مارس 29، 2010

Mother Jones ,, 1830 - 1930


" يمكنكم أن تصلوا من أجل الأموات ، إذا أردتم ، لكن المهم هو أن تناضلوا من أجل الأحياء "
لقد كانت الأم ماري هاريس جونز ، حسب وكيل نيابة فيرجينيا الغربية ، " المرأة الأكثر خطورة في أمريكا " ، كانت مكروهة من طرف الرأسماليين ، لكن محترمة و محبوبة من طرف جميع العمال الذين التقوها ، و قد كانوا كثيرين . ولدت في ايرلندا ، سنة 1830 . حكم على جدها بالموت و شنق بسبب ثورته ضد الاستعمار البريطاني . رأت في طفولتها جنود صاحبة الجلالة يحملون رؤوس الثوار المقطوعة فوق حرابهم . سنة 1835 ، انتقل أبوها العامل للعمل في السكك الحديدية بأمريكا ، حيث التحقت به عائلته ، قبل أن يرحلوا جميعا إلى تورونتو ، بكندا . اشتغلت ماري هاريس لمدة قصيرة كمعلمة في مدرسة للراهبات ، ثم كخياطة . سنة 1861 ، تزوجت جورج جونز ، الذي يعمل في صهر الحديد ، و المنظم النقابي في ممفيس بتينيسي .
عرفت حياتها الشخصية أحداثا مأساوية . فأبنائها و زوجها ماتوا جميعا بسبب وباء الحمى الصفراء الذي ضرب ممفيس سنة 1867 . و قد كتبت فيما بعد قائلة : " كان الضحايا هم الفقراء و العمال بشكل رئيسي ، لقد كان في مقدور الأغنياء مغادرة المدينة . أغلقت المدارس و الكنائس . كان ممنوعا دخول منزل مريض بدون تصريح خاص . لم يكن في مقدور الفقراء أداء أتعاب ممرضة . في الجهة المقابلة لمنزلي ، مات عشرة أشخاص بالوباء . لقد كان الموت يحيط بنا من كل النواحي . كنا ندفن الجثث ليلا دون أية مراسيم . كنت أسمع صرخات الهذيان و البكاء . أبنائي الأربعة الصغار سقطوا مرضى واحدا بعد الآخر و ماتوا . غسلت أجسادهم الصغيرة قبل أن أدفنهم . أصيب زوجي بالحمى و توفي أيضا ، لقد أصيبت منازل أخرى بقسوة مماثلة . في النهار كما في الليل ، كنت أسمع صرير عجلات العربات الجنائزية .
بعد هذه المأساة ، ذهبت لتستقر في شيكاغو كخياطة ، لكن محلها اختفى في حريق سنة 1871 الهائل ، الذي دمر جزءا هاما من المدينة . ابتداء من هذا التاريخ ، صارت تساهم أكثر فأكثر في الحركة النقابية الأمريكية ، إلى درجة أن تاريخ حياتها تداخل بشكل كبير مع تاريخ نضالات الطبقة العاملة الأمريكية المثيرة للإعجاب ، لكن التي لا يعرف عنها إلا القليل مع الأسف في أوروبا و العالم العربي أيضا . المترجم . فبعد فقدانها لكل أفراد أسرتها ، تبنت عمال قطاع المناجم ، و السككيين و عمال النسيج . لقد أطلقوا عليها اسم " الأم" . شاركت الأم جونز في جميع النضالات . شاركت في الإضراب الكبير لعمال السكك الحديدية في بينسيلفانيا ، سنة 1877 . خلال سنوات الثمانينات ، نظمت دروسا للتكوين السياسي لصالح العمال النقابيين . سنة 1890 ، انخرطت في نقابة المنجميين . بالرغم من قامتها القصيرة و مظهرها كجدة مسالمة ، فإن الأم جونز كانت خطيبة ذات قوة خارقة . بصعودها على المنصات من أجل مخاطبة جموع العمال ، كان حضورها يأسر الجميع . كانت نبرتها تتنوع ، و كانت تثير لدى من ينصتون إليها مشاعر متنوعة ، كانت تستطيع دفع الناس إلى البكاء ، ثم ، و في لحظة ، تدفعهم إلى الانفجار ضحكا . و هي تقطع المنصة بغضب جيئة و ذهابا ، كانت هجماتها ضد الأضرار التي يسببها أرباب العمل تعبر عن أشد الإدانة . كانت تسخر من الأغنياء . أما العمال فكانت تشعرهم في نفس الوقت بقوتهم و لا إنسانية الشروط التي يحيونها .
كما أن كتاباتها أيضا كانت تأسر بأسلوبها المباشر و صدقها عقل القارئ . تحكي في مقال تحت عنوان : الحضارة في مصانع الجنوب ، نشر في International Socialist Review ، سنة 1901 ، تجربتها في مصنع للقطن ، حيث اشتغلت لتشهد ظروف العمل في هذا القطاع الصناعي . « وجدت أن أطفالا في سن السابعة أو الثامنة كانوا ينتزعون من فراشهم عند الساعة الرابعة و النصف صباحا ، على صوت صفارة المراقب . كانوا يتناولون وجبة هزيلة مكونة من القهوة السوداء و خبز الماييس المبلل بزيت بذور القطن ، الذي كان يقدم بدل الزبدة . بعدها كان جيش العبيد هذا ، بكباره و صغاره ، ينطلق إلى العمل . على الساعة الخامسة و النصف يكونون قد صاروا خلف أسوار المعمل ، حيث يسحقون ، في ضجيج الآلات ، طفولتهم طيلة 14 ساعة يوما بعد يوم . عندما نتأمل مليا في هذه الأرواح اليائسة ، يمكننا تقريبا أن نسمعها تصرخ : " توقفي ، و لو للحظة ، يا دواليب الجشع الرأسمالي ، حتى نتمكن أخيرا من سماع صوت إنساني ، و دعينا نعتقد ، و لو للحظة ، أنه لا يمكن لهذا أن يستمر طيلة الحياة "
لقد لعبت الأم جونز دورا رياديا في العديد من النضالات ، من بينها إضراب عمال المناجم في أرنوت ( بنسيلفانيا ) . عملت على إشراك نساء العمال بطريقة لا تصدق : " عندما حاولت الإدارة استقدام كاسري الإضرابات ، قلت للرجال أن يبقوا في منازلهم و يتركوا النساء يتكفلون بـ " الصُفر " . لقد قمت بتنظيم جيش حقيقي من ربات البيوت . كان عليهن أن يأتين حاملات لمكانسهن ، و ممسحة و سطل ماء ليهاجمن الصُفر ، قرب المنجم . في اليوم المحدد لم أذهب بنفسي إلى المنجم ، خوفا من أن يسبب اعتقالي في هزيمة هذا الجيش . اخترت سيدة ايرلندية ذات مظهر مهيب لقيادة الهجوم . استيقظت متأخرة و كان عليها أن تجهز نفسها بسرعة . جاءت مرتدية تنورة حمراء فوق قميص نوم طويل . كانت ترتدي جوربا أبيض في قدم و جوربا أسود في القدم الأخرى . و وضعت على شعرها الأشقر الأشعث خمارا أحمرا . كانت عيناها وحشيتان . قلت لها : " ستقودين الجيش حتى مدخل البئر . خذي قدرك ، و مطرقة و عندما يأتي الصُفر ببغالهم ، ستقمن جميعا بطرق قدوركن و اطردن الصُفر بضربات المكنسات . لا تخشين أحدا "
عندما بدأت النسوة في الطرق على قدورهن ، جاء رئيس الشرطة و قال للسيدة الايرلندية : " حذار يا سيدتي العزيزة ، سوف تخفن البغال . " و تحكي الأم جونز كيف أنها و بدل أن ترد عليه وجهت له ضربة بقدرها أسقطته في الحفرة ، و هي تصرخ : " اذهبوا إلى الجحيم ، أنتم وبغالكم " في هذه اللحظة ، بدا و كأنه حتى البغال تمردت على الصُفر ، حيث بدأت توجه لهم الرفسات ، أطلق الصُفر أرجلهم للريح و النسوة في أعقابهم يلوحن بالمكنسات و الممسحات . "
نجح الإضراب ، لكن ليس قبل أن يقوم أرباب العمل بمحاولة لإيقافه بطريقة فريدة من نوعها . وجدت الأم جونز نفسها ذات مساء عند القيادي في النقابة ، المسمى ويلسون ، عندما طرق أحدهم بابه . كان بيت أسرة ويلسون مرهونا لدى أحد الأبناك ، مالكه هو مالك ذلك المنجم . كان لدى زوار الليل هؤلاء مقترح يطرحونه على القيادي النقابي : " سنلغي الرهن عن منزلك و سنعطيك 25000 دولار إذا ما قبلت بمغادرة المنطقة و ترك الإضراب لكي يفشل " . كتبت الأم جونز قائلة : لن أنسى أبدا رده : " أيها السادة ، إذا ما كنتم في زيارة لأسرتي فإني أضمن لكم ضيافة حارة . لكن إذا ما كنتم هنا من أجل دفعي إلى خيانة مبادئي و خيانة العمال الذين أولوني ثقتهم ، أطلب منكم أن تغادروا فورا و ألا تعودوا أبدا " كان ويلسون يوفر المأوى للمضربين الذين يعيشون ظروفا صعبة ، كان يقتسم معهم كل ما يمتلكه و كان يعيش حياة متواضعة . كتبت الأم جونز عنه قائلة : " كان يواجه نفس الصعوبات التي يواجهها مناضلو القاعدة . ليس لدينا قادة مثله في أيامنا هذه . "
ابتداء من 1904 ، اشتغلت الأم جونز مسؤولة عن التنظيم في الحزب الاشتراكي الأمريكي ، قبل أن تعود إلى UMWA ، سنة 1911 . و يوم 21 شتنبر 1912 ، خلال إضرابات باينت كريك و كابل كريك ، قادت الأم جونز مظاهرة لأبناء عمال المناجم في شوارع شارلستون . بعد ذلك بخمسة أشهر ، و خلال مظاهرة أخرى ، و في سن 82 من عمرها ، تعرضت للاعتقال و اتهمت ب " التآمر في جريمة قتل " و حكم عليها بالسجن 20 سنة . لحسن الحظ أطلق سراحها في شهر مايو من سنة 1913 ، بعد انتخاب حاكم جديد . بقيت الأم جونز مرتبطة بالحركة العمالية حتى وفاتها ، سنة 1930 ، عن عمر يساوي 100 سنة . كانت تقول : " يمكنكم أن تصلوا من أجل الأموات ، إذا أردتم ، لكن المهم هو أن تناضلوا من أجل الأحياء " دفنت في مقبرة نقابة المنجميين ، بمونت أوليف ، قرب سانت لويس ، بالإيلينوا . و وضعت على قاعدة النصب الذي شيد تخليدا لذكراها ، لوحة كتبت عليها وصيتها الأخيرة : " لا يتنفسن أي خائن فوق قبري . "
ـــــــــــــ
المقال : غريك أوكسلي
عن موقع ماركسي

مارس 26، 2010

لماذا نكتب



نجيب محفوظ :
الكتابة مثل أي نشاط يقوم به الإنسان ، و ربما كانت أسباب هذا النشاط غامضة ، مثل اللعب أو الرحلات أو الفن أو الكتابة الإبداعية ، من الممكن أن يكون أساسها القراءة و الجو الثقافي الذي يجعل الإنسان يعشق الكتابة فيكتب . إن الكتابة فن جميل يتصل به الكاتب بهموم الناس ويتلقى منهم و عنهم . إحنا لا أستطيع أن أعيش بدون كتابة أنني في الكتابة اشبع رغبة بداخلي في أن اكتب . أولا كتبت للاستمتاع الشخصي و بعد أن أخذت موضوع الكتابة مأخذ الجد ، بدأت احلم بآمال من الممكن أن يوصلني هذا النشاط إليها كالمجد و الشهرة وغير ذلك . و الحمد لله قد نلت اكثر مما تمنته .

الطاهر بن جلون :
أكتب لأنني احب ممارسة الكتابة ، و أحب أن اكتب بصراحة و بكل احساساتي ، الكتابة بالنسبة لي ممارسة يومية و لا اعتبرها كعمل شقي بل اعتبرها واجبا قوميا .. أقوم به بنشاط ، و أنا لست من الكتاب الذين يجدون عناء كبيرا في الكتابة . لماذا تكتب ؟ سؤال كبير .. المهم أن يكون ما نكتبه معبرا عن الشيء الذي نعرفه أكثر ، فمثلا عندما تكتب عن قريتك ، عن الحي الذي تسكن فيه ، عن جيرانك ، عن نفسك كما فعل نجيب محفوظ تكون إمكانية الوصول إلى القارئ في أي مكان ، إنني مؤمن أن المحلية و الأصالة هي الطريق للعالمية . الشهرة لا تهمني المهم أن تقرأ كتبي و تناقش من قراء عاديين ربما طلاب أو مثقفين في أي مكان . فالشهرة شيء سطحي جدا ، و ربما يكون هناك عمل جاد نمارسه لعدة سنوات و لا تكتب له الشهرة ، إنني اكتب منذ ثلاثين عاما ، و أكتب يوميا ، و لن أبحث عن الشهرة ، و لن اعمل أي شيء من اجلها ، أن ما يجعل أدبك يصل إلى الناس هو العمل الجدي و المستقيم و عدم الانتهازية ، سواء كانت سياسية أو سيكولوجية .

عبد الوهاب البياتي :
اكتب كي لا أموت . اكتب كي أستطيع مقاومة الموت . و هذا يعني الكثير ، فما قلته هو جوهر الموضوع و خلاصته .

حميدة نعنع :
لكي أفسر لماذا اكتب فلا أجد افضل مما قاله تعبيرا عن موقفي ما قاله جوزيف كونراد " ثمة ظلام اكثر سوادا من ظلام الليل هو بلا شك ظلام الصمت " و لأنه منذ ولادتنا محكوم علينا بالصمت بواسطة السلطة كل أشكال السلطة : الأب ثم القابلة ، ثم المجتمع ، ثم النظام السياسي فقد كان علي أن اكتب لكي أمزق هذا الصمت و افضح الخطأ الذي من حولي بهدف خلق عالم اجمل و اكثر احتمالا فلولا الكلمة لكان العالم بائسا و صعب الاحتمال . اكتب لكي أعيش ، أتحمل العيش فالحياة قاسية و الأشخاص من حولنا يفتقدون الحنان الكلمة وحدها هي التي تمنح ذلك الحنان المطلق . اكتب لكي أحارب فكرة الموت الذي نلد و نحن نعرف انه ينتظرنا في نهاية الطريق أو في أي لحظة ما من حياتنا . إننا كالسجناء المحكومين بالإعدام الذين ينتظرون لحظة تنفيذ الحكم بهم و الذي يفسح أمامنا باحة السجن و يؤخر لحظة الإعدام هي الكتابة . هي الغوص في أعماق الإنسان . و الكائنات و العالم من حولنا . إن الكاتب يتغذى من ميتافيزيقيا العالم الذي حوله و يظل مشدودا بخيط غير مرئي إليه ينهك عمره وعبقريته في إعادة تكوينه و من موقعه الذي يوجد فيه يسمح له برؤية بانورامية للأشياء و المسافات و العلاقات و المشاكل . قد يفعل كل ذلك في البداية لترضية غرور الأنا المستفحل ، و مع مرور الزمن تتكون لديه عبر الكتابة عادة استشراف المستقبل ، و تغذية الخيال خياله أولا و خيال من حوله : يحرضهم ، يمنحهم الأمل ، يرحل بهم إلى عوالم قد لا يستطيعوا أن يرحلوا إليها دونه و هذا ما يمنحه الإحساس بالرضى و السعادة . لقد كان الكتاب دائما هم أولئك الذين بإمكانهم أن يستحوذوا على ما يسمى بحب الناس و هم الذين يملكون سحرا لا يقاوم وقدرة فائقة على النفاذ إلى الجوهر الإنساني و الذين يقودون قراءهم نحو رؤيا جديدة للعالم و لأنفسهم . غير أن تلك الخصال ليست لوحدها صالحة للكاتب ففي عملية الكتابة تصبح لذة إبداع نص ما مسألة موت أو حياة ، سعادة أو تراجيديا لا لمن يمارس الكتابة فقط و إنما للبشرية كلها . إن الكتابة بالنسبة لي هي حياتي المفتوحة على البناء والدمار ، على المجد و الانحطاط ، على السعادة و الحزن لذلك ابحث عبر الحروف عن معنى وجودي عن سعادتي أو حزني ، و في كل يوم أجد نفسي أمام تحد جديد في الكتابة قد لا أجده في الحياة . تحد لتغيير مفاهيمي و لغتي و إفساح المكان و الزمان لسواي القادمين من المستقبل أولئك الراكضين من الماضي لكي نشترك جميعا في صنع العالم من حولنا و إعادة ترتيبه بشكل اكثر إنسانية ، إن الكتابة حوار مع العالم لا ينتهي تمنحني الحرية في عالم غريب غير مطمئن تختارني اكثر مما اختارها .


محمد علي اليوسفي :
يصعب تحديد دوافع الكتابة بعد التورط فيها ، في البدء يكون كل شيء انفتاحا ، تكون الكتابة بحثا عن الحلم و الأمل المطلق أيضا . ثم يتعرى كل شيء مع تقدم التجربة و العمر . و تبقى الكتابة لأنها التصقت بنا كوظيفة ( كدور الممارسة ) مهما كانت الخسارة . ثم تلوح لنا عزاء ، ثم رثاء ، لما بعد موتنا عن الكون ، و بقائه رغما عنا . فهل أخطأنا بالمجيء إليه ، حتى نكرر الخطأ و نحن نقترب من مغادرته ؟ الكتابة إخراج لتلك المشاعر و الأفكار إلى حيز بعيد عن التوتر وقريب من لعبة التشكل و الوجود ، أي إفراغ الامتلاء ، وصولا إلى خواء جديد يعاد البحث عن ردمه .. قد تتغير الإجابة بتغير الأمكنة . هل الكتابة مهنة كغيرها من المهن ؟ لكن أين ؟ عندنا أم عندهم ؟ الكتابة عندنا اعتراف مؤجل بالموتى ، إنتاج لا يؤدي إلا إلى الريبة في الطمأنينة المؤقتة . حب ؟ بل كان حبا . تبدأ الكتابة حبا و تنتهي زواجا ، مسؤولية ، و أطفالا و ضرائب ، و جيرانا . فهل تدمر ؟ تدمر البعض كما يفعل السيل أحيانا ، و ينجو كثيرون منه حاملين معهم ما خف وزنه وبخس ثمنه. أنانية؟ كلا. ضياع في الآخرين. تلبيس حيوات الآخرين لك بينما هم يعبرون، يربحون ويخسرون، و أنت تحصي ممتلكاتهم و خسائرهم . رغبة في الخلق ؟ نعم . و الانتقام أيضا . و القتل أيضا . و الديمومة ، و مآرب أخرى . لا بد من سبب لمن يمارس هذه اللعبة ؟ و كل ما سبق ألم يكن أسبابا ؟ أنت لماذا تكتب ؟ هل هي إصبع اتهام هذه ( الأنت ) ؟ ها أنذا أخاف و اسكت .

سميحة خريس :
اكتب . كي تصرخ تلك الكلمات المختنقة في صدري ، اكتب كيما اطرد أشباح الحروف و الرؤى و المعاني ، المتشكلة بشرا و شجرا و عالما يتشظى في دمي يطلب انطلاقا . اكتب كي أتمكن من التنفس و كي تظل صور الأحلام مشرقة و طازجة في ذهني ، اكتب كي أعالج نفسي من التقرحات و الأوجاع . اكتب باندفاع نرجسي كي امسك بتلابيب الشجاعة ، الشجاعة على احتمال الواقع ربما بخلق حياة أخرى موازية له .. اكتب كي امسك بأطراف ثوب السعادة ، إذ خارج الحروف التي اقرأها و اكتبها يصعب الحصول على السعادة ربما نلمحها في الأشياء و في الناس ، في لمسات الحنان تحت أضواء الشهرة ، أو في متقنيات الأشياء ، ربما نحققها دون أن ننالها كاملة ، و لكن في لحظة الكتابة لا يمكن للسعادة أن تفر من تحت سن القلم . يمكنني عبر دروب الكتابة أن أطير ، يمكنني أن احتمي بالعالم الذي صنعته من قسوة العالم الذي أعيشه ، و يمكنني أن ادعي البطولة و اني اكتب للناس و اعالج همومهم ، قد يجدون صدى آهاتهم في كلماتي و لكني في لحظة اعتراف أقول أني كتبت لأعالج همي ، ثم اكتشفت أن همي فاصلة صغيرة في هموم الناس ، اعترف أنني كتبت انصياعا لفرحي و بهجتي الخاصة ، ثم اكتشفت أن أفراحي زغاريد صغيرة في سيمفونية الكون . عندما تخاصمني الكتابة ، و هذا يحدث أحيانا ، فإنها تتركني للفراغ ، قد أعاود التصاقي بالمحيط ، أروح ارقب تحركات الناس و اتابع تفاصيل الحياة اليومية ، و لكني اشعر و كأني أهوى من عل ، و فجأة عندما تندفع نحوي جنيات الكتابة بحلوهن و مرهن أعود للتحليق ثانية . لم أسأل نفسي لماذا اكتب ، و لكني اعرف تماما أنني اكتب لكل ما سلف ، و اضحك في سري عندما يدعي الكتاب انهم يكتبون كمهمة وطنية .. و لعلها حقا مهمة وطنية أن أحرر ذاتي ، فالكتابة تحرير عميق للذات .

زهير أبو شايب :

الكتابة استسلام ، إنها شيء يشبه الحكاك ، نؤديه لأنه يسبب لذة غامضة و لا نتساءل عن جدواه . لكن ، أليست اللذة سببا كافيا للكتابة ؟ إنني استسلم لأعماقي حين اكتب .. استسلم لنمنمة غامضة و حكاك في الروح ، و بذلك يتسنى لي أن أواجه ( الفصام ) الذي يغريني عن ذاتي . في الكتابة ليس ثمة ( أنا ) . ثمة ( ذات ) فقط ، تتمدد حرة ، و تتعرى داخل ذاتها بشفافية كاملة . كثيرا ما تساءلت عن جدوى الكتابة . إنها أشبه ما تكون بالحمل الكاذب . إن مأزق الكاتب هو انه يشعر بأنه لا يفعل شيئا . و كأن الجدوى مقصورة على ما يتجاوز الذات .. على ما هو ملموس خارجنا فقط . لكنني أجد ذاتي في تلك اللذة . صحيح إنني لا ( افعل ) شيئا . لكنني افعل رغبتي في الشيء . إنني موجود قبل الشيء و فيه و في ما وراءه . إن الله لم يفعل شيئا . لكنه قال للشيء كن ، فكان . إن الله ( المتعالي ) يريد فتصبح إرادته شيئا . لكن إرادته لا تتحول شيئا إلا بعد أن يقول ( كن ) . لذا اصبح الكلام مقدسا لأنه متصل بإرادة الله . و أنا أحد عيال الله . أريد و أتكلم و اشتغل في الإرادة و الكلام لكي أتقدس و أتعالى و أغدو كائنا فردوسيا . اكتب أيضا لكي أتجاوز ذاتي نحو الآخرين . الكتابة تطبيق لوحدة الوجود . شكل من العرافة و الكشف اللذاذي ، ادخل من خلاله في ذوات الناس و الكائنات ، و أغدو لا زمنيا ، و أواجه الموت و فكرته . إنني ، من خلال الكتابة ، اطل على ما وراء موتي الشخصي ، و أدرك المتعة التي يشعر بها امرؤ القيس مثلا بعد 17 قرنا من موته الشخصي و هو يتنصت علينا من خارج الزمن و يسمع حديثنا عنه . اكتب أيضا لألامس الموجودات . تجربتي ككائن حي لا تخدمني كثيرا . إنني لا أستطيع أن اصف تجربة الشجرة أو الحجر إلا من خلال الكتابة ، التي تتيح لي أن أتقمص الكون و من كونه . لذا اذهب إلى الكلام الذي ولدت منه الأشياء ، و الكلام الذي ستعود إليه . هناك بعيدا ، ثمة رغبة تتحرك عبر الكلام و تنتج الأشياء . الرغبة تحركني باتجاه تلك اللذة التي تنجم عن الخلق . إن الكلام مقدس لأنه طاقة خلق . انه صمت ممتلئ بالمعنى ، و الوصول إلى هذا الصمت القدسي سبب كاف للكتابة . اكتب ضد السكوت و مع الصمت .. ضد الثرثرة و مع الكلام و أكتب لأنني عييّ .. عاجز عن الحديث ، لذا اتأتئ و أومئ و أصدر أصواتا و إيقاعات لكي اقطف ثمرة المعنى ، و طفولتي تهديني ــ كما يهتدي الطفل ــ إلى الكلام الذي هو قناع الصمت . إنني اكتب . اعلم أنني لا اصنع قشة كبريت ، و استمتع بقدرتي على عدم فعل شيء ، مثلما اشعر بالإحباط لذلك . إن الكتابة كسلي المقدس ، حيث ارغب / أريد ، و أتكلم ، فتوجد الأشياء بقوة رغبتي و كلامي .


علي الدميني :
نطقت كتاباتي الإبداعية المبكرة بلغة انفعال وجداني عاشق لم يكن أمامه للتخارج من احمال العاطفة و آلام الفقد إلا الكلام . كان الكلام ــ و مازال ــ معبرا للتطهير و ملاذا من حرائق اشتعالات الوجد و فراغ الملامسة ، و بالنسبة لي كان اكثر من ذلك حين غدى رسالة حب موصولة تتجسد على صور الصفحات و لا تصل إلى الحبيبة لأنها لم تكن - تفك - الحرف ، فكانت التجربة ألما مضاعفا لكنها كانت إحدى وسائل التنفيس و الخلاص . و في المراحل الراشدة تمت إزاحة ديوان العشق للأنثى إلى الهامش أو العتمة و اندمجت الذات المتشكلة بجديد وعيها و بمجاز أو توهمات مهمات رسالتها في التعبير عن الهم الوطني و العروبي و الإنساني حتى اكتمل بناء نصها كنشيد ذي طبيعة ملحمية متعال عن الانفعال الآني عن المهمش و الجانبي . و الآن و في المراحل الأكثر تساؤلا من مرحلة الرشد الطويلة ، و في خضم ما جرى من انكسارات و ما علق بنا من نياشين الجراح و الهزائم فان سؤال الكتابة الإبداعية يأخذني صوب آفاق أخرى مغايرة لحصيلة التجربة ذاتها و مشاكسا لبعض يقينها أو اقانيم مقدساتها . هكذا أراني التفت إلى هشيم و بقايا جمر التجارب القديمة ، و الى صبوات اشباهها المتأخرة ، و كذلك أرى حدقتي عيني تتسعان لاستعادة أطراف مما أغفلتاه أو حاولتا تهميشه لا لكي أعيد له مجده و لكن لكي اتأمله من جديد . إنني اكتب لكي أحافظ على بقايا شجاعة أخشى عليها من الموات لأن في الكتابة مساحة من الحرية لا يتيحها اليومي و المعاش ، و أحاول أيضا أن اكتب بقليل من الانفعال ، لكي أتأمل الأشياء كما هي لعلي أروي يقيني المتعطش بكتابة رؤية شكاكة أو حكمة ضالة .

المنصف المزغني :
الكتابة كالجنس يقاوم الموت ، فهي تعبير يستلطفه الإنسان الكاتب كسلاح للتعبير عن الذات في مواجهة الخوف من الموت . إني اشعر أن للكلمات مادة تشبه الكرة الأرضية ببحرها و أرضها و جوها و جاذبيتها . كما أن وقوفي على هذه الأرض ، أو سباحتي في بحرها ، أو تطلعي في افقها ، لا يمكن له أن يتم إلا بعد الاستعانة بالكلمات . أحيانا اشعر أن ما اشعر به يفوق الكلمات . و باعتباري لا املك سلاحا غير الكلمات ، فإني أسعى جهد المستطاع إلى إيجاد توازني من خلال الصراع مع الكلمات مستنجدا بالقاموس . و قد لا يفي القاموس بالحاجة ، فاضطر إلى نحت كلمات جديدة كلما ضاق القاموس . و مثل الحب الذي يبدأ مزاحا ، بدأت كتابة الشعر و أنا العب ، حين توغلت في اللعبة ، صارت اللعبة اصعب ، و صار المزاح جدا . و كان علي أن أتوغل في هذه الجدية حتى اصل إلى ماذا ؟ إلى المزاح و السخرية من جديد . باعتباري من أهل الكتابة ، في زمن تعيش فيه القراءة ، شيئا من الكآبة ، و اعتبارا لإصرار أصيل في ممارسة الكتابة ، فإني أرى أن من بين الأدوار التي علي أن أقوم بها ، دور الاحتيال . فأنا أسعى إلى أن اسرق الآخرين من أنفسهم لأبثهم ما في نفسي و لا تقاطع معهم بمختلف المغريات اللغوية والمعنوية، حتى أشدهم إلى ما أنا فيه من هذا الأمر الذي لا مناص منه : " التعبير " . و لقد آمنت بأنه علي أن احسم مسألتي المكان و الزمان . فأنا اكتب منطلقا من ذاتي و شؤوني و هواجسي المحيطة . و من تونس ، و إذا استطاعت كتابتي ، و عليها أن تستطيع تجاوز هذا المكان في اتجاه العالم . كما أن علي أن اعبر عن زماني بتفاصيله و بالوعي الذي استطعت أن اصل إليه ، حتى تستطيع كتابتي أن تتجاوز الحيز الزماني الضيق الذي قيض لي أن أعيش فيه إلى أزمنة أخرى .
...........
........
الشعر هو الخيال الحقيقي الذي يرد كل قارئ إلى نفسه ، الشعر لا يعطى إجابات و لكن يسد نقصاً بداخلنا ، الشاعرة السويسرية سيلفيا دوبوي

منذ بلوغها الثالثة عشرة و هي لم تتوقف عن الكتابة و لم تتوقف عن البحث ، هي الشاعرة السويسرية سيلفيا دوبوي التي استضافها مؤخرا المجلس الاعلى للثقافة في مصر بالتعاون مع المؤسسة الثقافية السويسرية بروهلفيسيا في اطار النشاطات الثقافية و اللقاءات الشعرية الدورية التي تستهدف محاولة التعرف على التيارات الجديدة في الشعر الغربي .
و تعد سلفيا دوبوي واحدة من اهم الادباء الرومانديين الناطقين باللغة الفرنسية في سويسرا ولدت في مدينة جنيف من اب فرنسي سويسري الجنسية وحصلت عام 1974م على درجة الليسانس في الفن الكلاسيكي و كانت تدرس الدراما في نفس الوقت و في عام 1979 حصلت على ليسانس آخر في الادب الفرنسي و علم الآثار اليونانية القديمة و عملت به في جامعة جنيف 1980م و منذ عام 1981 و هي تدرس الادب الفرنسي في كلية Calvin بجنيف و لها عدة مؤلفات في الشعر و المسرح اضافة الى العديد من المقالات الادبية منها انطباعات عن الشعر الصوفي العربي و الغربي ، و من اهم اعماله الشاعرية من مكان لآخر و حفر الليل و وجوه التائهين و اناشيد موجزة اما اعمالها غير الشاعرية فمنها كتاب مشاغل السفر و مسرحيتان هما السقوط الثاني و التعيسة .
و قد حازت سيلفيا دوبوي عام 1986م على جائزة Ramuz و هي من الجوائز الادبية الهامة كما حصلت عام 1997م على جائزة الياسمينة الفضية للشعر الفرنكفوني و قد ترجمت كتبها الى عدة لغات كما صدرت الطبعة العربية لاعمالها الشعرية الكاملة عن مؤسسة جسور للنشر و التوزيع بجنيف ترجمة احمد الدوسري .
و في ندوتها بالمجلس الاعلى للثقافة في القاهرة القت سيلفيا دوبوي محاضرة عن اهم ما يميز تجربتها الشعرية .
تقول دوبوي : يتيح لي الشعر التأمل انطلاقا من المركز الذي هو ابحار في الذات و محاولة للتركيز على جوهر التجربة الحميمة .
و تخلص سيلفيا دوبوي الى ضرورة ان نميز تماما بين الممارسة الشعرية و هي عملية بحث عن شكل و جماليات خاصة عن اي طابع لاهوتي يردنا الى حقيقة موحاة ، فليس على الشاعر و لا في استطاعته ان ينشد اية حقيقة خارج نطاق ذاتيته الخاصة ، فما يقدمه هو خيال حقيقي يرد كل قارئ الى ذاته ، الى سريرته ، الى ذاكرته و حياته ، كل قصيدة تتطلب ان يعيد القارئ خلقها من جديد عند قراءتها فهي لا تردنا الى معنى بعينه و انما الى مستويات دلالية عديدة يدركها كل قارئ و يمنحها معناها بطريقته . و اليوم حينما نعود الى تراث او موروث ما تقول سيلفيا فهذا يعني ان لدينا مخزونا ما في مخيلتنا سواء كان دينيا او صوفيا او فلسفيا او خلافه و كل ما نفعله هو اننا نعيد خلق هذه المادة الشعرية الموجودة بالفعل و نمنحها شكلا و معنى جديدا ، هذا الاجراء حتى التطلع الى العالمية و هذا فيما ارى مطمح كل كتابة شعرية لا يمكن له ان يطمح الى تقديم اية حقيقة مطلقة و لا اي يقين فالقصيدة كما يقول رينيه شار : هي الحب الذي تصنعه الرغبة و الذي يظل رغبة يجب ان تبقى على هذا العطش و ان تجعله تساؤلا دائما بداخلنا ان نتمسك به و بغياب الاجابة ، نتمسك بهذا الصمت الذي يشكل القصيدة . كما يشكل الموت و الحياة ، نتمسك بهذا اللغز الذي تحتويه القصيدة كما تحتوي الثمرة بذرتها .
و تعتقد الشاعرة السويسرية ان الكتابة الشعرية مثلها مثل اية كتابة تجلي شيئا ما ، الذات بالطبع و مساحة اللاوعي بها ، كما تجلي العالم و التجربة الجماعية ، كل هذا يمر من خلال تشكيل للغة ، لان ما تكشف عنه الكتابة الشعرية في الواقع هو اللغز الانساني و رغباته ، لهذا تبينت دوبوي مبكرا جدا ان القصيدة الصوفية بجوهرها و كثافتها و تركيزها و طريقتها في احتواء المتناقضات دون ان تفض اشتباكها و من خلال التجربة الداخلية التي تقود اليها القارئ فيسلم نفسه اليها و يترك القصيدة تحترقه ، كل هذا جعلها تعتبر شكل القصيدة الصوفية نموذجا للشكل الجمالي الذي ارادته لشعرها، لقد تأثرت كثيرا مثلها مثل العديد من الشعراء المعاصرين بالشكل الموجز لـ Haiku سواء كانت صينية او يابانية و التي تحاول من خلال ابيات ثلاثة التعبير عن لحظة تنوير في مواجهة الحقيقية .
و تعود الشاعرة السويسرية لمسألة التأمل انطلاقا من المركز فتقول : نقطة انطلاقي في مشواري الشعري هي خبرة الاشياء الحميمة التي احملها بداخلي و بالتالي فان رحلة بحثي عن المعنى تبدأ بنهاية ما ، بعد عام 1945م و في اعقاب الحرب العالمية الثانية و هيروشيما و ما حدث للعالم من دمار صرح الفيلسوف ادورنو ان الشعر اصبح مستحيلا و ان فكرة وجود ثقافة بعد اشويتز هي مجرد عبث او خديعة . ان وطأة ميراث القرن العشرين رهيبة على الضمير الغربي الذي اراد ان يكون انسانيا و هذا يجعلنا نعيد النظر بصورة جذرية في النزعة الى صبغ الواقع بصبغة روحانية و التي كان يعتبرها بودلير الوظيفة الرئيسية للشعر و كما قال من بعده مالرميه ان الشعر هو المهمة الروحانية الوحيدة .
فاذا قلنا ردا على ادورنو انه مازال للشعر معنى و انه مازال ضروريا فليس لهذا سوى معنى واحد هو انه لابد من استخدام الشعر كأداة تناقش من خلالها مسألة النقص ، نناقش فيها الالم و الهوة الداخلية و تعطشنا الجامح للحب و لابد كذلك ان نسعى للتحول نحو ضياء مازال ممكنا .

ـــــــــــــــــ

جزء من ملف نشره موقع جهات الشعر
اللوحة : كيكي سميث

مارس 04، 2010

فراغ دائري


بعد أن استفاق سيزيف من قيلولته توجه إلى النهر و غسل وجهه و أطرافه و أدرك أنه قد نام أكثر من ثلاث ساعات دون أن ينتبه إلى ذلك .،
استجمع قواه و هو يدحرج الصخرة في اتجاه القمة و زاد من صعوبة مهمته أن المرتفع مليء بالحصى و أن الصخرة التي يدفعها تامة الاستدارة و ملساء بالكامل مما يجعلها تتدحرج تلقائيا نحو الأسفل و لكن سيزيف قرر أن لا ييأس و أن يعيد الكرّة مجددا حتى ينجح في مسعاه .،
عاد سيزيف إلى كوخه في الظلام و من شدة التعب لم يستطع حتى تناول عشائه و ما إن استلقى حتى غلبه النوم .
رأى سيزيف في المنام أن ما كان يدحرجه ليس صخرة و إنما نهد امرأة ضخم و خطرت على باله فكرة ؛ بحث عن حلمة النهد و حين وجدها راح يمتصها فامتلأ فمه بحليب دافيء لزج ، امتص سيزيف الحليب بنهم و كلما امتلأ بطنه به كان النهد يفرغ و حجمه يصغر و بعد ساعة أو أكثر فرغ النهد تماما من الحليب و صار مثل قربة فارغة ، عندها قال سيزيف " الآن يسهل حمله إلى القمة " و لكن قبل أن يتم جملته استفاق من النوم و أدرك أن الأمر لم يكن سوى أضغاث أحلام و أن الصخرة باقية على حالها في انتظار أن يحركها .،
استفاق سيزيف عند الفجر و أحس على غير عادته بفتور في همته و لكن رغبته الملحّة في الوصول إلى القمة تغلّبت في النهاية على ما عداها .،
استجمع سيزيف شتات قوته و دفع الصخرة نحو الأعلى محاولا أن لا تتراجع إلى الخلف ، وصل تقريبا إلى منتصف المرتفع عندما ألتوت قدمه اليسرى و مال إلى اليمين متفاديا رجوع الصخرة إلى الخلف ، تنفس الصعداء لأن الصخرة لم ترتطم به ، و إلا كانت عجنته عجنا و هشّمت عظامه .،
رأى سيزيف في المنام أن الصخرة التي كان يدفعها لم تكن صخرة و إنما تفاحة ضخمة ، فكّر سيزيف أنه إذا ما تمكن من قضم كامل التفاحة فلن يبقى منها سوى النواة و يسهل بذلك حملها إلى القمة ، قضم سيزيف التفاحة و كم كانت خيبته كبيرة عندما تيقن أنها مرّة بشكل لا يطاق و بصق على الفور ما في فمه .،
قرر أن يتذوق جهة أخرى من التفاحة علّها تكون اقل مرارة و لكن تبيّن له أن الجهة الأخرى أشد مرارة و بصق ما في فمه و قرر أن رفع التفاحة بثقلها إلى القمة أهون بكثير من محاولة أكلها .