يونيو 15، 2010

مضاوي الرشيد ، أميرة حائل المنفية


«مَن يبنِ له بيتاً يصبح نافذة أو باباً» قال بوذا، أمّا مَن يخسر البيت، فلم يقل عنه بوذا شيئاً. في الإنكليزية، تُستخدم كلمة home بمعنى الوطن، وهي كذلك البيت. لكم يشقّ ذلك في العربية! فكيف نسمِّي أوطاننا بيوتاً، إذا لم يكن بمقدرونا أن نسكنها، وإذا لم تكن لنا سكناً؟ وإن كانت مضاوي الرشيد قد «وجدت في الكتابة وطناً لم أتركه، ولن يخرجني منه أحد»، فإنّها بوجودها في وطن افتراضي تجدِّد اغترابها من حيث لم تحسب.
مضاوي الرشيد أولاً معارضة للنظام السعودي، اشتغلت بجديّة على تقديم مفاتيح نقديّة لفهم تركيبة نظام آل سعود. مضاوي طلال الرشيد أيضاً ابنة أحد أمراء قبيلة شمَّر، حكَّام حائل حتى سقوطها على يد عبد العزيز آل سعود في 1921. في ذلك العام، استوطنت عائلة الرشيد الرياض، وكان هذا خروجها الأول. لمّا اغتيل الملك فيصل بن عبد العزيز على يد ابن أخيه فيصل بن مساعد، ووجهت اصابع الإتهام نحو آل الرشيد بتخطيط الاغتيال. «اتهم النظام والدي خال الأمير فيصل بتدبير مؤامرة لقتل الملك. والحقيقة أن فيصل كان يأخذ بثأر أخيه الذي قتله النظام السعودي سنة 1964، لأنّه كان متديناً ويرفض الانفتاح».
خرج طلال الرشيد من السجن، بينما ظلّ شقيقه أسيراً لعامين، وضيّق آل سعود الخناق على العائلة الشمّرية، التي حزمت متاعها وهاجرت إلى لبنان سنة 1975. لسوء الحظ، اشتعل فتيل الحرب الأهليّة اللبنانية في العام نفسه. لا يمكننا الحديث عن مضاوي الرشيد، المعارضة وأستاذة الاجتماع السياسي في الـ King's College إحدى أكبر كليات جامعة لندن، من دون التطرّق إلى تاريخها العائلي. حقيقة تحيلنا إلى أنّها سليلة عائلة كانت تحكم بلاداً شاسعة في زمنٍ ما، وابنة قبيلة «شمّر» الممتدة بين الجزيرة العربية والأردن والعراق وسوريا. لكن هل يعني هذا أنّ مؤلفة «مملكة بلا حدود» (Columbia/Hurst ــ 2008) معارضة فقط لأنّها ابنة العائلة المخلوعة؟ تؤكد مضاوي: «لا يمكن للتاريخ أن يعود». لكنّ مواقف صاحبة «تاريخ العربية السعودية» (دار الساقي) تستند إلى التالي: «أتكلم باسمي وأقول إن هذا النظام السعودي كان له أثر سيء في النظام العربي عموماً». وبحسب مضاوي، يستخدم النظام ازدواجية معقدّة تستند إلى تجنيد الدين سياسياً واستغلال الثروة النفطية «لإبادة روح المقاومة عند المجتمع السعودي، والقضاء على روح التصدي، وخنق أي محاولة مشاركة سياسيّة».
ومضاوي، بما تكتبه وتحاضر به في جامعة لندن وجامعات أوروبية وأميركية تزورها، ما زالت تتمتع بالصفات الأصيلة في بداوةٍ تعتزّ بها. المشاكسة العنيدة تشارك في نسج وعي سياسي جديد، رغم محاولات النظام لتكميمها، فاتصالات التهديد بلغت والدها منذ ألّفت كتابها الأول ونالت عنه درجة الدكتوراه سنة 1989 «السياسية في واحة عربيّة» (دار الساقي).
منذ عام 1982، تقيم الرشيد في لندن، أي منذ اجتياح بيروت. «خرجت بعدما فقدتُ وطني الأول وحسبت أنني وجدت في لبنان وطناً آخر». تشتَّت أفراد العائلة بين دول عدَّة بسبب الحرب من جهة، والخوف على الوالد من جهة أخرى، وخصوصاً بعدما اختُطف ناصر السعيد ـــ أول معارض لنظام الحكم في السعودية ـــ من لبنان. كانت مضاوي الوحيدة الرافضة لخيار الهجرة، ظلَّت تدرس في مدرسة International college وتقيم في رأس بيروت مع جدتها لأمّها اللبنانية الأصل. لم ترحل «إلا بعدما وصل الجندي الإسرائيلي إلى شارع الحمرا».
تخرّجت مضاوي من جامعة كامبريدج. كان الوضع في لبنان يزداد سوءاً، وعلاقة العائلة بالنظام آخذة في التدهور. هكذا ظلّ أمامها خيارٌ وحيد، البقاء في لندن، حيث تزوجت بريطانيّاً، وصارت أماً لطفلين. عن اغترابها تقول:«فُرضت عليّ الإقامة في بريطانيا. ما كنت لأستطيع تأليف كتبي هذه في بلادي». وحين أطلّت للمرّة الأولى على قناة «الجزيرة» سنة 2003، سحب منها النظام جواز سفرها، فأدركت تماماً أنّ «الاغتراب حقيقة تفرض نفسها بقوّة»، وقرَّرت تجنيد هذا «الشعور الممزوج بالغضب لإنتاج شيء يغيّر الوضع... علّني أستطيع العودة يوماً ما».
ورغم أنّ أهل مكّة أدرى بشعابها، كثيراً ما كان يجد الطلبة البريطانيون صعوبةً في تقبّل تلقي تعليمهم على يد «امرأة سعودية»، بما يحمله التعبير من نمطيّة. لكن ما معنى أن تكون المرأة سعودية الآن؟ تتنهد مضاوي طويلاً، وتعود للحديث في السياسة. «المرأة السعودية مصادرة من النظام، وممن يعتبرون أنفسهم رجال الدين... وهي كذلك مصادرة من تيار ثالث يسمّي نفسه ليبرالياً كأن ليس لديه معركة أخرى يخوضها غير مجادلة المطاوعة في أمور المرأة».
وترى الرشيد أنّ النظام السعودي خلق مشكلة بين شرائح المجتمع، بسبب ما يسمّى «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» التي يموّلها ويغدق عليها. هو يحاول أن يبدو بمظهر المنفتح أحياناً، ليرضى عنه الغرب الذي «اعتبره بعد 11 سبتمبر مصدّراً للإرهاب». مرةً يعيّن امرأة وكيلة وزارة، أو يسمح بدخول رواية ما، أو حتى يعطي جائزة لكتاب مهم في الشيوعية. وهو بذلك يدخل الفكر الذي يعتبره رجال الدين فاسداً، هكذا «استطاع التملُّص من المسؤولية، وأدخل شرائح المجتمع في صراع داخلي أشبه بالحرب الأهلية».
هذه العلاقة الملتبسة بين الدين والدولة، تجعل مضاوي تصف النظام بأنّه «يظهر نفسه إسلامياً، لكنه يمثّل تطبيقاً سطحياً ومبتذلاً للعلمانيّة. يحكم بالشريعة في معاملات الزواج والطلاق والإرث فقط. أمّا في سياساته الخارجية، فيضع الدين جانباً»، لأنّه آخر همومه. تدلّل على ذلك بالاستناد إلى العلاقة التحالفيّة الوهابيّة السعوديّة التأسيسيّة التي تشظّت في ما بعد، ما أدى إلى نشوء التيارات الجهادية السلفيّة (هو بحث تناولته الرشيد في كتابها «مساءلة الدولة السعودية» ـ دار الساقي ــ 2009).
تعتقد الأكاديميّة التي تفضّل الكلام عن شبه الجزيرة، أنّه لولا الوهابية، لما وُجدت دولة سعودية في الأصل. فقد جرى تقسيم العمل بين الوهابية والنظام. تترك الدولة الشأن الديني للوهابية التي ينبغي أن تناصرها وتهتم بالشأن الاجتماعي، وبالمقابل يكون الاقتصاد والسياسة حصّة آل سعود. تتململ الوهابية أحياناً، تحاول استعادة سلطتها على الدولة، وهنا يصطدم الاثنان. مثلما حدث في 1979 حين احتل جهيمان العتيبي الحرم المكّي، «كل ما يحصل منذ ثماني سنوات هو في حقيقته شكل من أشكال هذا الصدام».
هذه هي الأميرة مضاوي طلال الرشيد أستاذة علم الأنثربولوجيا الديني، صاحبة تسعة كتب في علم الاجتماع السياسي، ومئات المقالات في صحف عربية وإنكليزية. تتمتع بذهن متوقّد، وقدرة على تفنيد التاريخ والبناء عليه والاستشراف من خلاله. لديها علاقة وطيدة مع المعارضة السعودية في الخارج، وبوقوفها على مسافة واحدة من الجميع، كانت من أول الداعين إلى إيجاد مساحة مشتركة تلتقي فيها المعارضات المختلفة دينية سلفيّة كانت، أو شيعيّة، أو وطنيةّ تطالب بالملكيّة الدستوريّة. «لسنا في مرحلة تحتمل توجيه سهام بعضنا إلى بعض، بل لا بد من توحيد الصف من أجل تغيير الوضع السياسي في السعودية بما يناسب طموحنا كبشر نعيش في هذه الأرض، وننتمي إليها».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق