سبتمبر 14، 2009

يلامس خيط اشتعاله .. طارق العربي

اللوحة : سيروان عارف

" في الصَلاةِ الخَامِسة ، سأَتذَّكر المرأةَ التَّي
كانت تجلس بجانِبِي فِي التَّاكسِي ،
سأتذكر كَيف نامت عَلى كَتِفِي
وسأُقول لربي ، ربُما هِي مِثلي تَعبة مِن يّوم عَملٍ طَويل
فَلتغفِر لهَا "

" 1 "

يباغتك بموسقة ليست جديدة على النص الشعري ولكنها إذ لامست روحه تحولت إلى مس من الجنون ، هو كذلك عندما يكتب حسه و حس بلاده .. يكتب رام الله و نابلس و القدس .. يكتب ليس لها و لكن للإنساني بها .. لم يكتب الحجر و المقاومة كأبناء جيله من شعراء فلسطين و لكنه حاول الخروج من ذلك الإطار الضيق كثيرا على لغته الرحبة و عن موسيقاه التي تجدل الروح مع الجسد و كأنه يروي الأرض بمفهوم ما الجسد إلا لفافة الروح و ما الروح إلا لفافة الجسد ، يكتب و يكتب ولا يوقفه عن نصه إلا ذلك القلق المشروع حول مستقبله بموازاة مستقبل أرضه .. يكتب ليس حبا في الشعر و لكن يكتب حبا من الشعر فيه ، هكذا أراه ، قد يختلف البعض معي قد يروا ذلك مبالغة . و لكن ذاك رأيي الذي كونته عن أحد أبناء جيلي الذي خرج لتوه من رحم الانتفاضة الثانية ، خرج مرهف الحس يعجن اللغة داخل آنية جديدة و مختلفة عن ذائقة الكتابة للأقصى و القضية من الخارج بل غاص داخل سر القضية لم يكتب بمفردات قصيدة المقاومة و التي أصبحت كنموذج و إطار محدد برمزية الحجر و الطفل و الشهيد ، اعتنى بالإنسان و ما يحمله من خير و حب و تسامح للعالم من حوله ليحول العالم إلى إنساني يمكّنه أن يتصدى لعوامل محو الإنسانية .
طارق خليفة ، طارق العربي بلغة المجاز ، فقد اختار منذ أول نص يكتبه عندما كانت اللغة مراهقة ، اسم طارق العربي ، لم يختر حقيقة اسمه لكنه وجد نفسه يمضي نصه الأول باسم طارق العربي فصار بيننا طارق العربي ، يكتب ككنعاني يأتي من القرون الأولى ، عندما غاض الماء و أصبحت الأرض طينا و جف ، جاء كعربي يحاور الأرض منذ نوح عليه السلام ، كتب كعربي يعشق الحياة و يكرهها ، قلق حول مصير أرضه ، حول مصيره ، لا يكاد يدخل في تجربه إلا و خرج منها و بها بنص / قصيدة ، حقيقة مبهر بالنسبة لي على الأقل ، و آخرين ، هو طارق الذي سيصير عربي أبدا .
في الشعر ذلك البياض الذي ليس بياضا نجد إدراكا جديدا يعيد تشكيل مدركات الواقع المأسوي للقضية الفلسطينية عند طارق العربي فقصيدته استبدلت الملموس بالمجرد مضفورا بإيقاع مراوغ أحيانا و مسالما أحيانا أخرى ، إيقاع قد يولد داخلك رقصا و إيقاع قد يولد داخلك إحباطا مشحون كلية بترجيعات الموسيقى الداخلية ليصل نص طارق نهاية إلى تجربة صادمة ، مباغتة .. يصبها في إناء لغوي تحسبه مستهلكا لكنه في جملته الشعرية يتغير جوهر المفردة كيفما تريدها روح طارق الشاعرة ، إناء اللغة يتسع مع طارق في كل نص حتى سيصل في النهاية إلى قاموس خاص .

" المُجنَّدة صَباح اليُوم دقَقَت فِي عَدسَّاتِي بَدلا مِن هُويتِي
ابتَسمَّت لِي و قالت
you put nice sunglassesHave a nice day ,,, go
فقلت : شُكراً مرتين
مرة للعدسات
وثانية لموظفة المبيعات التي اختارتها "

تنساب لغة اليومي و العادي لتعبر عن إنسانية اللحظات الحرجة في يوم الفلسطيني المحاصر دوما بالحواجز ، الحواجز التي تمثل في نصوص طارق مفردة صدارة ، متكأ مستمر ، فهو دائما يحكي معاناة الإنسان في أرضه ، يحكيها عند الحواجز ، في عمله .

" فِي الطَريق إِلى نَّابِلس أستسلم للنُعَاس الطَّرِي
أُحلم بِامرأَةٍ بيَضَاء .. أو أفكِرُ بِطعَام أُمِي ، أو بابن أُختِي
أو بصديقتي التي لا تَجِيبُ هَاتِفي
أو بـ " مود " الجُنود على الحَاجِز
أو يباغتني السؤال فجأة ، ماذا يفعل المستوطن في الطريق
إلى تل أبيب "

ولا ينسى طارق الآخر الذي يستوطن أرضه ، فهو يتعامل معه على إنسانيته ، ينسى كثيرا أنه محتل لكنه يتذكر في أحيان أخرى كثيرة ، لكنه يفكر فيه كإنسان و يقارن بين يومه و يوم المستوطن ، هو هنا يريد أن يحادث الأرض و السماء معا ، لكن الإنسانية تلك الكلبة الباردة لا تجيبه في الأرض أو السماء ، و سيظل سؤاله الأبدي حول ماهية الإنسان و مستقبل إنسانيته في أرض امتنعت فيها كل السبل للحياة كبني آدميين ، هو مباشر لدرجة المجاز ، و مجازي لدرجة المباشرة ، فطري يكتب ببراءة لم تكن سمة كثير من الشعراء ، يكتب أرضه بفطرة طبيعية .

" هناك سألتقي أَنا وصَدِيقِي .. في مطعم Sengaria
سَأبحث عَن معَنى لها بِالعرَبِية ، سَتَجلس سمَراء تدخن وتشرب الويسكي
أو كاس نبيذ لا ادري .. لا اعرف الَفرق بين الويسكي والنبيذ
جميعها " خمر"
سأسأل صَديقِي عَن المعنَّى ، و أزعج صديقة أخرى بِذات السُؤَال
سيجيبني صديقي بِـ I don’t know
وستسألني صديقتي " هل هُو مَقهى فِي بيَروُت "

سَأجُيب... خَسرنَا الكَثيِر أصدقائي
خسرنا الكثير "

هو كذلك فعلا لا يكاد يفرق بين الويسكي و النبيذ ، فكله بالنسبة لطارق خمر ، هو لا يبحث أبدا عن التفاصيل الحياتية بقدر بحثه عن الكليات التي ينطلق معها لتصوير الجزئيات لكن بتقنية أخرى بعيدة كثيرا عن روح القصيدة الاعتيادية ، هو يكتب ليصل لصورة كلية يتفجر معها النص ليصل المتلقي لحقيقة لم يقصدها طارق على الإطلاق فطارق يكتب و فقط لا يشغله الفهم ، لا يشغله أيضا التنظير لقصيدته ، هو ينطلق مع كل نص ، يحترق حتى النخاع ليخرج نصه أخضر بين يدي متلقيه / محبيه ، يفهم الحياة بمنطق " خسرنا الكثير أصدقائي .. خسرنا الكثير " .

" 2 "

يفجر طارق - صديق نصه - المباغتة ليس عن طريق الصدفة و ليس عن طريق الحرفة ، فمباغتة الجملة الشعرية لديه ناتجة من ديناميكية المفردة و التشكيل البصري للصورة الشعرية ، هو يكتب لأن الجملة تلح عليه و تقتله ، هو في الأصل لا يريد أن يكتب ، لا يبحث عن الشعر ، لكن إلحاح النص يولد داخلة طاقة تختزل الكثير مما تود أن تقوله اللغة لذا يخرج النص حيوي ممتلئ بأسباب الحياة ، قد يقتل طارق نصه كثيرا ، يعمل على تشويهه لكن في النهاية وبعد كل هذا التشويه يلح النص الحقيقي فيخرج عاريا إلا من لغة مازلت قيد التجريب ، التجريب الذي من حقه أن يستمر فيه حسبما يريد ، ليصل في النهاية إلى لغة تشف روحه و تصل بها إلى قارئه الذي في النهاية لا يهمه غير الشعر ، لغة قد تنهار مستقبلا لتتحول إلى إشارة ، ربما .

" نَسيِتُ الكَلام يَوم الخُروج ، كيف خَرجَّنَا
ولمِاذَا .. وإلى أين .. كنتُ ظلا لم بولد هناك ، ولدت قرب المعنى ، أقفز من حُفرة إلى حُفرة
ومن مِعنَى على معنَى ، أودع ما تَبقَى لِي مِنَها وأقول عَليهَا السَّلام "

يلح طارق على لغته للخروج من قاموس الشعر العربي قبله ، يبحث عن ورقة جديدة فقد امتلأت ورقة الشعر العربي بقاموس الكلاشيهات الثابتة و وخم العادة في جملة الشعر لتصل في النهاية عند الكثيرين حتى من أبناء جيله إلى نوع من التقليد و النقل ، فنموذج محمود درويش مثلا الذي سيظل اتهام طويل المدى لهذا الجيل و الأجيال التي تلاحقه نموذج بقدر شاعريته لكنه نموذج قام على ترجيعات المفردة ، فدرويش ذلك الشاعر العبقري قد استنزف كل معاني المفردة لدرجه أنها قد وصلت للخروج عن معناها في بعض الأحيان ، لكن طارق الذي أيضا لا يسلم قلمه من النموذج الدرويشي يحاول بكل جدية الخروج بقاموسه الخاص و بناء جملته الخاصة .

" لا تصدقي حكمة الفَلاسفِة ،
وان كان لا بد من شرها فَصدقِي العَاطِفة .. والكَّلام لَيس إِلا شَغف المُؤلِف
بِإعجَابِ المرأة العابرة أو شغف مَجنُون مِثلِي
بِالبَحث عَن الوَطَن العَادِي
و المرأة العاشقة "

ليس عيبا على من قرأ درويش أو دنقل أو البياتي أو أدونيس أو الماغوط أن يتأثر بهم لكن الأهم أن يحاول الخروج عن طوقهم و هذا ما يحاوله طارق العربي في كل نص ، يحاول أن يقتل في داخله كل الشعراء العرب لينقّي لغته من قواميسهم ، إن إنتاج جملة خاصة بروح شاعر هو الموهبة حقا ،

" الحَدَاثَة ، ثرثرة عَاشِقين اثِنين عن اللاشيء بِجانبِ النَهر ، كَلام اثِنين
غَريِبين لا ألفة بَينَهمَا ، أو خطأ بقصيدة لا ظِل لهَا
والحداثة شِعر
للبحرِ مُؤخِرة ، وللقصيِدة - نهيِق حمِار فِي المَزرَعة -
و الكلام لِشاعِره "

فالوصول إلى جملة خاصة لغة و موسقة و صورة هو الإبداع الخاص بكل شاعر ، فطارق يحاول للوصول إلى إبداعه الخاص .

" مشكلة هي اللغة \ بين سلفيت و تلفيت خطأ في اللغة \ باب الشمس \ دير الأسدهل تلفيت مدينة أم قرية \ هذا سؤال ساذج لا بُد مِنه \ هذا خطأ فادح في القراءة \باب الشمس \ دير الأسد \ كَيف خَرجنا ولمِاذَا وإلى أَين "

و تصبح اللغة عند طارق جزء من الأرض فالقصيدة / النص هي عبارة عن قطعة من أرض فلسطين التي يكتبها طارق كما أسلفت بكل إنسانيتها لتتحول اللغة إلى مخلوق متحرك كامل .

" 3 "

هو يجرب موسيقاه أينما وجد الإيقاع ، يحاول أن يجري تغييرا على إيقاع السرد عن طريق استخدام أزمنة مختلفة " نسيت ، ولدت ، أقفز ، أقول " بجانب تلك المحاولة يحاول أيضا على إنتاج إيقاعه المراوغ بين تفعيلات الخليل و بين النبر ، ينجح في الوصول إلى موسيقاه و أحيانا قليلة لا ينجح فقد تسبق الموسيقى اللغة أو الصورة ، و قد تتأخر عنهما .

" لا أكتب القصيدة ، يكتبها إيقاع الحب بِمشيَةِ عَاشِقيَن
اثَنين يمران عن الحَاجِز قَلقيَن ، لا يخيفهما
الجُنود ولا النظرات العَابِرة ، يقلقهما غدٌ
تَأَخر .. و شجرة لوز مَاتَت من شُح المَّاء "

لكن عندما ينجح طارق في صنع موسيقاه تتحول المقطوعة الشعرية إلى موسيقى خالصة ، تنصهر اللغة و الصورة إلى إيقاع يتحرك بداخل قلبك لينتج نشيد طارق الخاص .
إن الإيقاع في قصيدة طارق يتحقق عندما نربط بين إيقاع الكلمات و إيقاع الدلالة و تضافر هذين النوعين من الإيقاع هو الذي ينتج الطابع البنائي للشكل ، إيقاع يصدر من علائق الأصوات و الصور و طاقة الكلام الإيحائية بجانب تحقيق نوع من التجانس الصوتي بين الكلمات و الحروف .
المشكلة الموسيقية الحقيقية التي يتعرض لها نص طارق هو عدم الثبات على طابع موسيقي ، صحيح أن تنوع الإيقاع يثري النص لكن على الشاعر أن يضع ولو إطار موسيقي هلامي يعمل بداخلة ، طابع مطاطي على الأقل ، فمشكلة الموسيقى عند طارق هو ذلك التنوع بين النبر " أوزان عروضية تستكشف نظام إيقاعي أصيل في اللغة العربية " و موسيقى الخليل بن أحمد و الإيقاع الداخلي الذي ابتكرته قصيدة النثر ، على طارق من وجهة نظري أن يضع إطاره الإيقاعي الخاص و يبحث عنه و يجربه .

" لا سَبيل لي إِليكِ ، لا النهر يدفعني لا سَمائي .. لا جَواز سَفر و لا هُوية تَسلمُ
مِن فَوضى الرِيح ، ما بيني وبينك قمرٌ نُحاسِيٌ يَطل مِن زُرقةِ السمَاء على الجَياع
المتسولين عَلى سَنابِل القَمح ومجلس الأمن
نَهر من وَقت لا َيمتدُ ولا ينَقصُ "

أظن أن الشعر لا يأتي أساسا عند طارق سوى من التناقض ، لكن السؤال هو كيف يظهر هذا التناقض من دون فجاجة ، يلجا أحيانا إلى الحكاية أو متابعة التفاصيل أو التاريخ الشخصي من أجل محاولة أن تصبح القصيدة واحدا وليس نسيجا لغويا فطارق غير مشغول بصياغة بناء لغوي فقط لأن اللغة لا تخرج بقرار إرادي لكي تكون ممتعة ، فالنص عند طارق ابن التجربة و يعبر عن رحلته الشخصية الحياتية وصولا ليصبح الكتاب وطن الشاعر .
المهم نهاية أن لا يتكلس طارق العربي و يبقى يكتب بفطرته ، يكتب نصه ليعبر عن إنسانيته و إنسانية أرضه و إنسانية الشعر ، فطارق الذي يكتب قصيدة البروق و الحدوث هو نفسه الذي يكتب قصيدة الرؤيا و هذا ما يطمئن قارئه على شاعر سيظل يجرب حتى النهاية و يكتب ، و قريبا ننتظر كتابه الأول حاملا رؤية مشروعة حول الشعر و الأرض و الإنسان .