يونيو 12، 2009

عذراوات الشمس


هناك في أعلى هضاب الأنديس المحاطة بقمم ثلجية توجد وديان خصبة و فاترة المناخ وهي المكان الذي أقام هنود " الكيتشواس " عليه إحدى الحضارات الأكثر غناء وإثارة للفضول في أمريكا القديمة هي حضارة الاينكا.
هناك في أراضى البيرو وبوليفيا توجد بحيرة " تيتكاكا " ، البحيرة الكبيرة على ارتفاع أكثر من 4 آلاف متر فوق سطح البحر ، وبقربها توجد آثار وبقايا مدن طاعنة في القدم ، عمرها آلاف السنين ، كما توجد آثار قلاع وحصون وهياكل ومعابد تثير الإعجاب .
هناك في البحيرة يوجد المكان الذي تتحدث عنه الأسطورة عن الأب رب الشمس ، الذي أرسل اثنين من أبنائه : رجل وامرأة ليقيما أول إمبراطورية الاينكا . فلقد أرسل أبناءه ليعملوا ويحكموا الهنود " الكيتشواس " في ذلك الوادي. وكانوا هم الذين بنوا مدينة " الكوزكو " العاصمة والتي منها، وخلال قرون، امتد نطاق الإمبراطورية ، وتوسع في حكومة جبارة لإمبراطورية الاينكا . لقد أرسل الرب أبناءه ، ليصنعوا الخير للإنسان ،ولكي يحيا بالعمل والنظام والسلام حسب مشيئة الرب الشمس الإله الطيب الذي لم يفرض تقديم القرابين البشرية ، بل أراد أن يرى الناس سعداء. و" الاينكا " أ كثر قدما من " الكيتشواس" الذين طوّروا ثقافتهم في هضبة بوليفيا و البيرو، وكذلك في منطقة " تيتكاكا " حيث لا تزال سلالة ذاك الشعب العريق تعيش هناك . كان في مدينة كوزكو عاصمة الإمبراطورية قصور اً ضخمة ورائعة بمثابة معابد تعيش فيها أجمل العذراوات اللواتي يكرسن حياتهن لعبادة الشمس . عاشت العذراوات المقدسات من غير أن يرين أحداً أو يتحدثن مع أي شخص ما عدا الملكة زوجة الاينكا فقط التي يمكنها أن تزورهن . فلقد كانت عقوبة الموت تنتظر كل من يجرؤ على حب إحدى تلك النساء ، و من أجل أن لا يقدر أحد على الدخول إلى مكان سكناها فلقد تم إحاطة المكان بحصون عالية وحراس أوفياء يحيطون الأديرة حيث كانت عذراوات الشمس .
..............................

.............

.......
على خاصرة خضراء للجبل الذي تغطيه الثلوج كان يخبئ الماشية البيضاء ، لتقديمها كأضحيات وقرابين كان شعب " الاينكا " يقدمها إلى إله الشمس.
كان الراعي الشاب يدعى " اكويا نافا " لطيفا وله مظهر لائق وحسن ، يمضي خلف ماشيته ، وعندما كان يجلس والقطيع يرعى كان سعيداً ، يخرج الناي الذي كان يرافقه دائما ، ويبدأ بعزف موسيقى هادئة وحلوة تجعله يزداد سعادة .
وفي يوم كان فيه منشرحا جدا ،وهو يعزف ، جاءته اثنتان من بنات الشمس اللاتي كن يعشن في أحد قصور المدينة المجاورة ، إذ كان قد سمح لهما بالخروج في النهار كي تتسليان في الحقل ، لكن لم يكن مسموحا لهما الغياب في الليل عن مسكنهما المحروس جيدا من قبل حراس صارمين .
وصلت العذراواتان إلى الراعي وسألتاه عن الرعي وعن قطيع أغنامه ، فبقي "كويا نافا" مذعورا ً، ثم أراد أن يطلق ساقيه للهرب ، فهما إضافة إلى أنهما مقدستان وابنتان للشمس فهما فائقتا الجمال ، لكنهما طلبتا منه ألاّ يخاف ، وعاودتا السؤال عن أغنامه ، ثم آخذتاه من ذراعه لينهض ، وقف الراعي أخيراً و قبّل يد كل واحدة منهما، وهو مندهش من روعتهما.
العذراء الكبيرة فيهما واسمها " تشوكي ييانتو " انجذبت للكلام مع " اكويا نافا " بعد أن بانت خفة دمه وبعد لحظات ودعتاه.
بدأت " تشوكي ييانتو " تتحدث مع أختها عن لطافة وبهجة ذلك الراعي ، واستمرتا بذلك طوال الطريق حتى وصلتا إلى قصرهما حيث رآهما حراس البوابة ، وفتشوهما إذ أنهم يقولون في تلك الأيام إنهم وجدوا إحداهن وقد خبّأت رجلا حبيبا على قلبها وجعلته يمر مخفيا بين الملابس .
دخلت العذراواتان إلى قصر بنات الشمس وزوجاته اللواتي كن ينتظرن أطيب الأكلات المطبوخة في قدور من الذهب الناعم، لكن تشوكي ذهبت مباشرة إلى مخدعها ليكون بمقدورها التفكير منفردة بالراعي ، الذي بدأ قلبها يخفق بالحب تجاهه .
وفي تلك الأثناء كان " اكويا نافا " قد دخل إلى خصّه ليفكر منفردا في المفاجأة العظيمة لتشوكي الرائعة ، لكنه بدأ يشعر بحزن شديد ، فأخذ الناي وعزف ألحانا شديدة الحزن ، جعلت حتى الحجارة تشفق عليه ، ثم غنّى وهو يبكي :
" آه ! آخ! منك ! أيها الراعي البائس ! أيها العاجز عن كل شيء .. آه! منك! لا تقدر على رؤية حبيبة قلبك ، ولو رأيتها فإن حبك سينفضح ، وسيقضى عليك وعلى حبك ، وسينتهي الحب بالموت "
واستمر يغنى بحزن كبير جدا حتى غفي ، لكن أمه العجوز البعيدة عنه فلقد حدست بسبب عذاب ابنها ، وراحت تهيء نفسها للسفر إليه ، فحملت معها سلة مزركشة وفاخرة ، وبدأت تمشي في الجبال حتى وصلت إلى الزريبة التي يسكن فيها ابنها.
ثارت عواطف الراعي عندما شاهد أمه ، وأخذت هي تواسيه وتقول له إن أحزانه ستزول خلال بضعة أيام ، ومن أجل ذلك ذهبت تحضّر له طبخة السلاحف ، الأكلة الموصوفة للحزن عند الهنود ،وبينما هي تطبخ رأت بنات الشمس قادمات باتجاه الزريبة ، ثم جلست الاثنتان عند المدخل ترتاحان من التعب وعندما شاهدتا المرأة العجوز في الداخل طلبتا منها شيئا للأكل فقدمت لهما صحنا من السلاحف ، أكلتاه بشهية كبيرة ، بدأت تشوكي تنظر حوالي الزريبة وإلى داخلها برغبة كبيرة علّها تعثر على" اكويا نافا " ، لكنها لم تجده لأنه في لحظة وصولهما أمرته أمه أن يدخل في السلة التي أحضرتها معها ، ( يقول الهنود إن ذلك كان ممكنا في تلك الأزمان ) ، ظنت تشوكي أن حبيبها الراعي يحرس القطيع ، لهذا لم تسأل أمه عنه وعندما رأت السلة قالت:" ما أجملها "!! وسألت : لمن هذه السلة ؟ فأجابتها العجوز : إنها لها وقد تركها لها والداها كميراث ، فهي سلة فاخرة جداً ، وأضافت العجوز إنها تقدمها وبنفس طيبة كهدية لها ، وبإمكانها أخذها معها إلى القصر ، وبعد قليل ودعت بنات الشمس أمّ الراعي ، واتجهن نحو المرج تحمل تشوكي السلة بيدها وفي عينيها شوق لرؤية راعيها هنا أو هناك فهي لم تره في زريبته.
وصلتا إلى القصر، وعند المدخل فتشهما حراس البوابة ولم يجدوا شيئا معهما عدا السلة التي لم يكن يخفيانها ، وبعد العشاء أخذت تشوكي سلّتها الجديدة وذهبت إلى مخدعها ، وهناك بدأت تبكي ، وتتذكر الراعي الذي أحبه قلبها ، لكنه لم يدعها تذرف الكثير من الدموع عندما أخذ " اكويا نافا " يناديها باسمها ، فارتعبت وهلعت ، لكنها صارت تذرف دموع الفرح عندما رأت حبيبها الراعي ، وراحت تسأله كيف دخل إلى هناك ؟ فأجابها بالحقيقة عن دخوله في السلة التي جاءت تحملها.
عانقته تشوكي و وضع " اكويا نافا " رأسه على رجل تشوكي ، التي راحت تمسّد له شعره بلطف وحنان ، وتنظر إليه بعينيها الرائعتين الساحرتين حتى مطلع الفجر ، عندها دخل الراعي مرة ثانية إلى السلة ، وحبيبته ابنة الشمس تنظر إلى تلك المعجزة .
وبعدما خرجت الشمس وقبّلت الأراضي كلها ، خرجت تشوكي من القصر إلى المروج وحيدة ، تحمل السلة، وفي أحد الكهوف في الجبال جلست مع حبيبها مرة ثانية، لكن حدث أن رآهما أحد حراس القصر الذي كان يتبعها ، وشاهد كل شيء فبدأ يطلق الصيحات ، يستدعي الحراس الآخرين فهرب الراعي وحبيبته إلى الجبال القريبة من مدينة " كالكا " ، ومن شدة التعب نام الحبيبان وعندما استيقظا كانا مرعوبين من الموت المحتم الذي ينتظرهما كعقاب ، فنهض الاثنان يرتعدان خوفا ، أخذت هي في يدها فردة من صندلها ، ونظرا إلى الناس في " كالكا " وصارا يشعران أنهما يتجمدان في مكانهما ، ثم صارا كتلة صلبة كبيرة وضخمة لقد أخذا بالتحول إلى حجارة .
اليوم يمكن رؤيتهما من " كالكا " ومن مناطق أخرى ، لقد صارا جبلين كأنهما تمثالان يذكران بالحبيبين الراعي وابنة الشمس .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق