبار والفلسفة والتصوف واللغويات الخ... جاء في بغية الوعاة (كتاب) أن أبا حيان لما انقلبت به الأيام رأى أن كتبه لم تنفعه وضن بها على من لا يعرف قدرها، فجمعها وأحرقها، فلم يسلم منها غير ما نقل قبل الإحراق. وقد أشار إلى هذه الحادثة ياقوت الحموي في معجمه، وأرد فيها رسالة طويلة من أبي حيان إلى أحد الفضلاء الذين لاموه على هذا التصرف .


مختارات من مقابسات التوحيدي


المقابسة الأولى في تطهير النفس وتجريدها من الشوائب البدنية


سمعت أبا سليمان المنطقي يقول : بالاعتبار تظهر الأسرار ، وبقديم الاختبار يصح الاختيار، ومن ساء نظره لنفسه قل نصحه لغيره؛ وكما تنظف الآنية من وسخ ما جاورها ولا بسها، و وضر ما خالطها ودنسها ، لتشرب فيها ، وتنظر إليها ، و تستصحبها وتحفظها ، ولتكون غنيا بها ، ولا تريدها إلا طاهرة نقية مجلوه ، ومتى لم تجدها كذلك عفتها وكرهتها ونفرت منها وطرحتها ، لأن طبيعتك لا تساعدك عليها ، ونفرتك لا تزول منها، وإباؤك لا يفارقك من أجلها، وقشعريرتك لا تذهب من شناعة منظرها؛ وكذلك فاعلم أنك لا تصل إلى سعادة نفسك وكمال حقيقتك، وتصفية ذاتك، إلا بتنقيتها من دون بدنك ، وصفائها من كدر جملتك ، وصرفها عن جملة هواك، وفطامها عن ارتضاع شهوتك، وحسمها عن الضراوة على سوء عادتك، وردها عن سلوك الطريق إلى هلكتك وتلفك وثبورك واضمحلالك. فاسعد أيها الإنسان بما تسمع وتحس وتعقل، فقد أردت لحال نفيسة، ودعيت إلى غاية شريفة، وهيئت لدرجة رفيعة، وحليت بحلية رائعة، وتوجت بكلمة جامعة، ونوديت من ناحية قريبة.


المقابسة الرابعة في الناموس الآلهي ووضعه بين الخلق


سمعت ابن مقداد يقول: لا بد في وضع الناموس الآلهي الذي يتوجه به إفاضة الخير، وترتيب السياسة، وما يورث سكون البال، ويحسم مواد الشر، ويوطد دعائم السنن، ويبعث على تشريف النفوس وتزيين الأخلاق، ويقرب الطريق إلى السعادة المطلوبة، ويواصل أسباب الحكمة، ويشوق الأرواح إلى طلب الحق وإيثار العقد، ويقدم دواعي العدل و النصفة والرحمة والمكرمة من الأخبار التي تنقسم بين ما هو صدق محض، وبين ما هو صدق ممزوج، وتكون الألفاظ التي تدور بها، واللغات التي ترجع إليها، كثيرة الوجود، سمحة عند التأويل، وإنما وجب ذلك لأن الناس في أصل جبلتهم وبدء خلقهم وأول نسخهم، قد افترقوا مجتمعين، واجتمعوا مفترقين، واختلفوا مؤتلفين، وائتلفوا مختلفين، وإحساسهم متوقدة، وظنونهم جوالة، وعقولهم متفاوتة، وأذهانهم عاملة، وآراؤهم سائحة، وكل منهم منفرد بمزاج وشكل وطباع وخلق ونظر وفكر، وأصل وفرع واختيار وإلف وعادة، وضراوة و نفره، واستحسان واستقباح، وتوق ووقفة وإقدام وجسارة، واعتراف وشهادة، وبهت ومكابرة. هذا سوى أعراض كثيرة مختلفة لا أسماء لها عندنا خالصة، ولا صفات متميزة.قال: ومصل هذا كمثل رجل أصلح طعاماً كثيراً واسعاً مختلفاً من كل لون وجنس ومذاق ورائحة ووضع وقصد وحرارة وبرودة، وحلاوة وحموضة، ونصبه على مائدة واسعة عظيمة، فجمع ذوي عدد جم، فمتى لم تكن المائدة ذات ألوان مختلفة، وأطعمة مركبة، متباينة في القلة والكثرة والملوحة و الحرافة ، و مرقة المتقدمة، لم يقبل كل إنسان على ما يفيق به شهوته الخاصة لهن ولم تمتد يده إليه باللون الذي تدعو إليه العين، لأن للعين نوعاً من الطلب ليس للغم، وللنفس أيضاً مثل ذلك؛ أعني النفس المتغذية، فهذا غير ما هو مطلوب للنفس الناطقة من الترتيب و التكرمة والإيناس والمحادثة . قال: فلما كان الناموس الآلهي نصيحة عامة لدكانة، وجب أن يستعان عليها بكل ما يكون ردأً لها ورفداً معها، وفارشاً لما انطوى فيها، وموضحاً لما خفي عنها، وداعياً باللطف إليها، وضامناً لحسن الجزاء عليها.وهذا قدر كالخالصة مما وقع التفاوض به، سقته على ما أمكن والحمد لله وحده.


المقابسة السابعة في كتم السر وعلة ظهوره


قلت لأبي سليمان وقد جرى كلام في السر وطيه والبوح به ما السبب في أن السر لا ينكتم البتة؟ فقال: لأن السر اسم لأمر موجود قد ضرب دونه حجاب، وأغلق عليه باب، فعليه من الكتمان والطي والخفاء والستر مسحة من القدم، وهو مع ذلك موجود العين، ثابت الذات، محصل الجوهر؛ فباتصال الزمان وامتداد حركة الفلك، يتوجه نحو غاية هي كماله، فلا بد له إذاً من النمو والظهور، لأن انتهاءه إليها، ووقوفه عليها؛ ولو بقي مكتوماً خافياً أبداً لكان والمعدوم سواء؛ وهذا غير سائغ. أعني أن يكون الموجود معدوماً! ولو قبل الوهم هذا لقبل أن يكون المعدوم موجوداً.وهذه مسألة في الهوامل، ولها جواب آخر في الشوامل، لكن هذا القدر يستفاد من الشيخ الفاضل، ومر أيضاً في كلامه أن الحجاب المضروب على هذا السر يرث ويخلق، لأنه لا يبقى على هيئته الأولى يوم يقع سراً ويحدث مكتوماً. ثم قال: كذلك الخواطر والسوانح على لطفها ودقتها، وشدة حقائقها، وعموم مشاربها، تبدو وتظهر، وتقوى وتكثر، حتى يعرف فيها الشيء بعد الشيء، باللحظة والسنحة والتلفت وضروب أشكال الوجه، فكف ما ابتذله اللسان ونسجته العبارة، وظعن من مكان إلى مكان؟!


المقابسة العاشرة في فعل الباري تعالى هل هو ضرورة أو اختيار أو ماذا؟


قال أبو زكريا الصميري لأبي سليمان: إذا كان الباري لا يفعل ما يفتعل ضرورة ولا اختياراً، فعلى أي نحو يكون فعله؟ فإنه إن كان كاستنارة الهواء عن الشمس فهو ضروري، وإن كان كفعل أحدنا فهو اختياري، وما خلا هذين فغير معقول، وما لا يعقل فغير مقبول؟قال أبو سليمان: قد قال كبار الأوائل: إنه يفعل بنوع أشرف من الاختيار، وذلك النوع لا اسم له عندنا، لأنا إنما نعرف الأسماء التي قد عهدنا أعيانها أو شبها لها ، والناس إذا عدموا شيئاً عدموا اسمه، لأن اسمه فرع عليه وعينه أصل له، وإذا ارتفع الأصل ارتفع الفرع. هذا ما لا دفاع له ولا امتناع منه. وخواص الخواص معدومة الأسماء، ونحن نحس بمعاني جمة وفوائد كثيرة، لا نستطيع صرفها عن أنفسنا، وقد التبست بها، وقرت في أفنائها، ومع ذلك إذا حاولنا أسماءها عجزنا، بل قد نعتاض من الأسماء الفائتة إشارات بصفات وتشبيهات تقوم لنا من بعد مقام الأسماء الفائتة، ولكن له أحياناً أعمال رديئة، و إبهامات عندنا فاسدة. ولكن ليس لنا في هذا توجه من الوجود جملة، فمن جملة ذلك هذا الذي نحن فيه؟ إنه قد صح البرهان أن فعل الله تقدس وعلا ليس باضطرار، لأن هذا نعت عاجز، ولا دافع لهذا القول. وليس باختيار أيضاً، لأن هذا نعت عاجز، ولا دافع لهذا القول. وليس باختيار أيضاً، لأن في الاختيار معنى قوياً من الانفعال، وهذا مسلم عند من ألف شيئاً من الفلسفة وشدا بعض علوم الأوائل. فلم يبق بعد هذا إلا إنه بنحو عال شريف يضيق عنه الاسم مشاراً إليه، والرسم مدلولاً به عليه. ولو قال لك رجل: لم خبرت عن الله بالتذكير دون التأنيث؟ لما كان عندك إلا أن تقول: هذا ما أقدر عليه، وليس عندي لما هو حقه في الخبر عنه اسم يحضر، وأكثر ما أمكنني أنني لم أنعت به الأنثى، وهذا لأن التذكير والتأنيث معنيان يوجدان فينا، و بهما أشبهنا سائر الحيوان، وهما منفيان عن الله تعالى من كل وجه وكل وهم. ثم قال بعد هذا الذي قدم من القول: والذي اختاره في هذا الجواب مع هذا التضييق الواقع قولنا: يفعل. لا يصح معناه في الباري تعالى البتة، بل قولنا: يفعل. عبارة عن انفعال الأشياء له، لأن الأشياء له، وأن الأشياء كلها مشتاقة إليه، متوجهة نحوه، مستأنسة به مقتسبة منه، وذلك اتصالات وجوده، فدخول الأشياء إلى ذاته، وشوقها إلى قربه، وبث الوسائط بينها وبينه ثم ضرب مثلاً فقال: ألا ترى أن الطبل يضرب عند الرحيل من قبل الملك فترى كل أحد قد تحرك حركة لائقة به، موقوفة عليه، نحو الملك من غير أن يكون قد تقدم إلى واحد منهم بما هو إليه، بل هو على سكوته وحاله السابقة، فإنما لاح لهم منه لائح فتحركوا مشتاقين متشبهين؟ ثم قال: وينبغي أن تعلم أنه لا فاعل إلا ويعتريه نوع من أنواع الانفعال في فعله، كما أنه لا منفعل إلا وهو يعتريه نوع من أنواع الفعل في انفعاله؟ إلا أن الفعل في الانفعال خفي جداً، والفعل في المنفعل خفي جداً. فلهذا لا يطلق على الفاعل إلا الاسم الأشمل له الأدلة عليه وكذلك لا يطلق على المنفعل إلا الاسم الأخص له والأعم لجملته. وهذا وإن كان الإطلاق والاستعمال على حد ما حقق القول، فإن المفعول لا سبيل إلى إنكاره، ومن عرف الحقيقة لا طريق إلى جحوده. فقد بان أن قولنا: يفعل ولا يفعل، وفاعل وغير فاعل، كلمات مطلقة على حد المجاز والعادة.


المقابسة التاسعة عشرة في السماع والغناء وأثرهما في النفس وحاجة الطبيعة إلى الصناعة


خرج أبو سليمان يوماًً ببغداد إلى الصحراء، بعض أيام الربيع، قصداً للتفرج والمؤانسة، وصحبته، وكان معنا أيضاً صبي دون البلوغ جهم الوجه بغيض المحيا ، شتيم المنظر، ولكنه كان مع هذه العورة يترنم ترنماً ندياً عن جرم ترف، وصوت شج، ونغمة رخيمة، وإطراق حلو، وكان معنا جماعة من طراق المحلة، فلما تنفس الوقت أخذ الصبي في فنه، وبلغ أقصى ما عنده، فترنح أصحابنا وتهادوا وطربوا. فقلت لصاحب لي ذكي: أما ترى ما يعمل بنا شجن هذا الصوت، وندى هذا الحلق، وطيبة هذا اللحن، وتفنن هذه النغمة؟! فقال: لو كان لهذا من يخرجه ويعني به، ويأخذه بالطرائق المؤلفة والألحان المختلفة، لكان يظهر أنه آية، ويصير فتنة، فإنه عجيب الطبع، بديع الفن، غالب الدين والشرف.فقال أبو سليمان، فلتة: حدثوني بما كنتم فيه عن الطبيعة، لم احتاجت إلى الصناعة؟ وقد علمنا أن الصناعة تحكي الطبيعة وتروم اللحاق بها والقرب منها، على سقوطها دونها؟ وهذا رأي صحيح وقول مشروح، وإنما حكتها وتبعت رسمها وقصت أثرها لانحطاط رتبتها عنها، وقد زعمت أن هذا الحدث لم تكفه الطبيعة ولم تغنه، وأنها تعنيه وأنها قد احتاجت إلى الصناعة حتى يكون الكمال مستفاداً ومأخوذاً من جهتها، والغاية مبلوغة بمعونتها وإصدارها؟ فقلنا له: ما ندري! وإنها المسألة؟ فقال: فكروا؟ قعدنا له وقلنا: إنا قد ثلجنا، ولو مننت بالبيان ونشطت لنشر الفائدة كان ذلك محسوباً في بيض أياديك وغرر فضائلك؟ فقال: إن الطبيعة إنما احتاجت إلى الصناعة في هذا المكان، لأن الصناعة ها هنا تستملى من النفس والعقل، وتملى على الطبيعة؟ وقد صح أن الطبيعة مرتبتها دون مرتبة النفس، تقبل أثارها وتمتثل أمرها، وتكمل بكمالها، وتعمل على استعمالها، وتكتب بإملائها، وترسم بإلقائها، والموسيقى حاصل للنفس وموجود فيها، على نوع لطيف وصنف شريف، فالموسيقار إذا صادف طبيعة قابلة، ومادة مستجيبه، وقريحة مواتية، وآلة منقادة، أفرغ عليها بتأييد العقل والنفس لبوساً مؤنقاً، وتأليفاً معجباً، وأعطاها صورة معشوقة، وحلية مرموقه، وقوته في ذلك تكون مواصلة النفس الناطقة. فمن ها هنا احتاجت الطبيعة إلى الصناعة، لأنها وصلت إلى كمالها من ناحية النفس الناطقة بواسطة الصناعة الحادثة التي من شأنها استملاء ما ليس لها وإملاء ما يحصل فيها، استكمالاً بما تأخذ وكمالاً لما تعطي.فقال له البخاري، وكان من تلامذته: ما أشكرنا على هذه الصلات السنية، وما أحمدنا لله على ما يهب لنا منك من هذه الفوائد الدائمة؟!فقال: هذا بكم اقتبست، وبحجركم قدحت، وإلى ضوء ناركم عشوت وإذا صفي ضمير الصديق للصديق، أضاء الحق بينهما، واشتمل الخير عليهما، وصار كل واحد منهما ردءاً لصاحبه، وعوناً على قصده، وسبباً قوياً في نيل إرادته ودرك بغيته. ولا عجب من هذا، فالنفوس تتقادح، والعقول تتلاقح والألسنة تتفاتح، وأسرار هذا الإنسان الذي هو العالم الصغير في هذا العالم الكبير، كثيرة جمة، واسعة منبثة، وإنما يحتاج الناظر في هذا النمط إلى عنايته بنفسه في طلب سعادته، ورعايته لحاله في السلوك إلى غايته، غير عائج على زهرة العين ونضرة الحس ولذة الوقت، فإنه بهذه المقدمات يصل إلى تلك الغايات، ويجني تلك الثمرات، ويجد تلك السكاين مرتفعاً عن هذه الأقذاء والقاذورات، وأول هذا الأمر وآخره بالله ومن الله. اللهم طهر قلوبنا من ضروب الفساد، وحبب إلى أنفسنا طرائق الرشاد، وكن لنا دليلاً، وبنجاتنا كفيلاً، بمنك وجودك الذين ما خلا منهما شيء من خلقك العلوي والسفلي، ولا فاتنا شيء من صنعك الجلي والخفي، يا من الكل به واحد، وهو في الكل موجود.هذا ما خلص ن هذا الاجتماع، وهو ظاهر الشرف، أتيت به على ما لقيته، فاشركني في استحسانه وقبوله، وكن معيناً على طلب نظيره، والتعاقب على الخير، والتناصر على البر، سيرة الفاضلين، وعادة أهل التقى والدين.


المقابسة الثالثة والثلاثون في الحركة والسكون وأيهما أقدم؟


سئل أبو محمد العروضي مرة عن الحركة والسكون أيهما أقدم؟ فقال: أما عند الحس فالحركة أقدم، وأما عند العقل فالسكون أقدم. وبعد فالسكون عدم الحركة، وكل حس فقوامه بالحركة، وكل عقل فصورته بالسكون، ونظامه بالهدوء، وخاصته بالطمأنينة، وأثره بالقرار، وقوته بالنفس؛ وكأن من فيض العلة الأولى وجوده، لأن هذا النعت لكل ما دونه، فالاستعارة له بالواجب والحقيقة، والسكون عند العقل عدم الحس، والحركة عند الحس تأثير العقل.وأطال إطالة شذ بها عني أكثر قوله.وسمعت أبا سليمان يقول ما هو رفد لهذا القول وجار معه: فإن سكون العقل في نوع الحركة، وحركة الحس في نوع السكون، لأن حركة الحس إلى الاضمحلال و النكول ، وسكون العقل إلى الكمال والمحصول. وقال: إنما الحركة التي نعتقد لها ضداً، أعني السكون، هي الحركة التي للقفار وبلاد الحس، فأما الحركة لنوع السكون فلا ضد لها بوجه، لأن العقل كل بمعنى واحد، وواحد بمعنة كل. وله هذا باشتمال العلة الأولى عليه واقتباسه منها، وقد وضح أن السكون عدمها، فكيف يكون ههنا وجود؟ قيل له في هذا المكان: فالعالم ساكن أو متحرك؟ فقال: لو كان متحركاً الحركة المعروفة لقلق و ارجح ، ومال وتهافت، ولو كان ساكنا لبقي ذلك على حال، ولكنه متحرك حركة استدارة، فلذلك ما يظن به السكون. وساكن لسكون قابل للفيض، فلذلك ما يظن به الحركة. فالتشوق حركة، ولكن عقلية. والدوام على التشوق سكون ما، ولكن عقلي، فكل ما قد فاض من العلة الأولى ويقبله المعلول الثاني، وهو موجود على مراتبه المتباينة ودرجاته المختلقة، بين الطرف الأدنى إلى الطرف الأقصى ومع ذلك فقد وقف الجميع تجاه كل متصفح، وقبالة كل باحث، فليس بذهب من جميع ذلك بشيء إلا بسوء الاختيار، وقلة الإقتداء بالأفضل الأخيار حفظك الله، ولو انتفعنا ببعض هذه الفقر الكريمة سعدنا ونلنا منيتنا، فسل ربك ذلك بالتضرع إليه، والخضوع بين يديه، مع العبادة الدائمة، والبحث اللطيف، والتؤدة المعتادة، والإحسان إلى البرية، فإنك تعطي بغيتك، وتبلغ غايتك، وتنول سعادتك، إن شاء الله تعالى.


المقابسة الثامنة والأربعون في الفرق بين طريقة المتكلمين وطريقة الفلاسفة


قلت لأبي سليمان: ما الفرق بين طريقة المتكلمين وبين طريقة الفلاسفة؟ فقال: ما هو ظاهر لكل ذي تمييز وعقل وفهم، طريقتهم يعني المتكلمين مؤسسة على مكايل اللفظ باللفظ، وموازنة الشيء إما بشهادة من العقل مدخولة، وإما بغير شهادة منه البتة. والاعتماد على الجدل، وعلى ما يسبق إلى الحس أو يحكم به العيان، أو على ما يسنح به الخاطر المركب من الحس والوهم والتخليل مع الإلف والعادة والمنشأ وسائر الأعراض التي يطول إحصاؤها ويشق الإتيان عليها، وكل ذلك يتعلق بالمغالطة والتدافع وإسكات الخصم بما اتفق، وإتمام القول الذي لا محصول فيه ولا مرجوع له، مع بوادر لا تليق بالعلم، ومع سوء أدب كثير؛ نعم ومع قلة تأله، وسوء ديانة، وفساد دخلة، ورفض الورع بجملته. والفلسفة أدام الله توفيقك، محدودة بحدود ستة، كلها تدلك على أنها بحث عن جميع ما في العالم مما ظهر للعين، وبطن للعقل، ومركب بينهما، ومائل إلى حد طرفيهما، على ما هو عليه. واستفادة اعتبار الحق من جملته وتفصيله، ومسموعة ومرئية، وموجودة ومعدومة، من غير هوى يمال به على العقل، ولا إلف يفتقر معه إلى جناية التقليد. مع إحكام العقل الاختياري، وترتيب العقل الطبيعي، وتحصيل ما ند وانقلب من غير أن يكون أوائل ذلك موجودة حسا وعياناً، وكانت محققة عقلاً وبياناً، ومع أخلاق آلهية ، واختيارات علوية، وسياسات عقلية. ومع أشياء كثير ذكرها وتعدادها، ولا يبلغ أقصى ما لها من حقها في شرفها.ثم قال: وكان شيخنا يحيى بن عدي يقول: إني لأعجب كثيراً من قول أصحابنا إذا ضمنا وإياهم مجلس: نحن المتكلمون، ونحن أرباب الكلام، والكلام لنا، بنا كثر وانتشر وصح وظهر! كأن سائر الناس لا يتكلمون أو ليسوا أهل الكلام؟ لعلهم عند المتكلمين خرس أو سكوت! أما يتكلم يا قوم الفقيه، والنحوي، والطبيب، والمهندس، والمنطقي، والمنجم، والطبيعي، والآلهي، والحديثي، والصوفي؟ قال: وكان يلهج بهذا، وكان يعلم أن القوم قد أحدثوا لأنفسهم أصولاً وجعلوا ما يدعونه محمولاً عليها ومتناولاً من عرضها، وإن كانت المغالطات تجري عليهم ومن جهتهم بقصدهم مرة وبغير قصدهم أخرى.قال: وكان يصل هذا كثيراً بقوله: والدليل على أن النحو، والشعر، واللغة ليس بعلم، أنك لو لقيت في البادية شيخاً بدوياً قحا محرما، لم ير حضرياً ولا جاور أعجمياً، ولم يفارق رعيه الإبل وانبثاث المناهل وهو مع قبح هيئته التي لا يشق غباره فيها أحد منا وإن كلف، فقلت له: هل عندك علم؟ لقال: لا. هذا، وهو يسير المثل، ويقرض الشعر، ويسجع السجع البديع، ويأتي بما إذا سمعه واحد من الحاضرة وعاه، واتخذه أدباً ورواه، وجعله حجة.وكان يقول: هذه الآداب والعلوم هي قشور الحكمة وما انتثر منها على فائت الزمان، لأن القياس المقصود في هذه المواضع والدليل المدعى في هذه لأبواب معها ظل يسير من البرهان المنطقي والرمز الآلهي والإقناع الفلسفي! قد بين هذا الباب أرسطو طاليس في الكتاب الخامس، وهو الجدل، كل ما في الإمكان من التعليق به والاحتجاج منه، مع التمويه والمغالطة، بل كثير من المتكلمين لا يصلون إلى غايات ما كشفه ورسمه وحذر منه وأبان عنه، وإن أنضوا مطيهم، وأبلوا جهدهم، سوى ما أتى عليه قبل هذا الكتاب وبعده مما هو شفاء الصدور وقرة الأعين وبصيرة الألباب؟ والكلام في هذا طويل.




المقابسة الثامنة والخمسون في أننا نساق بالطبيعة إلى الموت وبالعقل إلى الحياة


سمعت أبا سليمان يقول: نحن نساق بالطبيعة إلى الموت، ونساق بالعقل إلى الحياة، لأن الذي هو بالطبيعة قد أحاطت به الضرورة، والذي بالعقل قد أطاف به الاختيار، ولهذا الفرق الذي استبان وجب أن نستسلم لأحدهما ونتحرم للآخر، ولا يصح الاستسلام إلا بطيب النفس فيما لا حيلة في دفعه، ولا يتم التحرم إلا بإيثار الحد فيما لا ينال إلا به، والضروري لا يسعى له لأنه واصل، والاختياري لا يكسل عنه لأنه غير حاصل لديك، فانظر أين تدع توكلك فيما ليس إليك، ومن أين تطلب ثمرة اجتهادك فيما هو متعلق بك.ثم قال: نحن نقضي ما علينا، ونجتهد في ما لدينا، ويجري الدهر بما شئنا أو أبينا.ثم قال أيضاً في هذا الفصل على تقطع علائق الحديث ومحادثة بعض الحاضرين: الإنسان مسجون بالضرورة والاختيار، وعلى ذلك فمعاده إلى غايته التي هو متوجه إليها من جهة اختياره، ومتوجه به نحوها من جهة اضطراره. وهذه كالحيرة ولا سبيل إلى محيرها و استبانة كنهها بحق ما عرض، لأن الصورة عنونت الاختيار، والهيولى رسمت الاضطرار، والذي يكونه بهما يضرب على حديهما ووتيرتيهما، وإنما كالاختيار منسوباً إلى الصورة بحق الشرف، وإنما كان الاضطرار منسوباً إلى الهيولى بحسب الخسة. والإنسان كالإناء لهما، وبالتباسه بهما والتباسهما به ما عرض هذا الصراخ والعويل، واحتيج فيه إلى القال والقيل، والله المستعان في كل ما عز وهان، فليكن هذا مقنعاً إن لم يكن شافياً، والسلام.


المقابسة الواحدة والسبعون في حقيقة الضحك وأسبابه


سألت أبا سليمان عن الضحك: ما هو؟ فأملى فقال: الضحك قوة ناشئة بين قوتي النطق والحيوانية، وذلك أنه حال للنفس باستطراق وارد عليها. وهذا المعنى متعلق بالنطق من جهة، وذلك الاستطراق إنما هو تعجب، والتعجب هو طلب السبب والعلة للأمر الوارد، ومن جهة تتبع القوة الحيوانية عند ما تنبعث من النفس، فإنها إما أن تتحرك إلى داخل، وإما إلى خارج. فأما أن يكون دفعة فيحدث منها الغضب، وإما أولا وأولا باعتدال فيحدث السرور والفرح. فأما أن تتحرك من خارج إلى داخل دفعة فيحدث منها الخوف، وإما أولا فأولا فيحدث منها الإستهزال وإما أن تتجاذب مرة إلى داخل، ومرة إلى خارج، فيحدث منها أحوال أحدثها الضحك عند تجاذب القوتين في طلب السبب، فيحكم مرة أنه كذا ومرة أنه ليس كذا، ويسري في ذلك الروح حتى ينتهي إلى الغضب فتحرك الحركتين المتضادتين، وتعرض منه القهقهة في الوجه لكثرة الحواس، ويعلو الغضب واحداً ، واحداً منها.


المقابسة الثمانون في أن الموجود هو الذي من شأنه أن يفعل أو ينفعل


قال أبو سليمان أيضاً: الموجود هو الذي من شأنه أن يفعل أو ينفعل فكل ذات موجودة، فإما أن تكون فاعلة فقط، أو منفعلة فقط، أو فاعلة ومنفعلة، فالمنفعلة فقط هي المادة الموضوعة لقبول الصورة والفاعل فقط هو المعطي صورة كل ذي صورة، والفاعل المنفعل هو المركب من مادة وصورة يفعل بصورته وينفعل لمادته. وقال أيضاً: كل موجود إما أن يكون بالقوة، وإما أن يكون بالفعل فقط، وإما أن يكون بالفعل من جهة وبالقوة من جهة. وإما أن يكون بالفعل فقط، وإما أن يكون بالفعل من جهة وبالقوة من جهة. فالمنفعل الذي بالقوة دائماً هو الهيولى المستحيل المتبدل الأحول بالصورة التي يعطيها الوجود بالفعل، والموجود بالفاعل دائماً من غير أن يشوبه شيء من القوة هو الذات الأبدية الوجود الذي هو سبب كل موجود بالقوة، والفعل الموجود بالقوة تارة وبالفعل أخرى هي المركبات من المادة الموجودة فإن لها القوة من جهة الهيولى، والفعل من جهة الصورة.


المقابسة الثالثة بعد المائة في أن الأشياء التي توجد بالعقل وبالحس كلها اتبعت العلل


قلت لعيسى بن زرعة أبي علي ، وابن عبدان الطبيب حاضر: أنا شديد الحرص على معرفة شيء قد طال تخلجه في صدري مع مواصلة مسألتي عنه وحسن استفهامي لما فيه. فقال: ما هو؟ قلت أريد أن أعلم أن الأشياء التي نجدها بالحس والعقل كلها اتبعت العلل والعلل الأشياء؟ فقال لي: من أين ثارت عليك هذه المسألة؟ فقلت: رأيت جالينوس في منافع الأعضاء يذكر أموراً ويكشف دقائق وينثر عجائب وينشر حكماً جليلة، ولعمري إن ما خلده في ذلك الكتاب وقاله واستنبطه يكاد يكون عن وحي وإلهام فضلاً عن غير ذلك! فمما نزع إلى هذا البحث أني رأيته يصف العين ويذكر مكانها من الإنسان وأنها كالربيئة له والطليعة، وما دانا هذا وجرى معه، وذكر أيضاً الاحتياط في العين لكثرة آفات هذا العضو خاصة. فقيل له لو وجدت إحدى العينين في نقرة القفا والأخرى في وسط الجبهة لأمكن أن يقال جعلنا إحدى العينين من خلف لتكون وقاية وحراسة مما يكون هناك ويحدث ويذكر الضرر الذي يعرض من تلك الجهة، فكأنك أيها الحكيم لما وجدت هذه الأمور على ما نظمت به وعنيت أثرت منها هذه الأغراض من المعاني بفضل عقلك وقوة بيانك ولطف إشارتك، فكأن الأشياء تابعة للعلل على هذا، والمتبع بمقالتك يقتضي أن العلل تابعة للأشياء، ليس الأشياء تابعة للعلل، بدليل ما ضربنا من المثل، لأنك هكذا وجدتها فعلى ما وجدتها بينتها ولو وجدتها على غير ما هي عليه لكان استنباطك على ما كنت تجدها عليه بفضل فحصك واستقرائك، فعلى هذا عللك التي شرحتها وحكمك التي استخرجتها تابعة لا موجبة؟ فقال في جواب ذلك ما أحكيه على قصوري عنه، وكان ابن عبدان الطبيب ينصر ما يقوله ويرتضيه، ولقد اضطرب على كثير مما قال. زعم في أول الجواب أن للمسألة غوصاً وأنها معروفة عند الأوائل، وقد أوسعونا فيها كلاماً كثيراً في الكتب معروفة، وأقول في هذا المكان ما يكون مقنعاً إن لم يكن كافياً: إن الأشياء التي من شأنها أن تكون معلولة هي تابعة لا محالة لعللها وإن اختلفت سبلها في إتباعها كما اختلفت أحوالها في كونها وفسادها والعلة ما دامت علة فإنها تقتضي شيئاً خاصاً، والشيء ما دام مقتضياً فإنه يتبع علته الخاصة به، وهي مع ذلك موجودة معه لا على معنى القران ولكن على معنى الوجوب، فقد قضى العقل أن مرتبة التابع دون مرتبة المتبوع، ودرجة المتبوع فوق درجة التابع. والعلل بنظر ما على ضربين: علل موضوعة، وعلل مصنوعة، والصناعة منقلبة للموضوع، لأن الوضع هو بالطبيعة في الأول، فإذا صحت هذه العبرة انكشف أن الأشياء كلها عللها ومعلولاتها على وتيرة واحدة وسنن واحد في الوجود فمن العقل، وإن كانت موسومة بالتركيب بالعقل فالأشياء تابعة لعللها ما دامت العلل عللاً لها والعلة مستتبعة للأشياء ما دامت تابعة لها، فالاتصال بين العلل والمعلول اتصال آلهي لا فضل له ولا بينونة فيه، وهذا كله إذا لحظت مبدأ الوجود بحسب حدك ونظرك واستخراجك، فأما ما عليه العلة في وجودها وما عليه المعلول في وجوده معلولاً، فأمر لا يتميز إلا بالترتيب الذي تكرر القول فيه. فجالينوس قد هجم بنظره وفحصه على علتين: إحداهما موضوعة لذلك ومطبوعة على ذلك، والأخرى يدنيها منها وضيفها إليها ويشبهها بها اقتداراً بالعقل البشري وتصرفاً بالقياس الأنسي، وإثارة للحكمة الآلهية، واستنارة بالحال التوحيدية. فالعلة الأولى طباعية، والأخرى صناعية. والقياس المشار إليه من الأولى برهاني، والقياس المدلول عليه من الأخرى بياني، وإنما يفزع في وقت بعد وقت إلى ما هو دون البرهان، لأن خفايا الأشياء وأسرارها وزواياها في أعماقها كثيرة. والعقل الهيولاني لا يفني في هذا الجسم الجزئي كل الإضاءات ولا ترى كل ذلك. فلذلك ما ترى صاحب هذا العقل يطمئن مرة ويقلق مرة، لأن النفس تمر به كالبرق إذا استنار أو كالنجم إذا هوى.قال: والكلام في هذا الباب أطول مما يظن قد تجلى بهذا القدر شيء يمكن أن يكتفي به مع التخليص فيه. وأعدت هذا بعد على أبي سليمان فقال لي: قد تجد علة في شيء من الأشياء تكون ذاتية فلا ثمرة لها عندك إلا أن تعرف أنها كذلك فقط، وقد تجد علة أخرى لشيء آخر ولا تكون ذاتية له لأن أخرى تزاحمها، إلا أن العقل يرتع فيها وينبسط في استنباط الحكمة منها. والحال الأولى من العقل شبيهة بما في العقل، وكل ما في القوة فليس للعقل منه إلا الأينية والكمية والكيفية. ثم قال: فعلى هذا التأسيس الأشياء تابعة للعلل لأنها معلولاتها، والعلل مستتبعة للمعلولات لأنها علل لها. وهذا بشرح العقل لا بترتيب الحس، ولا يتجرد لحظ العقل إلا بشركة من المعلول. وإذا علوت عن هذه قليلاً لم تجد ما ينبغي أن يعطي حد العلة ولا حد المعلول. وإذا علوت عن هذه قليلاً لم تجد ما ينبغي أن يعطي حد العلة ولا حد المعلول، وإنما ترسم هذه الأسماء والألقاب ما دامت تتصفح الأمور وتقيس بعضها ببعض، وتستعمل أسماءها وتثبت صفاتها، ولو خلص النظر من هذا كله لم يشهد الأوجد وإلا واحد وإلا ما اخترعته لفظي ولا بيان له قوى؟ فائتة في هذه المضايق بقوى نفسك وتهدي عقلك، ودع عنك الغامض وغامض الغامض فإن ذلك يهيضك ويكدك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق