أغسطس 30، 2011

ما هي السلطة - ميخائيل باكونين


ما هي السلطة
ميخائيل باكونين

تعريب: جوزف أيوب

ما هي السلطة؟ هل هي قوة حتمية للقوانين الطبيعية التي تعبر عن نفسها في روابط ضرورية وتعاقب للظواهر في العالمين المادي والاجتماعي؟ في الواقع، الثورة على هذه القوانين ليست فقط محرمة – بل حتى مستحيلة. قد نسيء فهمها أو حتى لا يمكننا معرفتها على الإطلاق، ولكننا لا نستطيع أن نعصيها؛ لأنها تشكل الأساس، وهي الشروط الأساسية لوجودنا – هي تحيطنا، تتغلغل فينا، تنظم جميع تحركاتنا، أفكارنا وأعمالنا، حتى عندما نعتقد أننا نعصيها، لا نظهر سوى سلطتها المطلقة.

نعم، نحن وعلى نحو جازم عبيد لهذه القوانين. لكن في مثل هذه العبودية لا وجود للذل، أو بالأحرى، إنها ليست عبودية على الإطلاق. في العبودية يُفترض سيد خارجي، وهو مشرّع من الخارج- يصدر الأوامر، في حين أن هذه القوانين ليست خارجه عنا، فهي متأصلة فينا، بل تشكل وجودنا، وجودنا كله، جسديا، فكريا، وأخلاقيا، نعيش، نتنفس، نفعل، نفكر، ونرغب فقط من خلال هذه القوانين. بدونها نحن لا شيء، لا نكون. من أين يمكن إذن، أن نستمد القوة والرغبة للتمرد عليها؟

في علاقته مع القوانين الطبيعية – حيث تبقى حرية الإنسان ممكنة، وذلك بالإقرار وتطبيق هذه القوانين على أوسع نطاق – انسجاماً مع التحرر (الفردي والجماعي) من الأنسنة التي يسعى إليها الانسان. بمجرد ادراك هذه القوانين، تمارَس سلطة لن يتنازع فئة من الناس عليها. على المرء، مثلاً، أن يكون الإنسان إما أحمقاً أو لاهوتي او على الاقل ماورائي، قانوني أو برجوازي اقتصادي لكي يتمرد على القانون. عليه أن يمتلك ايمان لكي يتصور أن النار لن تحرق والمياه لن تغرق، فيما عدا، يمكن اللجوء إلى بعض الحيل التي تأسست بدورها على بعض القوانين الطبيعية الأخرى. غير أن هذا التمرد، أو بالأحرى، هذه المحاولات والاهواء الحمقاء للتمرد هي أمر مستحيل، هو بالتأكيد استثناء لما هو بشكلٍ عام، اعتراف لفئة من الناس بالحكومة في حياتهم اليومية – وهذا هو، مجموع القوانين العامة المعترف بها عموما – بطريقة شبه مطلقة.

لسوء الحظ أن عددا كبيرا من القوانين الطبيعية، التي تأسست من قبل العلم، لا تزال غير معروفة لدى الجماهير، وذلك بفضل سهر حكومات الوصاية تلك التي وجدت، كما نعلم، فقط من أجل خير الشعب. هناك صعوبة أخرى – هي أن جزءاً كبيراً من القوانين الطبيعية مرتبطة مع تطور المجتمع البشري، التي هي إلى حد بعيد ضرورية، ثابتة، مهلكة، كالقوانين التي تحكم العالم المادي، لم تنشئ ويعترف بها من قبل العلم نفسه على نحو واجب.

إن أُدركت هذه القوانين – لمرة واحدة – من قبل العلم، وبواسطة العلم تحولت إلى وعي لدى كل انسان (من خلال نظام واسع في التعليم والارشاد الشعبي) وسيتم حل مسألة الحرية تماما. حينئذ يجب على السلطات الأكثر عناداً أن تعترف بأن لا حاجة إلى تنظيم سياسي أو لوضع تشريعات. ثلاثة أشياء مرتبطة بهذه السلطة: سواء انبثقت من إرادة سيادية أو من تصويت لبرلمان (انتخب بالاقتراع العام)، أو حتى مطابقتها لنظام قوانين الطبيعة – التي لم تكن يوما كذلك ولن تكون أبداً – هي دائماً قاتلة ومعادية لحرية الجماهير حيث أنها في الحقيقة تفرض نظاماً خارجياً، وبالتالي قوانين مستبدة.
إن حرية الإنسان تستند فقط على: أن يطيع قوانين الطبيعة، لأنه هو نفسه يعترف بها على هذا النحو، وليس لأنها تفرض نفسها عليه بأي ارادة خارجية، الهية أو بشرية كانت، جماعية أو فردية.

لنفترض أكاديمية تتألف من معظم ممثلي العلوم؛ وأن هذه الأكاديمية مكلّفة بتشريع وتنظيم المجتمع، في حين هذه التشريعات ليست مستوحاة إلا من محبة الحقيقة، ستكون هذه التشريعات في انسجام مطلق مع أحدث الاكتشافات العلمية. حسناً، من جهتي، هذا التنظيم والتشريعات ستكون كالمسخ، وذلك لسببين: أولاً، أن العلوم الإنسانية هي دائماً وبالضرورة ناقصة، وذلك مقارنة لما اكتشف مع ما تبقى ليُكتشف، حيث يمكن القول انها لا تزال في مهدها. وهكذا لكي تتبدل حياة الانسان العملية، جماعة أم فردًا، إلى التزام دقيق وحصري يترافق مع أحدث البيانات العلمية، علينا أن ندين المجتمع كما الأفراد لكي يعانوا الاستشهاد على سرير بروكرستس ، التي ستنتهي قريباً مؤلمة وخانقة لهم، حيث تبقى الحياة أعظم من العلم في أي وقت مضى.

السبب الثاني: المجتمع الذي يجب أن يطيع التشريعات المنبثقة من أكاديمية علمية، ليس لأنه مدرك هذا الطابع العقلاني لهذا التشريع (في هذه الحالة وجود الأكاديمية تصبح عديمة الفائدة) ولكن لأن هذا التشريع المنبثق من الأكاديمية، كان المفروض باسم العلم أن يقدّس دون فهمه. مثل هذا المجتمع سيكون مجتمعا، ليس للإنسان، بل للبهائم. ستكون حالة أخرى من تلك البعثات اليسوعية التي أرسلت إلى حكومة الباراغواي لوقت طويل . وبالتأكيد فإنها ستنحدر بسرعة إلى أدنى مراحل البلاهة.

يبقى هناك سبب ثالث وهو ما يجعل من المستحيل تشكيل مثل هذه الحكومة، بمعنى تلك الأكاديمية العلمية الممولة سيادياً،إذا جاز التعبير، بشكلٍ مطلق، وحتى لو كانت تتألف من ألمع الأشخاص، بحيث انها بالتأكيد سوف تنتهي من تلقاء نفسها في الفساد الأخلاقي والفكري.وحتى اليوم، هذا هو حال كل الأكاديميات مع بعض المزايا قليلة الممنوحة لها. بشكل حتمي، أعظم العباقرة العلميين منذ لحظة أن يصبح أكاديمياً يسقط في هفوات الخمول. ويفقد تلقائيته وعفويته، صلابته الثورية، وطاقته الوحشية لتحقيق عبقريته، وقدرته على تدمير العالم القديم وإرساء أسس جديدة. بدون شكأن كل ما يكتسبه من كياسة وحنكة نفعية وعملية هو ما يخسره من قوة فكره. في كلمة واحدة، سيصبح فاسداً.

هذا هي سمة الامتياز وكل مكانة ذات امتياز هي قاتلة لعقل وقلب الانسان. الانسان ذو امتياز، سواء كان اقتصاديا أو عمليا، هو رجل فسد في العقل والقلب. هذا هو القانون الاجتماعي الذي لا يقبل أي استثناء، كما على الطبقات ينطبق على كل الدول، متعاونين أومنفردين. ذلك هو قانون المساواة، الشرط الأعلى للحرية والإنسانية. المبدأ الاساسي لهذه الدراسة هو بالضبط شرح هذه الحقيقة في جميع مظاهر الحياة الاجتماعية.

هذا الجسم العلمي الموثوق من قبل الحكومة سوف ينتهي قريبا من خلال تكريس نفسه ليس للعلم، بل من أجل شأنا آخر تماما: هو أن القضية ، كما هو الحال بالنسبة لجميع السلطات المتأسسة، ستبحث عن الدوام الأبدي من خلال تقديم مجتمع يتعهد أكثر من أي وقت مضى لرعاية الغباء وبالتالي في حاجة إلى المزيد من بسط حكومته واتجاها.

ولكن ما هو يصدق على الأكاديميات العلمية يصدق أيضا على جميع المجالس التأسيسية والتشريعية، وحتى على الذين وقع عليهم الاختيار عن طريق الاقتراع العام. في الحالة الأخيرة قد يجددوا مناصبهم، هذا صحيح، ولكن هذا لا يمنع في غضون سنوات قليلة من تشكيل مجموعة من السياسيين والسياديين في الواقع وإن لم يكن في القانون، مكرسين انفسهم للشؤون العامة للبلد حصراً، في النهاية يشكلوا نوعا من الارستقراطية السياسية أو الأوليغارشية. وهذا ما تشهده الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا.

وبالتالي في هذه المسألة لا يمكن فصل أي تشريع خارجي عن أي سلطة، وكلاهما يميل إلى عبودية المجتمع، وتدهور المشرعين أنفسهم.

هل نستنتج من ذلك أنني أرفض كل أنواع السلطة؟ انها بعيدة عن تفكيري. فيما خص الأحذية، أفضل سلطة صانع الأحذية – المنازل، القنوات، أو السكك الحديدية ، أستشير كل من المهندس المعماري أو المهندس. لكل معرفة خاصة اناسها. ولكن لا أسمح لصانع أحذية أو لمهندس موهوب من أن يفرض سلطته علي. أستمع لهم بحرية وبكل احترام وذلك بسبب ذكائهم، طابعهم، معرفتهم، محتفظا دائما على حق النقاش، النقد، واللوم. أنا لا أكتفي باستشارة سلطة واحدة في أي فرع خاص، اقوم باستشارة عدد من المختصين؛ أقارن آرائهم، واختار تلك التي تبدو الأصح. لكنني على يقين بلا وجود سلطة معصومة، حتى في المسائل الخاصة، وبالتالي، مهما اكن احتراماً لنزاهة وصدق هكذا افراد ، لا يوجد لدي ثقة مطلقة في أي انسان. هكذا إيمان هو قاتل للمنطق والعقل، للحرية، وحتى بالنسبة لنجاح المستقبل، بل سيحولني فورا إلى عبد غبي، واتحول أداة لإرادة ومصالح الآخرين.

إلى حد معين، وطالما يبدو ذلك ضرورياً، فإذا أنحنيت أمام سلطة متخصصين وابدي استعدادي لتبعية ارشاداتهم وكذلك توجهاتهم، وذلك لأن سلطتهم فرضت علي ليس من قبل أحد، لا من قبل انسان ولا من قبل الله. وإلا أرفضها برعب، وأدعو الشيطان للأخذ بنصيحتهم، توجهاتهم، كذلك خدماتهم ، حينئذٍ مؤكداً سأدفع الثمن، من جراء فقدان حريتي واحترامي لذاتي، من أجل قصاصات من الحقيقة، مغلفة في أكاذيب، قد تعطى لي.

أنحني أمام سلطة ناس مختصة لأنها فرضت من قبل عقلي. وأدرك عدم قدرتي على الفهم والتطور، في كل تفاصيل المعرفة الإنسانية. فالاكثر ذكاءاً لا يستطيع فهم الكل. لهذا السبب – كما للعلم كذلك بالنسبة للصناعة – هناك ضرورة لشراكة وتقسيم العمل. الأخذ والعطاء هي الحياة البشرية. الكل يوّجه ويتوجه بدوره. فليس هناك سلطة ثابتة ومستمرة، بل هناك تبادل مستمر للسلطة، وفوق كل شيء هذه السلطة هي طوعية وتبعية.

إذن، هذا السبب نفسه يمنعني أن أعترف بسلطة ثابتة، دائمة، وشاملة، لأنه لا يوجد انسان عالمي، أي انسان قادر على استيعاب كل التفاصيل، والتي بدونها يستحيل تطبيق العلم في الحياة، كل العلوم وجميع فروع الحياة الاجتماعية. وإذا تحققت مثل هذه العالمية في انسان واحد، لفرض سلطته علينا، سيكون من الضروري دفع هذا الانسان للخروج من المجتمع، لأن سلطته حتما من شأنها أن تضع الآخرين في العبودية والبلاهة. لا أعتقد على المجتمع أن يسيء معاملة اصحاب الفكر كما فعلت حتى الآن، ولكن أيضاً لا أعتقد أن يذهبوا بعيدا في ذلك، ناهيك عن منحهم أي امتيازات أو حقوق حصرية، وذلك لثلاثة أسباب: أولاً، لأنه في كثير من الأحيان الانسان الدجال لن يكون عبقرياً، ثانياً: لأنه من خلال مثل هذا النظام من الامتيازات، فإنه قد يتحول الانسان العبقري إلى دجال، ويهتز أركانه، وتفسد اخلاقه، وأخيراً: لأن من شأنه إقامة سيد فوق نفسه.

يوليو 09، 2011

نسبية الشعر - مايكل وورتن





نسبيّةُ الشعر
جزء من مقدمة مايكل وورتن لكتاب رينه شار "زوّار الفجر"
ترجمة فهيمة جعفر

...
شاعريّاً يهيم الإنسانُ في الأرضرغم كونهِ مترعاً بالفضائل.
فريدريك هولدرلين


فضائلُ الشعراءِ مملةٌ كما هي مملةٌ فضائلُ البشر.
والاس ستيفينز


...

...

يتمحور مجمل الشعر حول علاقة محمومة – ويائسة أحياناً – مع العالم. بالنسبةِ إلى رينه شار، تصبحُ هذه العلاقةُ محمّلةً بالغضبِ كما هي محمّلةٌ بالأمل. إن كانَ يعنِّفُ البشرِ لجبنهم وَعدم إخلاصهم للآخرين، فلطالما استخدمَ أيضاً صوراً دالةً على النضج (الشرنقةَ التي تصبحُ فراشةً، البذرةَ نبتةً، الزهرةَ ثمرةً) . يحِبُّ أقرانهُ دونَ رأفة، دونَ أوهامٍ أو ضلالات... وَبصرامةٍ دائماً. كما ذكرتُ سابقاً، هو يحيا وَيخطُّ حالةً من "التفاؤلِ اليائس"، حالةً يكون فيها التفاؤل واليأس لا طرفا حربٍ بل متواليان في حلَقَةٍ تدفعه وَتدفعنا تجاه خلقِ عالَمٍ سيدركُ أخيراً سموَّهُ المتأصّل فيه. على الرغمِ من ذلك، يكتبُ الشاعرُ دائماً لشخصٍ آخر، لقارئٍ مجهول. ها هنا تكمنُ عظمتهُ.. وعزلته.
تعتبرُ قصيدةُ الحبِّ تقليدياً احتفاءً بعلاقةٍ ما، تحققت أم لا، حقيقةً كانت أم وحي خيال. في قصائدِ حبّه يترنّمُ شار بالتواطؤ الجنسيِّ وَالعاطفي ("حبّه خفيةً/ 'L'amoureuse en secret' وَ "خطابٌ إلى النهر/'Recours au ruisseau' ) وَينعى الغياب ("زجاج النافذة/ 'Le carreau) وَيحذّر من الغيرة (مرجان/ Corail)؛ وَيتناولُ الحاجةَ إلى مشاركةِ تجربة الحُبِّ الزائل معَ الآخرين، أصدقاء كانوا أم قرّاء (أنوكيس وما بعد جان/'Anoukis et plus tard Jeanne')؛ وَيتحدّى النرجسية التي هي في صميمِ كثيرٍ من الحُبِّ وَالشعر ('À la désespérade')؛ كُلُّها أمور عاشها الشاعر، وَكلّها تلتقي إلى حدٍ بعيدٍ معَ أعمالِ شعراء حُبٍّ فرنسيين كبار من أمثال رونزار وَبودلير وإيلوار. غير أنَّ المحبوبةَ في قصائدِ الحب الشاريّة (نسبةً إلى شار) ليست محورَ فكره وَكتابته وَلا ذريعتهما، بل هي دائماً جزءٌ من رغبته في فهمِ وَوصفِ الوجودِ بما ينطوي عليه من اختلافاتٍ متشعّبة. أَحَبَّ شار وأُحِبَّ من قبل نساءٍ عدّة، منذ اكتشاف البياضِ الجميل لنهدِ مربيته الإيطالية في الطفولة وَحتى وفاته– إلى درجةِ أن يكتب أحد أصدقائه أن قائمة عشيقاته تطولُ لتتجاوزَ قائمةَ كازنوفا ! كانت النسوة الحبيبات وَالمُحِبّات بالغاتِ الأهمية بالنسبةِ إلى حياة الشاعرِ الشخصية وَسعادته، لكنهن يصبحن في كتاباته صُوراً شعريةً لا تختلفُ وظيفتها بحالٍ عن وظيفةِ الحيوان والأنهارِ و النباتِ و الشجر: أنْ تلفتَ القارئ إلى كونِ جميعِ أوجه الحياة مرتبطة بعضها ببعض، أنَّ الجوهرَ الأسمى لكلِّ علاقةٍ هو وجودنا الكامن فيها.
رُغم أن شار أحبَّ كثيراً وبشدَّة، إلا أن تمثيله الشعريَّ للمرأة يتّسمُ بالشوفينية. تنتهي (مظهرٌ زفافيّ/ Le Visage nuptial ) على هذا النحو: "ها الرملُ مَيْتٌ، الجسدُ مستعاد/ تتنفّسُ المرأة، يقفُ الرجلُ منتصباً". كما في الحقلِ في ('Louis Curel de la Sorgue') يتمُّ إنقاذُ الجسد، العاشقُ منتصبٌ عموديّاً، بينما العاشقةُ "تتنفّسُ" أفقيةً وَمؤسلبة. ما من شكٍ في أن شار يعدُّ النساءَ أدنى مرتبة، فجنسانيّته هادئة وواثقة بقدرِ ما هي مطلقة. وهو يرى إلى نفسه كمحررٍ لأولئكِ اللاتي أحبّ، مانحاً إياهنَّ انطلاقةَ الشعرِ وَانطلاقةَ الإيروسيّة، وفوق هذا وذاك تحريرهنَّ من قيودِ قوانين المجتمعِ ومتطلبّاته. إنْ يكتب شار عن الحبّ، فَدوماً، لكي يتناولَ الشهوة التي ينبغي أن تظلَّ شهوةً دونَ الإنزلاقِ إلى طريقِ التكرارِ والإخلاص والزواج، – وبالطبع- إلى طريقِ الأبوّة كما هي الحال مع بودلير وساد. هو يعجزُ عن حُبِّ طاقاتِ المرأةِ التناسلية، وواقعاً، تَصَوّره للشهوة ذكوريٌّ في جوهره. بالنسبةِ إليه كما بالنسبةِ إلى العديدِ من السورياليين، تبدو المواجهاتُ أفضلَ حالَ الفَرّ – أشبه بوميضِ برق: وهنا تكمنُ قوّتها وديمومتها. في ذلك يكتب: "الصديقُ الذي يبقى ليسَ بأفضلَ من الصديق الذي يرحل، الإخلاصُ منطقةٌ محتلَّة". يتردد هنا صدى أمثولة "الإبن الضال" غير أن الأهم هو في ما يذهب إليه من أنه لا داعي للإخلاص الجنسيّ، فكلمةَ الإخلاص العليا للمثلِ الخُلُقية.
قصيدة "أنوكيس وما بعدَ جان/ 'Anoukis et plus tard Jeanne' " واحدةٌ من أجملِ قصائد شار في الحُبِّ وأخصبها، وأيضاً من أشدّها إلهاماً . هي قصيدةٌ تحتفلُ بالحُبّ، وتقليديّةٌ في ترنّمها بمدائحِ المحبوبةِ التي يريدُ الشاعر أن يتشاركها "شعريّاً" مع الآخرين. وهي أنموذجٌ "شاريٌّ" في إصرارها على أن الحب يؤدي إلى التقاطعِ مع الطبيعةِ والفولكلور. تمثّلُ أنوكيس في الأساطير البروفنسية، الإلهةَ التي تحرسُ انعطافةَ الأنهارِ وَتجسِّدُ القدرَ امرأةً تقتلُ ضحاياها بمعانقتهم. لا يمكنُ إدراكُ قوّة القصيدة كاملةً إلا بمعرفةِ شيءٍ عن مصدرها. اكتشفَ "بول فين" في أحاديثَ مع شار، أن الأخيرَ مرَّ فعلاً بتجربةٍ معَ مثالٍ "أنوكيسيّ"؛ "جان"، وَقد انزلقَ بخفّةٍ إلى علاقةٍ جنسيّةٍ معها. وبشكل يثير مزيداً من الإضطراب، يقدِّمُ "فين" بعض تفاصيل نهايةِ هذه التجربة. أحد أصدقاء شار من الرسامين رآها وَتقدَّم إليه بالطلبِ التالي: "أعطني إياها يا رينه، فأنا أحبّها جداً" ، فـَ"أعطاه" شار إياها.
إنّ المشاركةَ الشعريّةَ محلُّ تقدير، في حينِ أن المشاركة الحقيقية للنساءِ من طريقِ "إعطائهنَّ" للأصدقاء هي محلُّ إشكال، أو بالأحرى مخزيةٌ، إذ تنطوي على افتراضِ أنَّ النساءَ ملكيّةٌ مسجلةٌ للرجالِ وفي وسعهم التخلّص منهنَّ كيفما شاؤوا. يثيرُ الأصل القصصي للنصِّ إزعاجاً لدى أيّ مؤمنٍ بالمساواةِ الجنسية، وَسيصدم الكثير منا بحقيقةِ أن ليس بين يدَي "فين" معلوماتٍ يقدّمها حول ردّة فعلِ المرأة. على كلٍ، تفصحُ القصيدةُ ذاتها عن تسامٍ بالتجربةِ الفرديّة. أنوكيس هي جان، شقيقةُ أعزِّ أصدقائه، إلهةٌ، قدرُه، كلُّ النساءِ متمثلاتٍ في امرأة، تجسيدٌ للنساء. يمكنُ حُبُّها والتغنّي بها في قصيدةٍ، إذا -وفقط إذا- أمكنَ نبذُها وتمّ، لتستحيلَ بذلكَ صورةً، رمزاً. على غرار قصائد بودلير، لطالما فُسّرت قصائد شار في الحب بأنها قصائد مكتوبة لأجلِ وَحولَ نساءٍ بعينهنّ، لكنّ نظرةً عن كثبٍ ستكشفُ لنا أن الشعر حبُّه الأول وَالأخير— وَهذا ما يحيلُ القَصَصي وَالسِيري إلى الأنموذجيّ وَالأسطوري. في صميم فكرهِ الشعريّ وَالثقافي وَالإيروتيكي، يقعُ الإيمان بأن " القصيدةَ هي تحقيقُ حُبٍّ يؤكّد الشهوةَ كشهوة."
الشعر، الجمال، الطبيعة، الحب، الشهوة، العدالة: هذه هي القوى التي ينبني عليها كونُ شار، وَكلٌّ منها ينطوي على عنف. لقد مرَّ الشاعرُ بتجارب عنفٍ منذ اللحظة التي أبصرَ فيها العالم وَتواصلَ معه: عنف أمّه العاطفيّ، تسلّط أخيه الأكبر الجسدي، عنفُ الفلاّح الضروريّ وَهو "يَكْلِمُ" الأرض، عنف الصيّاد المؤسِف وَهو يقتل العصافير "ليحتفظَ بالشجرةِ لنفسه"، العنف الطبيعي للأفاعي،الحيوانات، الطيور ،الحشرات، والشمسِ والعاصفةِ والثلج. يعجّ العالمُ الطبيعيّ بالضواري وَالفرائس التي تشكّل حروبها ضرورةً للحفاظِ على توازنِ الطبيعة. هذا ما اكتشفه شار عندما كان طفلاً يؤدّي دورَ الضحيّة أوّلَ الأمر. على كلٍ، أدّت قراءته لفلاسفةِ ما قبلَ سقراط، وَبالأخصِّ هيراكليتس وَامبدكليس، إلى تمييزِ هذا النزاع كقوّةٍ كونية، أي جوهريّاً كقوةٍ أخلاقية . يقرُّ هيراكليتس أن الكونَ يشتملُ على صراع، وَأن العدالة ما هي إلا نزاع، وَالوجودُ بمجمله يتحددُ بالشقاق. وَيصرُّ على أن الإبداع يتمخّض عن صراعٍ متوازنٍ بين الأضداد. ما دامَ النزاعُ طبيعياً وَحتمياً، إذن ينبغي على الإنسانِ/الشاعرِ أن يستجيبَ بفعلِ مقاومة. "لن أكتبَ قصيدةً مذعنةً قَط" (حميّا وَسِر/ Fureur et mystèr) .
يقذف شار بثورته المضطرمة تجاهَ عالمٍ يُقتلُ فيه أطفالٌ أبرياء، وَيُعذِّبُ طغاةٌ وَيستبدون، وَتُستَبدَلُ عاداتٌ وَمعتقداتٌ ماضيةٌ بأنانيّةِ المذهبِ المادّي. أحياناً يتوجّبُ علينا الإنسحابُ مؤقتاً لنستردَّ قِوانا، علينا " الإنعزال" كما يحضّنا على ذلكَ في "نصيحة الحارس/"Conseil de la sentinelle ، أي أن نرفضَ نظامَ الاضطهاد برمته حتى نعيدَ بناءَ قدرتنا على التمرّد. وَليس في ذلك جُبنٌ، بل إدراكٌ للهشاشةِ الكامنةِ فينا جميعاً، وَالتي من الممكن أن تكون مثمرةً وَمندفِعةً شرط أن تتحدُ بشراسةٍ فاعِلة.
الشاعرُ نفسه مستضعِفٌ وَمُستَضعَف—كما هو شعره. وَإذا أخذنا بعينِ الإعتبار حقيقةَ أن شعرهُ مدفوعٌ برغبةٍ إيروسيّة لاتّحادٍ عنيفٍ مع المرأةِ، معَ الطبيعة، وَمعَ الشعر، قد نمضي بعيداً إلى وصفِ شعرِه بالسادومازوشيّ. تتحدّرُ عرّابةُ شار من عائلة محامي الماركيز دو ساد، وَخلال مراهقته اكتشفَ شار في مكتبتها بعضَ الرسائل الموقّعة تعودُ إلى "الماركيز المقدّس" أو ("رجل البنفسج" كما يدعو نفسه). دفعه ذلك إلى أن يقرأَ كتاب ساد وَيكتشفَ - لا الفيلسوفَ الإجتماعيّ الذي يشيد به العديد في وقتنا – بل بطلَ الرغبةِ الإيروسيّةِ عنيفاً، متنوِّعاً، وَمتناقضاً، يعتنقُ مفهوماً للطبيعةِ -يكادُ يكونُ عدميّاً- كضحيّةٍ لضراوةِ الرجل. وفي حينِ لا يجدُ هوسُ ساد بالثقوب،حقيقةً أم مختلَقَة، مكاناً في كتاباتِ شار، تحفل العديد من قصائده المبكّرة بتصويرِ الإيروسيّة كعمليّةِ قسوةٍ انعكاسية. وهو بعدَ مرحلته السورياليّةِ، تخلّى عن كثيرٍ من أفكاره السادّية، مستيقظاً على التناغمِ وَطاقةِِ الإنبعاث في الحُبِّ وَالطبيعة. بيد أن مفهوم الإنعكاسية ظلَّ يرفدُ جملةَ أعماله الناضجة.
افتُتن شار ، كأصحابهِ السورياليين في الثلاثينات، بأعمالِ فرويد التي منحت شرعيّةً تنظيريّةً للحركيّة في شعرِه، وَمكانته العاطفيةِ وَالفِكرية. على الشاعرِ في نظرِ شار أن يصنّف نفسَهُ ضحيّةً وَ "مصدراً للخطَر" في الوقتِ ذاته. لهذا السببِ نَعَتُّ عملَه بالسادومازوشي- ليس بناءً على أيّ كتابة تتناولُ "انحرافاً" جنسيّاً، إنما على الطريقةِ التي يُوظَّفُ بها شعريّاً. في نظرِ فرويد، الفاعليّة وَالسلبيّةُ هما من الخصائص الكونيّة في الحياةِ الجنسية، والشهوة الجنسية هي التي تملي علينا ما نفعل وَنقرر. إذا كان شار يُمجّدُ ممارسةَ الحُبِّ لدى حشرةِ فرس النبي، حيثُ تقطعُ الأنثى رأسَ الذكرِ فورَ اكتمالِ العمليّة، فلا بُدَّ أنه يرى إلى نفسِه كذكرٍ "فاعلٍ" وَضحيّةٍ "سلبيّةٍ" للعنفِ الإيروسيّ. على كلِّ حالٍ، يوظّفُ الشاعرُ التضادَّ الفاعل/غير الفاعل الفرويدي بشكلٍ رئيسيٍ كنموذجٍ تنظيريٍّ لشعرٍ يتولَّدُ معناه من التوتّرِ الموجودِ في اللغةِ كما في الحياة: يتبدّى في مجملِ أعمالِ شار هذا الصراعُ المُبدِعُ بينَ الواجبِ الأخويِّ وَالرغباتِ الفرديّة، بينَ الإيروسيِّ وَالأخلاقي، بين العاطفيِّ وَالفِكري، بين الواقعيّ وَما وراءِ المادّة (الميتافيزيقيّ).
يعملُ العنف وَالرقّة جنباً إلى جنب أو ضدَّ بعضهما في نصوصه، وشيئاً فشيئاً تُجلِّي "الكلمةُ" الشعرية – اللوغوس- نفسَها كقوّةٍ متّقدة. الشمسُ ، لدى شار، مصدرُ عنفٍ، تلسعُ، تُبَخِّر ، تقتل، لكن الأهمَ أنها تُشكِّلُ مضادّاً نبيلاً للظُلم، فتحرر المضطَهَدَ من "طاعونِ المعرفةِ الضالّة". وَما دامت هذه "المعرفة الضالة" حتميّةَ المصير فالبشرُ في حاجةٍ إلى تحريرٍ، لا إلى حُرّية. يؤمنُ شار – مثل غايد وسارتر وإن على نحوٍ مختلف – بأنَّ الحُرّية عمليةٌ مُستمرّة، وَليست وضعاً ثابتاً نحوزه مرّةً وَإلى الأبد.
وَلعله من قبيلِ التناقضِ أن ينبعَ التحريرُ من قبولٍ فاعلٍ بالإختلافِ، لا من اعتقادٍ أوحدٍ بما هو حقٌّ وَعدل. في الكونِ الذي تتناوله قصيدة (زوّارُ الفجر/ Les Matinaux) ، تُقتَلُ الطيورُ التي تُضيءُ عالمنا، وَالأشجار التي تبذلُ فيئاً دفيئاً تُشعَلُ برصاصِ الصيّاد في (احتفالٌ بالأشجارِ وَالصيّاد/'Fête des arbres et du chasseur)؛ الكِلاب الوفيّة تُعَذَّب (الشفافيّة/'Les Transparents') ؛ النوافذُ فواتحُ وَمرايا (زجاجُ النافذة/'Le carreau')؛ الجبالُ عدوانيّةٌ وَسخيّة، الأنهارُ تُخفي وَتُبدي، مجدبةٌ وَخصبة، غير أنَّ عنفَها سحريٌّ دائماً (هذا الحب المفقود/'Cet amour à tous retiré') . يُؤكِّدُ شار، في رسالةٍ مفتوحةٍ إلى "جورجيس باتيلي" أنَّ هذا العالم الحديث لن يكتشفَ "التناغمَ النسبيَّ بتنوّعهِ المتأجج" حتّى يتمّ التأمّل في "مشكلةُ التباينِ" بشكلٍ جدّي. وَسابقاً،في مقالٍ موجزٍ حول هيراكليتس، يتحدّثُ عن "اتّحادِ الأضداد البهيج" وَهو "الأساسُ الضروريُّ المثمرُ للتناغم." رغم أنَّ اهتمامه الدائمَ بالتضادِّ وَالعلاقاتِ الجدلية ترسّخَ لاحقاً بقراءاته لهيراكليتس، وَساد، وَهيغل، وَفرويد، وَهايدغر، إلا أن جذورَ هذا الإهتمامَ تعودُ إلى مراقبةِ شار للعالم الطبيعيِّ في طفولته.
أشدُّ ما يتجلّى ذلكَ في قصيدته "احتفال/ Fête" ، التي نُظِمَت في مقاتليّ المقاومة، "الماكيين" *، الذين لم يتمكنوا من العودةِ إلى إسبانيا بعدَ تحرير فرنسا. جعلَ أسلوبها سهلاً ليتيسّر على حدّائي العصرِ الحديث حفظها وَغناؤها، وَالقصيدةُ تستعرضُ سلسلةً من الصورِ التي تؤكِّدُ على التناقضاتِ المتنازعة في الطبيعة، وَعلى الطبيعةِ البشريّةِ بشكلٍ جوهري. دونَ قصدٍ يدمّرُ "الصياد الكئيب" الغابةَ التي يُحبُّ والتي هي سُكْنى فريسته. في حين أُوِّلت القصيدةُ غالباً كإدانةٍ لتدخّل الإنسان في الطبيعة، تنطقُ "احتفال" وَتؤدّي ما هو أكثر من ذلك: هذه الحكايةُ الرمزية (allegory) ذاتِ الخصائصِ "الشاريّة" تتحدّثُ عن الخَلْقِ الشعريِّ بقدر ما تتحدثُ عن العنفِ وَالقتل اللذَين يدمغان السلوكَ الحيوانيَّ وَالبشري. الصيّادُ كئيبٌ لا لأنه عازمٌ على القتلِ من أجلِ أن "يحتفظَ بالشجرةِ وَحزنِها الطويل لنفسه"، بل لأنّهُ لا يجرؤ على اتّخاذِ فعلٍ حاسمٍ بصدقٍ مُطلِقاً بذلكَ الإبداعَ الكامنَ في الوجودِ كلّه.
وحين يطلقُ نارَه أخيراً، تشعلُ رصاصتهُ صدفةً الحرائقَ في الغابة. لكنَّ اللهبَ – رغمَ التهامِهِ كلَّ شيءٍ – مشرِقٌ قبلَ أي اعتبارٍ آخر. مثلَ أقوالِ الحِكَمِ في "الراؤون"، ترفضُ هذه الحكاية الرمزية تزّمتَ الحكايا التقليدية وَتتحدّاها، متساميةً بالمنطقِ المألوف. يحيلُ شعرُ شار المادّةَ إلى ضوءٍ متوهّجٍ، كما يقوِّضُ العالم من أجلِ إعمارهِ بشكلٍ أجمل، مثلَ فراشةِ غوته التي تموتُ لتتجلّى في لهبِ الشمعة. يقابلنا اللهبُ كصورةٍ محوريّةٍ في مجملِ أعماله، أَكان النارَ التي تتوهّجُ فجأةً في غرفةِ والده فتلهمه ليكتب، أو وميضَ البرقِ الزائلَ وَالدائمَ في الآنِ ذاته الذي ينيرُ ظلمتنا، أو حريقَ الغابةِ الذي يرجئ الموتَ بنوره، أو إشعالَ الحقول المحصودة الذي يبشِّرُ بميلادٍ جديدٍ أقوى. في "نحوَ سكونٍ أشدّ/ À une sérénité crispée" ، يؤكِّدُ شار أنَّ: "الجمالَ يضرمُ النارَ في كلِّ حزمةٍ من ظلمتنا التي ينبغي إشعالها". وَيتساءلُ في "رسالة سيبيريّة/'Note sibérienne'" (أعشابُ صيد-1975/ Aromates chasseurs) : "لمَ هذا التكرارُ إذن: نحنُ شرارةٌ مجهولةُ الأصل، نشعلُ النارَ أمامنا دائماً. هذه النار، هل نسمعُ زفيرها أو أنينها إذ تلتهمنا ؟ لا شيء، فيما عدا أننا نتعذّبُ إلى درجةِ أنَّ الصمتَ الشاسعَ في كبدِها ينشطر". في "قصيدةٌ مسحونة/ Le poème pulvérisé" يترنَّمُ بـ"الشرارةِ البدويّة التي تفنى في نارِها." الموتُ وَالحياةُ لا يُدرَكان كحَلََقةٍ بسيطة: في حينِ يستمدُّ شار صورَهُ من الطبيعة، لا يبدي اقتناعهُ أبداً بحَلَقةِ "الحياة-الموت-النشور" التي رسّختها الثقافةُ الغربية كأكثرِ تفسيراتِ الوجودِ تفاؤلاً. إذا ما كان شعرهُ وَفِكره متطرفانِ، فلأنهُ يرى الوجودَ غيرَ مقيَّدٍ باستبدادِ الزمان، أو أقلّه، لا يُفترض به أن يكونَ كذلك دائماً. ما ينبغي علينا استبقاؤه من الماضي هو لحظاتُ التسامي وَالتجلّي فقط، ملتفتينَ إلى ما يخبرنا به التراثُ المسيحي بأن تجلّيَ المسيحِ لم يكشف عن ألوهيته فحسب، بل تنبَّأَ بموتِه المعنويِّ أيضاً. الذاكرة ُ "حليفُ الموتِ الأكبر"، ذلكَ أنها تحرمنا من التطلّعِ بفاعليّةٍ للحظاتِ التي قد يتقاطعُ فيها الزمانُ الأفقي بالزمانِ العموديِّ الأبديّ، حينَ يتوهَّجُ العالمُ مُشرِقاً. هذا هو التناغمُ الذي يتقصّاهُ شار في شعرِه وَيخلقه وَيدعو إليه، ومنه يأتي تأكيدهُ على صورٍ مثلِ النَّجْدِ الذي هو ذروةٌ في سيرورةِ التكوّنِ لا نقطةٌ مرتفعةٌ بشكلٍ مؤقت، أو وميضِ البرق الذي يكشفُ عن ديمومةِ الإشراقِ في الجزءِ من الثانيةِ الذي يستغرقه.
في "نهر سورج: أغنيةٌ لـ إيفون/ 'La Sorgue' " (من: الينبوعُ السارِد-1947/ La fontaine narrative ) ، يتغنّى شار بـ"النهرِ حيثُ ينتهي البرقُ وَيرتقي منزلي/ على عتباتِ الغفلةِ مدحرِجاً حصى عقلي." نهرُ سورج الذي ينبعُ من Fontaine de Vaucluse مُحيطاً بِـ L'Isle-sur-Sorgue من جهاتٍ ثلاث، هذا النهرُ حقيقيٌّ وَرمزٌ أسطوريٌّ في آن، لكنّهُ فوقَ ذلك وجودٌ مطّرِدٌ يذكِّرُ الشاعرَ أن كلَّ الأشياءِ مُرَكَّبة، وَأن علينا اتّخاذَ موقفٍ متمرّدٍ وَأخويٍّ معاً. لقرونٍ عِدّةٍ ظلَّ نهر "سورج" يرفدُ المدينةَ كلَّها التي كانت تعتاشُ من صيدِ الأسماك، لكنها أُركِسَت فيما بعد بالتلوِّث الصناعي الذي سببهُ مصنعُ الورق؛ ما تزالُ مياهُ النهرِ شفافةً بدرجةٍ مدهشة لكنها باتت تشكّلُ خطراً؛ أصبحَ النهرُ رمزاً للموتِ والَبقاء. تختتم القصيدةُ بابتهالٍ إلى نهرِ سورج يلخِّصُ موقفَ شار الأخلاقي: "اجعلني عنيفاً وَصديقاً للنحلاتِ في الأفق."
اللغةُ الشعريةُ هي اللغةُ الأكثر تحدّياً وَإقلاقاً، من حيث أنها تجمعُ النقائضَ، كما تتقصّى وَتشهرُ بوعيٍ صمتَها وَقصورها وَغزارتها واحتمالاتِه، وَفي الوقتِ ذاته تنقشُ ذاتها –بشكلٍ لا مردَّ له لكن طوعاً – في تاريخِ فِكرٍ سابِق. لعلَّ الشعرَ الفرنسيَّ الحديث أشدُّ تناصّاً بجلاءٍ من أيِّ شعرٍ آخر منذُ عصر النهضة، ذلكَ أن الماضي يمتزجُ بالحاضرِ بامتنانٍ وَبقدرٍ من القمع، فيما يسعى الشعراءُ لتعيينِ فضائهم الخاصّ. موقفُ شار العنيد دفعه في أحايينَ إلى مهاجمةِ الشعراءِ الذين وقعوا في نظرهِ في تلاعبٍ لفظيٍّ محض. بالنسبةِ إليه، ينبغي للشعرِ أن يكونَ جوهريّاً، أي محوريّاً في حياتنا، لا مُجرَّدَ زخرفٍ هامشيّ. ولهذا السببِ يلحُّ على إعادةِ الشعرِ في الثقافةِ المعاصرةِ من طريقِ حضّنا على القراءةِ المتنوِّعة، لنتعلَّمَ دروس المفكرينَ الأخلاقيين الماضين. إذا كان من جملةٍ تعبّرُ عن موقفِ شار أبلغَ تعبير، فهي شذرتهُ المفضّلة التي قالها هيراكليتس متنبِّأً برؤى هايدغر حول التشابه وَالإختلاف: "أنتَ لا تطأ النهرَ ذاته مرتين". كلُّ تجربةٍ نمرُّ بها، سواءً كانت تجربةً معَ الحُبِّ أو الطبيعةِ أو الشعر، هي تِكرارٌ لما سبق، لكنّها ابتكارٌ دائماً.
سؤالُ "هولدرلين" الجوهريِّ – والذي تناولهُ "هايدغر" بحذق في محاضرته المذهلة عن "ريلكه" عام 1946- "ما الحاجة إلى الشعراء في زمنٍ مُجدب؟/'Wozu Dichter in dürftiger Zeit' " ، هذا السؤالُ القلِقُ طرحه شار مراراً على نفسه وَعلى قرائه. مثلَ هولدرلين، يرى إلى الشاعرِ كـ"كاهنِ اللا مرئيّ". وَمثلَ هايدغر، يؤمنُ بالشعرِ كتجديدٍ للتجربةِ وَمركزٍ للحقيقة، أو لنكونَ أدقّ، مركزٍ لـ إلثيا alethia (الكَشفِ أو السفور). على كلِّ حالٍ، فيما المقدَّسُ دائمُ الحضورِ في عمله، ومع أنه يستحقُّ لقبَ "شاعرِ ما بين الزمان" الذي أسبغه هايدغر على هولدرلين، إلا أنَّ لإلحاحِ شار على قيمةِ الشعراءِ وحاجتِنا إليهم بُعداً سياسياً، إذ من واجبِ الشعراءِ أن يميطوا اللثامَ عن الحقيقة، ولهذا عليهم مواجهةُ كلِّ أنظمةِ الطغيان التي تصوغُُ العالمَ الذي يعيشون فيه وَيكتبون. على الشاعرِ أن يتحلّى بشجاعةٍ وَاستقامةٍ (بل شراسةٍ أيضاً) أخلاقية، وَبناءً عليه أن يصدرَ حكمه. إلا أنَّ هذه الفضيلة الإجتماعية يجبُ أن تتخللها لحظاتٌ من الإشراق، تلاعبٌ لونيٌّ بالقاموسِ وَالفلكلور. يتفقُ شار مع رؤيةِ هولدرلين حولَ الفرقِ بين الفضيلةِ (merit ) وَالشعر، لكنهُ يدنو أيضاً من موقفِ والاس ستيفينز، مؤمناً أنَّ الفضيلةَ الأصيلة ليست خصيصةً ذاتيّة، بل علينا أن نمخرَ عبابها بالتجاربِ الشخصيةِ الحيّة. هذا هو أحدُ أسبابِ إعجابهِ بفنانين مثل بيكاسو وَبراك وَارباد زينس ، ذلكَ أنَّ لوحاتهم تزاوجُ بينَ العقلِ وَالعاطفة، بينَ الخطِّ وَاللون. الأهمُّ أن على الشعرِ استغلالَ طاقتهِ ليكشِف. كما يقول في جملته الأخيرة في (احمرارُ زوّارِ الفجر/ 'Rougeur des Matinaux') : "باختصارٍ: إن أردتَ أن تهدِم، ليكن ذلكَ بأدواتٍ احتفاليّة."
مشبوباً بإحالاتٍ لأعمال الماضين وَأفكارِهم، يستدعي شعرُ شار قراءةً تتضمَّنُ المعرفةَ المحليّة وَالشخصية وَتتجاوزها أيضاً إلى ما هو أبعد، قراءةً تتقبّلُ فكرةَ أنْ ليسَ في وسعنا أن نفهم فهماً شاملاً إلا بالإستغراقِ في ما تمَّ تهيئته لنا. في "هذا الحب المفقود/ 'Cet amour à tous retiré' " من Les Matinaux ، يقابلنا هذا المقطع:
كانَ العنفُ سحريّاًً؛يموتُ رجلٌ أحياناً،وفيما يخطَفهُ الموت،يختمُ أثرٌ من الكهرمان عينيه.
العنف، الموت، التحوّل السحري: هذه الثيمات "الشاريّة" الثابتة تتجلّى هنا ببساطةٍ في مقطعٍ شعريٍّ واحدٍ، لا يضعُ أمامَ القارئ أدنى صعوبةٍ تأويليّة. فيما عدا التساؤل... لماذا الكهرمان ؟ الأغلبيةُ منا تعرفُ النزرَ اليسير عن أهميته الشعائريّة، إلا أنَّ توظيف شار له محسوبٌ بحيثُ يفعّلُ تداعياته الثقافية المتعددة. نعرفُ، منذ طاليس في القرنِ السادس قبل الميلاد، أنَّ للكهرمان (يُسمّى الكترون عندَ الإغريق) خصائصَ مغناطيسية- فهو يمتصُّ الشحنات الكهربائيةَ الزائدة ممن يدعكه. دموعُ الكهرمان التي سكبها أبولو حين نُفيَ من جبلِ الأوليمبوس ترمزُ إلى حنينهِ إلى فردوسٍ مفقود وإلى الوعدِ بالجنّة. حُفِظَت حشراتُ ما قبلَ التاريخ (وَجُعلَت جميلةً) بالكهرمان، لذا استخدمهُ المصريون في عمليّاتِ التحنيط. ترى الأقوام السلتيّة وَالمسيحية إلى الكهرمان كرمزٍ للروحانيّةِ وَالقداسة. الكهرمان متنوّعُ المعاني وَمتعددُ الثقافات، مثلَ عديدٍ من الرموز التي يوظّفها شار. مما يعني أن القرّاءَ لن يستقرّوا على معنىً ثابتٍ واحد، وَسينتجبونَ أحدَ ظلال المعاني المحتملة دونَ غيرِها في كلِّ قراءةٍ تالية. مثلُ هذا التجريد في مفهومِ المُلكيّةِ النصيّة هو أحدُ سماتِ أعمال شار، ذلك أنه يقبلُ القارئ كشريكٍ في خَلْقِ قصائدهِ وَيأملُ في الآنِ ذاته دفعَهُ لسبرِ استجاباتهِ تجاهَ نصوصٍ بسيطةٍ في ظاهرِها، فيما هيَ متقلّبةٌ على نحوٍ إبداعيٍّ واقعاً. رغم أن شار لا يستسيغ مصطلحَ "حكمة aphorism " ، مفضّلاً التعبيرَ المحايدَ "نصٌّ قصير"، إلا أنَّ قوله الشِعري يتّسمُ بالقوّةِ الجدلية للحكمة الـ"ما قبل- سقراطية" من حيث أنها تزاوجُ ما بين الصريحِ وَالمضمر، ما بين الإنسجام والإنفصام. وعليه، تستدعي كتاباته من القرّاءِ قبولَهم في أن يكونوا في الوقت نفسه، ضحايا وَمنفّذين لعنفٍ "احتفاليّ" (مفتعلةً مشاكلَ لكلّ مترجم!) .
إذا كانت صور شار الشعرية مستوحاة من موطنه الأصلي؛"بروفنس"، فإن تفكيره بعيداً من أن يكون ذا مركزية أوروبية، ويعود السبب الأكبر ربّما إلى إحتكاكه برسّامين "متفرنسين" من قاراتٍ أخرى؛ مثل "ويفريدو لام" وَ "زاو وو-كي". وبحكم مقروئيةِ شار الواسعة، يصبحُ من الصعبِ معرفةُ لمن قرأَ شار ولمن لم يقرأ تحديداً، لكن من المثيرِ للإهتمامِ أن شاعريته، على غرارِ أفكاره الفلسفية، شبيهةٌ بشاعريّةِ اوكتافيو باز، الذي كتبَ في "القوس وَالقيثارة":
يبدأُ الخَلْقُ الشعريُّ كعنفٍ تجاه اللغة. الفصلُ الأولُ من هذه العمليّة هو اجتثاثُ الكلماتِ من جذورها. ينتزعها الشاعر من روابطِها وَوظائفها المألوفة: منبتّةً عن عالمِ الكلامِ غيرِ ذي شكل، تصبحُ الكلماتُ متفرّدةً، كما لو أنها وُلِدَتْ توّاً. الفصلُ الثاني هو عودةُ الكلمة: تصبحُ القصيدةُ موضوعَ مشاركة. تسكنُ قوّتان متضادتان القصيدة: قوةُ ارتقاءٍ أو اجتثاثٍ تنزعُ الكلمةَ من اللغة؛ وَقوّةُ جاذبيةٍ تعيدها إليها. القصيدةُ خلقٌ أصيلٌ وَمتفرّد، لكنها أيضاً تلاوةٌ وَقراءة: مشاركة. الشاعرُ يخلقها؛ وَالناسُ تعيدُ خلقَها بتلاوتها. الشاعرُ وَالقارئ حَدَثان في حقيقةٍ واحدة. من طريق تبادل دوريهما على نحوٍ يصحُّ تسميته لولبياً، ُفإنّ دورانهما يولِّد الشعلةَ: الشعر.
شعر شار يبدأ بالعنف- في غضبهِ العادلَ تجاه كلِّ خيانةٍ للحريّة، وفي عزمه تحريرَ اللغةِ من قيدِ الإستعمال المتداول. وَينتهي بفعل القراءة "اللا متناهية"، التي لا بدّ أنها تقرّ بأن العالمَ متعددٌ في وجودهِ، بفضيلةِ الإنقسامِ وَالتضاد.
...




لوحة : علي التاجر - العراق

مارس 10، 2011

سوريا .، إضراب عن الطعام من أجل الحرية

في الوقت الذي بدأ فيه النشطاء السوريون إعلان مواقف أكثر وضوح للرأي العام السوري بالخصوص و للعالم كله على وجه العموم في سجونهم بدأت حملة أقوى في السجن المفتوح و هي إعلان إضراب عام عن الطعام لكثير من النشطاء خارج أسوار سجون نظام دولة القمع السورية .، منهم من هم داخل سوريا و يتعرضون بشكل يومي لحملات تشويه منظمة و اعتقالات تحدت وصف المنطق و منهم من هم منفيون بأمر النظام أو سوريين بالخارج .، هي خطوة جادة على طريق تثوير الرأي العام السوري الخائف من بطش نظامه أو المتفقون / الموالون لوجهة نظره نظراً لعمليات العهر السياسي التي يقوم بها نظام بشار الأسد في كل خطاب من فينة لأخرى بادعاءات الممانعة و الوقوف في وجه العدو الصهيوني و من منا لا يقف في وجه العدو الصهيوني لكن من منا يأخذ مواقفه الشجاعة ضدهم ، فهل يفهم الشارع السوري السؤال الأعمق .، لماذا لم يسترد الأسد الأب أو الابن لهذه اللحظة الجولان من يد عدوهم المنوط دائماً بهجومهم عليه بالكلام ، و الإجابة لأنه أضعف من أن يكون قوة تقف في وجه الصهاينة إذا فتسقط عنه صفة الممانعة تلك التي يتشدق بها في كل خطاباته فهو و نظامه ليسوا إلا ذيل من ذيول إيران في المنطقة يلعبون لحسابها لدعم التواجد الإيراني للحصول على مصالحهم و لم و لن يكونوا أبداً قوة تدافع عن حق شعبهم .، لذا أصبح على الشارع السوري الآن المدعو للخروج ضد نظامه لإسقاطه و إنشاء دولة تحفظ إنسانيتهم و تعيد بناء دولتهم و هيبتهم في استرداد الأرض .
إنه من المهم الوقوف في هذه اللحظة لدعم النشطاء في سوريا في موقفهم الرافض لنظامهم و المدافع عن حقهم في إبداء الرأي المعارض للنظام بكل حرية طبقاً لقواعد حقوق الإنسان الموقع عليها النظام السوري القمعي ، فالدعوة للإضراب عن الطعام مفادها انه حراك لا رجعة فيه للإفراج عن كل المعتقلين و المخطوفين و المغيبين منذ سنوات و شهور في سجون النظام دون وجه حق و الإفراج دون فكرة العفو الرئاسي أو الإفراج الصحي و خلافه من أشكال امتهان حقوق النشطاء في الإفراج عنهم دون أية تسمية غير أنهم ينتزعون حقهم في العيش بحرية في وطنهم ।، و هو ما يدعو الآن لحملة دعم لكل نشطاء سوريا المضربون عن الطعام سواء بداخل السجون أو خارجها حتى لا يلتهمهم نظام الأسد المدعوم بقوة طغيانه من جهة و جهل و خوف الشارع من جهة أخرى ، فلكل صاحب قلم أن يكتب لدعمهم و يتحرك في نطاقه الشخصي أو الجمعي لدعم هذه الانتفاضة القوية المطالبة بتطبيق الحرية في سوريا الدولة التي خضعت طول هذه السنوات من حكم البعث لحالة قمع و تجهيل غير مسبوق في تاريخ الشام عموماً .، كمصري أودّ أن أرى الشام حراً و دولة متطورة تدعم القوة العربية الثورية الناشئة لوقف مهزلة حكم الفرد و لعودة مباديء الحرية التي طبقها سكان المنطقة قبل غيرهم في الغرب .

مارس 09، 2011

لا للتعديلات الدستورية


أنا هقول " لا " للتعديلات الدستورية يوم 19 مارس
هذه هي الرؤية كما فهمت و كما بنيت عليها الرأي لقول لا
لن نترك الفرصة لتمرير هذا العوار أبداً

لتوضيح وجه الاعتراض على النصوص المعدلة ।، هذا بجانب الموقف المعلن من الأساس و هو الرغبة في إنشاء جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد قبل إجراء اية انتخابات
بالنسبة للمادة 75 .، كان من المفترض أن يشترط في المترشح لمنصب الرئاسة أن يكون من أبوين و جدين مصريين و أن يُلغى اشتراط سن الأربعين للترشح فهل لم يكن عبد الناصر حاكم لمصر و هو أقل من هذا السن كمثال فربما يكون لدينا شاب في الثلاثين يمكنه العمل ع رقي الوطن و لديه ما يؤهله للمنصب في هذا السن و هو أيضا سن الترشح للمجالس النيابية و إضافة إلى تحديد المرشح لان يكون مدنياً كي لا يتم ترشيح عسكري للمنصب في اي من الدورات القادمة .، فقد مللنا حكم العسكري البطيء

بالنسبة للمادة 76 .، أولاً : وضع هذا التعديل متناسياً النقاش الدائر حول كون الانتخابات الرئاسية أولاً سابقة للانتخابات التشريعية و هو ما يعني أنه سيتم الإجبار على اجراء النيابية أولاً حيال الموافقة على التعديل كي يكون من حق الأحزاب الترشح لمنصب الرئاسة .، ثانياً : عن المستقلين فقد فُتح الباب لشراء موافقة المواطنين الثلاثين ألف بالمال و هو ما نرفضه كما أنه لم تضع ما يتيح التحقق من توقيعات المواطنين الثلاثين ألف فقد يزور البعض توقيعات عدد من داعميه و كذلك بالنسبة لتوقيعات 150 عضوا من اعضاء مجلسي الشعب و الشورى فمن الممكن شراء عدد من الاعضاء بالمال هذا إن كان من الممكن جمع هذا العدد منهم بالنسبة لمستقل .، و هو ما يعني صعوبة صعود مستقل لسدة الحكم في مصر إلا أن يكون من ذوي المال يمكنه من تحقيق هذه الشروط

بالنسبة للمادة 139 .، كيف للتعديل أن يجيز لرئيس الجمهورية تعيين نائبه و هل هذا النائب ما هو إلا رئيس جمهورية وقت غياب الرئيس لمرض أو لأي سبب كما يقول الدستور .، فمن المفترض كأي دولة تحترم سيادة الشعب و أنه مصدر التشريع أن نختار نائب الرئيس بالانتخاب ايضاً و أن يكون في نفس يوم انتخاب رئيس الجمهورية أو أن يترشح الرئيس و نائبه كما يجري في معظم الدول الديمقراطية

بالنسبة للمادة 148 .، الخاصة بإعلان حالة الطواريء لم تبين ما هي الضوابط المبني على اساسها إعلان الطواريء اي لماذا تعلن حالة الطواريء .، كما أنها قالت بموافقة اغلبية مجلس الشعب و الأغلبية هي " النصف + واحد " و هي أغلبية مملة و هي شرط الموافقة على قانون الطواريء لمدة سنة اشهر ، فمن المفترض ان يكون على الأقل ثلثي مجلس الشعب كاشتراط للموافقة لتكون اغلبية محترمة و ان لا تمد حالة الطواريء أكثر من الستة اشهر إلا باستفتاء شعبي عام و لم تبين كيف تكون حالة الدولة من وقت انتهاء العمل بالطواريء حتى إجراء الاستفتاء .، أي انه يمكن النظام وقتها من استخدام الطواريء لاكثر من ستة شهور لحين الاستفتاء الشعبي .، أي انه وجب التنويه عن الاستفتاء قبل انتهاء مدة الستة شهور للتمديد .، و هو ما يضمن عدم الالتفاف حول الصياغة

بالنسبة للمادة 189 .، الخاصة باقتراح وضع دستور جديد بعد انتخاب مجلس الشعب و الرئيس و هو ما يعني إلغاء دور الشعب في وضع دستورهم الثوري الذي قاموا من أجله و أطاحوا بنظام قديم و هو ما يتيح الفرصة للمجلس القادم الغير معروف شكله و تكوينه بفرض تعديلات دستورية و فرض شخصيات محددة للجنة المنوط بها كتابة الدستور الجديد فسلب هذا المقترح المصريين الحق فى المطالبة بإعادة صياغة الدستور، ومنحته للرئيس، ومجلس الوزراء، ونصف أعضاء المجلسين .، كما ان المادة 189 مكرر 1 .، قالت بعودة عمل مجلس الشورى المنحل حتى انتهاء فترته المتبقية و بإضافة تعيين ثلث أعضائه للرئيس الجديد .، و هو ما يعني أنه عوار دستوري كامل فكيف يحق لمجلس تم حله عودته و هو التفاف على مطالب الثورة و التفاف واضح و صريح .، و هو ما سنرفضه بشدة و قد حذرنا منه

أخيراً : هذه التعديلات بما فيها من عوار دستوري و بما فيها من تجنّي على حق الثورة في صياغة مستقبل الدولة تجعل من المهم رفضها لاجبار القوات المسلحة على الاختيار الاخير و هو كتابة دستور جديد بإنشاء لجنة لاعادة دستور جديد و تسليم السلطة لمجلس رئاسي يدير الدولة و يكون للقوات المسلحة ممثل فيه لحين الانتهاء من كتابة دستور و انتخاب مجلسي النواب و من ثم انتخاب رئيس جمهورية

يناير 13، 2011

قراءة في رواية طوفان صدفي .، لسعدي الزيدي


" الأفعال قرينة شيء يمور في الرأس و للرجل الذي يترصد الأعداء و الأصدقاء أن لا يبادر إلى إعلان خفاياه فالزمن مثل هذا المحكي عنه ، يحتاج إلى رفعة عجيبة و اعتداد بالنفس ، أوصد كل الأبواب عن فراغ بيتك من السلاح فالأبواب الموصدة وسيلة دفاع حكيمة ... "

ما بعد الكفاية ..، من وصايا الشيخ .
جزء مقتطع من الطوفان الثاني من الرواية

ـــــــــ

بداية يمكن أن تتخذ الحكاية و إن بدا لك تسميتها رواية أوجه عدّة ترتدي في هيئتها ألف رداء سردي و تتشكل مع القاريء بمقدار ما يمكنه الدخول لعالمها ليمثل أحد عناصرها المحكية ، فطوفان صدفي هي حكاية تتخذ من التاريخ مرجعية تقيم عليها الزمن الذي يبدو للوهلة الأولى زمن سحيق لا داعي من استحضار تفاصيله ، فالشخصيات تحمل على كاهلها إيضاح ما طرأ عليها من زمن امتد في فهم ما لقرون و في فهم آخر لدقيقتين ما يعني أن عملية تشتيت مقصودة أرادها " سعدي الزيدي " بوعي تام لعنصر الزمن ، أيضا فالمشاهد المكانية بين جبل و قرية توضح بعض معالم الزمن حينما يصف صورته بمونتاج عالي الجودة ليصل القاريء في النهاية أن الحكاية / الرواية التي بين يديه عمل زمني احترف صانعه في إيجاده و خلقه بصورة مشوهة ليبني به عالم تاريخي و حاضر في نفس الوقت و ربما مستقبلي أيضاً ، تتعدد فيه مستويات و علاقات الزمن داخل النص السردي بما يحمله الزمن من حدث و ما تقوم بتأديته الشخوص ليتعدد الزمن بين زمن يحمل النشيد أو الفكرة داخل عقل و وجدان المبدع و زمن للحكاية نفسها و تتعدد داخله الأزمنة بجانب زمن للقراءة و زمن أخير وهو زمن التحليل الذي يتورط فيه المتلقّي لينخرط داخل الطوفان الذي يصوره لنا " سعدي الزيدي " بتاريخه الشخصي .

يمكن القول أن هناك تناقض بين زمن الوحدة الكلامية " الجملة " أحادي الخط بينما زمن الحكاية متعدد الأبعاد بحيث يمكن أن تحدث عدة أحداث دفعة واحدة في لحظة زمنية واحدة و لكن النص السردي لا يستطيع استيعابها جملة واحدة فيضطر إلى عرضها الواحدة تلو الأخرى تحت شكل صورة معقدة السطح مطروحة على خط مستقيم برع السارد في طوفان صدفي أن يأتي بضرورة بتر التعاقب الطبيعي للأحداث ليضع روايته / حكايته كفيلم سينمائي قائم بالأساس على عملية قص المشاهد و منتجتها ليجلب معه مفهومين و بالتالي يولّد مفهوماً ثالثا جديدا هو الذي أراد لنا " سعدي " فهمه من خلال بناء روائي محكم الصنع .

يدخل بك " الزيدي " مباشرة بصدمة لواقع لم تشهده و لم يشهده هو شخصياً و ربما صنعه في مخيلته الموصومة ببعض الفهم التاريخي للزمن و ذلك الواقع الغير محكي تاريخياً و بدون تمهيد منطقي أو أكليشيه معتاد طفق الروائيون بوضعه كاستهلال لما يمكنهم قوله فيما بعد و مع بداية الروي تشعر بتسارع ما للحدث سيكون مولد للإيقاع و ليرسم قطاع عرضي عن وعي تام للعالم / الحكاية حيث يبدأ الرواية فيقول : " في المدينـة التي نقطنهـا مكـث الجلائريـون ، فـي سنـة مـا ، أعقبهم برابرة و قبـل هؤلاء و أولئك سَخَرَ الفوضويون من برابرة النهر لزوارقهم الأطفال و اتخذوا الصبايا خليلات ، و غضب الجلائريون و هكذا مات البرابرة الفوضويون الذين سبقوهم و البرابرة بعدهم بفيضان الرائحة العطنة من النهر و مخارج الجلائريون و سميت تلك السنة بعام العطونة ، و على مسافة ساعة يقطن مزارعون لا تخمد همتهم من البذار و الحصاد - موقع العطونة - الذي صار حياً سكنياً ... " .

في الفهم العام لسياق الرواية يتضح أن " الزيدي " يبرز وظيفة " سياسية ، اجتماعية ، دينية و فكرية .. " لشخصية من شخصيات التاريخ و يطمع في تخليد بيئة من البيئات فجاء بغير الحقيقة التاريخية و لم يعبر إلا عن أيديولوجيته هو و آرائه الشخصية غير الحيادية دون أن يكون عبر بالضرورة عن تلك البيئة التي اكتشفها في الواقع لينقلها بكذبة كبيرة ضمن إطار أدبي خالص يحاول فيه تأكيد كذبته لتكون واقع ملموس لتاريخ لم يعرفه غيره .، إلا أن مهارة السارد هنا تكمن في أنه استطاع بكل ثقة و وعي الكتابة دون الجنوح لمنطقة الحكي التاريخي فحسب بل في منطقة بناء عالم سردي يستطيع في النهاية أن يطلق عليه رواية و إن سماها البعض تاريخية ، " سعدي " خلق من تاريخية الحكاية محاولة لتأويل الوقائع و استخدامها بمنطق الأسطورة أو الرمز الذي يحيل لما هو أبعد زمنيا و فكريا بل نلفيه أيضا اتخذ من تلك التاريخية إطارا خياليا خصبا منه يتفجر معنى الظاهرة الثورية إذ يبرز عدة مستويات فهم لعملية الثورة من خلال شخصية " إبراهيم الممتدة في إسماعيل " الذي حمل إرث أرضه و بيئته و من ثم فضح حنين عارم للثورة ضد القدر نفسه .

عند تحليل الرواية التي اجتزئها " سعدي الزيدي " لثلاثة مراحل من الطوفان فإن المتلقي يجد نفسه أمام تقسيم زمني بحت للماضي و الحاضر و المستقبل بالترتيب العقيم لمعانيهم في الرواية / المحكية .، قد يكون عاب الرواية هذه التقليدية في الترتيب المنطقي ذلك الذي جانب السارد الصواب فيه إذ بني شجرة من الزمن ربما حاول أن ينداح الماضي فيها في الحاضر ليستلهما المستقبل لكنه فشل في ذلك فظهر الماضي جليا في زمنه و الحاضر و المستقبل أيضا في محاولة فاشلة أيضا في استخدام تكنيك الرؤية من الخارج و وقع أيضا في فخ الرواي بالرؤية المصاحبة و هذا ليس عيباً فنيا لكن وضوح المحاولة الفاشلة في الروي من الخارج ظهرت في اللحظة الذي ظهر فيها أسلوب " الزيدي " في الروي المصاحب ، ليجد المتلقي نفسه أمام رواية تقليدية في تكنيك البناء و تقديم الزمن بالرغم من استخدام السارد لتقنية الروي التاريخي الذي قدمه بدقة و بجمال فني يحسب له نجاحه فيه بهذا القدر و نادرا ما نجد كتابة سرد روائي تاريخي بهذه الدقة في الصنع ليظل النص أدبيا لا يجنح ناحية التاريخ .

كذلك نجد النظرة التقليدية إلى الصلة بين الراوي و شخصيات روايته تمثل في أنه يعرف كل شيء عن هذه الشخصيات و هو بالضرورة أعلم منها و أدرى و على أنه لا أود البحث عن علم الراوي بقدر ما ابحث عن نفسية الشخوص و الغوص في تركيبتها التي جعلت منها شخوص غابرة بهذا المنطق الذي قدمه " سعدي " حول إمكانية أن يكون إبراهيم الانقطاعي شخص يعيش في هذه اللحظة معك ، فإبراهيم الذي حمل وصية إعادة إعمار القرية التي طالما طردته و اعتبرته ابن حرام ، كان عليه أن يكون الأب الشرعي للقرية و أبنائها و زوج النساء جميعا من بقوا بعد كارثة الطوفان الأول الذي أخذ في طريقه رجال القرية في معركة دموية لم و لن تفهم أبدا وقت حدوثها ، لكن عليك أن تصدق نتائج المعركة الدموية التي أودت بكل الرجال في حمام دم لم يبق منهم غير إبراهيم الذي قادته الصدفة و تعاليم شيخ القرية للخروج قبل المذبحة ليظل هو حامل تاريخية المنطقة و إن كان سيعبث ببعض التفاصيل وقت ما ليصبح هو المنقذ الأول و الأخير لسلالة القرية ليعوض بعض من نقص صاحبه طول سنوات عمره التي عاشها مطرودا و مكروها من أهل قريته و هو الآن بعد كارثة الطوفان الأول السيد الأوحد و راعي النساء و زوجهم في شريعة لم و لن تأت على الأرض أبدا ابتدعها إضافة لما ابتدع الزيدي ، لأن يصبح إبراهيم الأب الأوحد الذي تزوج سبعين امرأة و ليمتد تاريخه مع ابنه إسماعيل الذي جاء قبل الخراب .

عند النظر داخل تكوين شخوص رواية طوفان صدفي نجد أننا أمام شخوص تم صناعتهم بحرفية صانع الأحذية الذي ما فتيء يورث بلادته في الشعور بخام الجلد الذي يبني منه الحذاء تماما كما سلخ " الزيدي " شخوصه من الحياة ليوضحوا فقط ما يود قوله عن تاريخية حكايته الأسطورية أو الرمزية ، فلا هو قدم الشخصية بحيث هي كائن حي له وجود فيزيقي أو شخصية منمحية متضائلة الملامح ، فقط بني " الزيدي " شخوصه كأعمدة بناء الحكاية التي توضح فكرته عن الوجود و الثورة ضد الوجود ليصبحوا جميعا " الشخوص " كائنات ورقية مشيئة غير معترف بوجودها على الإطلاق تعمل لحمل المتلقي لتعرية طرف من نفسه كان مجهولا لتكشف مظهرا من مظاهر الكينونة ما كان ليتضح لولا الاتصال الذي حدث عبر حكاية / رواية طوفان صدفي ، فإبراهيم هو جانب خفي من جوانب النفس البشرية لكل منا و كذلك إسماعيل ، استطاعا تعرية أجزاء منا نحن الأحياء العقلاء .

في الطوفان الثاني الذي قاده إسماعيل ابن إبراهيم الانقطاعي و هو كما وضح من خلال الروي انه مصاب بداء نفسي ألزمه سن الطفولة بينما هو شيخ مر عليه قرون من الزمن ، فإسماعيل الذي يعيش الطفولة بكل تفاصيل اللهو و العبث و يشاركه الأطفال وقته ما هو إلا شيخ يحمل تاريخ أباه إبراهيم و هو تاريخ القرية الذي تنصّل له جميع الأبناء الذين خرجوا من ذرية إبراهيم الانقطاعي على حسب مروية " الزيدي " و بشريعة زواجه من السبعين امرأة ، لكن خرج الجميع يعرفون أمهاتهم و لكنهم لم يعلموا لهم أب غير أن إسماعيل كان عالم ببواطن تاريخ قريته رغم ما يعانيه من مرضه النفسي .، لكن طفق " الزيدي " في توضيح معالم مكانه / القرية الجديدة ، إضافة إلى وضوح الراوي كشخصية من شخصيات الرواية التي صار يتضح فيها معالم السرد كقطعة أدبية أكثر من كونها تاريخ إذ بدا الزمن الحاضر للعالم الذي بدعه " الزيدي " يمثل رهان لصدق الوقائع .

الشيخ في الطوفان الثاني هو امتداد للشيخ في الطوفان الأول بالمثل إبراهيم و إسماعيل و كأنهما شخص واحد لكن تغيرت هيئته و معالم حياته و لغته و هو انتقال عبثي للزمن حاول فيه السارد تشتيت المتلقي لكنه وقع في فخ عادية الانتقال من الماضي للحاضر لأنه لا سبيل لديه للإقناع بالوقائع غير الانتقال تاريخيا من الماضي للحاضر بهذه المنطقية ، فالشيخ في الطوفان الثاني يبدو و انه لا يمت بصلة للشيخ في الطوفان الأول و بالتناقض نجده يكمل وصاياه ، و يصدمك " سعدي الزيدي " بإرهاص في نهاية الطوفان الثاني يدمر كل ما له علاقة بنوعية الكتابة السردية / الروائية ، إذ حوّل تاريخية السرد إلى وقائع علمية لم أجد دافع من ذكرها بهذا الشكل على طريقة بيان لجماعة بحث في تاريخ الجيولوجيا أو في تاريخ الأنواع و السلالات البشرية .، ليدمّر الإرهاص ما كان قد أسسه المتلقي و ما أسسه الراوي بنفسه في المحكية لا لشيء غير إثبات الوقائع و كأن " الزيدي " يوثق لتاريخ ما يحاول دعمه بهذا البيان عن صدق ما حُكي في الطوفان الأول و الثاني و هي محاولة طفولية أكثر من كونها بناء سردي داخل الرواية ليوضح انه لا يكذب و أن ما يقوله هو الصدق بالرغم من ثراء ما سبق الإرهاص ذلك في توضيح المحكية على أنها أسطورة ترمز لما يودّ قوله السارد .

الطوفان الثالث الصدفي الذي أكّد لنا " سعدي الزيدي " أنه حدث بالفعل رغم أن التاريخ المدون لم تسعفه ذاكرته ليدون أحداث طوفانه ذلك و الذي أكد أيضا أنه ليس طوفان نوح ، نجد أن محاولة سرد الزمن على انه مستقبل فشل ليصبح الزمن حاضر متقدم أو بالتعبير الإنجليزي حاضر مستمر و لكنه على كل حال يصبح المستقبل الذي سبقه الطوفان الأول و الثاني و ما جعله حاضر مستمر هو استمرار إسماعيل لكن في حاضرة جديدة عكس القرية التي صارت مدينة برداء المدنية الجديد .، المدينة التي احتمى بها تاريخ إبراهيم الانقطاعي و حافظ على سره و وصاياه إسماعيل تلك الشخصية التي برع " الزيدي " في إحكام توضيح معاناتها خصوصاً في الفصل الأخير من الطوفان إذ بدا رجل فصامي عاش ما عاش بشخصيات عدّة مكنته من الاستمرار كل تلك السنين محافظاً على سر قريته و تاريخ أبيه و أجداده ، ليحارب في النهاية جيوش الأعداء الغير وهمية التي طمعت في خير قريته / المدينة و في تاريخها و ثرواته ليدفع حياته ثمن الحفاظ عليها .

مع الانتهاء من السرد تماماً تجد نفسك أمام تاريخ أسطوري يرمز للواقع الحالي الذي كان مقصوداً العمل على توضيح معالمه ، و نجح " سعدي الزيدي " في رواية ما يود روايته عن تاريخه هو الشخصي و كأنه هو الراوي الذي لعب دوراً متأرجحا بين كونه هو البطل إسماعيل و بين كونه هو السارد " سعدي " و بين كونه راوي شهد فصول الحكاية بأكملها منذ كان الطوفان الأول و للنهاية بموت إسماعيل .، تجد أنك تلقيت حكاية أقرب للسرد اللفظي " الحدوتة " منها للحكاية التاريخية المبتكرة أو الرواية ، لكن نجاح الروائي هنا في جعل هذه " الحدوتة " عالم يتحرك معك لتصير رواية .، و هي قدرة إبداع الكاتب .

يمكن القول أن الرواية استخدمت لغة سردية تلعب في منطقة وسيطة بين الشعر و الحكي ، لغة أنيقة عبقة مختالة فالروائي فطن لكون اللغة هي أساس الجمال في العمل الإبداعي بعد أن فقدت الشخصية كثيرا من الامتيازات الفنية التي كانت تتمتع بها داخل السرد .، و عالج بشكل يُحترم أيضا مستوى اللغة عند الحديث عن كل شخصية أو بلسانها سواء كانت قائمة بالحدث أو يقع عليها ، فلكل شخصية مستواها اللغوي فعند الحديث عن الشيخ تتبدل اللغة إلى محاولة كتابة بمفردة تحمل إيقاع و فهم صوفي و عند الحديث عن إبراهيم / إسماعيل تتحول اللغة إلى فصيحة محلية و تتحول مع إسماعيل الطفل المصاب بمرضه النفسي تصبح مفردات غير مفهومة .، كما أن " الزيدي " برع في نقل الحكاية / الرواية بلغة الراوي بالرغم من وضع تصور عن كون الحكاية تدور في واقع تاريخي منفصل بلغته عن لغة الراوي / الحاكي .، إضافة لبراعة في استخدام اللغة الوصفية لنقل الصورة / المشهد كما هو في الوقائع التاريخية التي يرصدها الزيدي معبرا عن عالمه الذي بناه أسطورياً كان أو واقعياً .، فالكاتب استطاع أن يتكئ تماما على اللغة ليبرزها قلقة متحولة متغيرة متحفزة لينهض بها البناء الفني مُراعياً المتلقي المفترض دخوله للنص كشخص أساسي من البناء ، لكنه لم يصل لمرحلة أن تكون اللغة هي الغاية من الرواية و هو بذلك نجح في فرض قدرته على استخدام اللغة كعنصر يرتقي بالنص مع أخذه في الاعتبار عدم الانتقال بحدّة من مستوى لغوي إلى آخر كي لا يصاب المتلقي بصدمة النشاز و هو ما استحسنته في الرواية إضافة إلى إيقاع السرد الذي حافظ عليه " الزيدي " كونه سارد يمتلك أدواته الفنية بدقة . نجده يتمكن من استخدام المناجاة بحرفية عالية لتصير اعتراف الذات للذات بعكس اللغة الحوارية التي لم يعتمدها في روايته تماما بل استخدم لغة حميمية تندس ضمن اللغة العامة المشتركة بين السارد و الشخصيات و تمثل الصدق و البوح و الاعتراف .

أخيرا من المهم توضيح في جملة ما تم توضيحه أن رواية طوفان صدفي استخدمت حيزا بكل تفاصيله " الزمن و اللغة و الإيقاع " ضيقاً للغاية بحيث صار الحيز عقاب قسري للشخوص الذين لم تتاح لهم فرصة الخروج عن الحيز الذي رسمه " الزيدي " بحرفية , و بقدر ما كان الحيز متسع كرؤية فنية كان ضيق كجغرافيا الشخوص الذين عاشوا بامتداد القرون تاريخيا كما أراد لهم الروائي داخل قرية الخراب التي و إن اتسعت في مساحة غير معينة بأسطوريتها إلا أنها ظلت ضيقة على الشخوص بحيث لم يحدث انتقال مكاني للأحداث .، و يتسم الحيز الروائي في طوفان صدفي ممثلاً في القرية في معظم أطوار مثوله بالجمالية و الإيحاء ليصير أحد عناصر الرواية بإتقان جعله كائن يعي و يعقل و يشهد و يروي و يضر و ينفع ، إضافة إلى أن استخدام الوصف كتكنيك ظهر قليلاً متوحدا مع مستويات اللغة ليؤكد أن الروائي " سعد الزيدي " كان منتبها لكل تفاصيل الكتابة الروائية ليحكم روايته على القدر الذي يجعلها رواية تعبر عن قلق النفس البشرية تجاه العالم .

ــــــــ

مقطع من الرواية ..
....
لا الخيول حقيقة و لا صويحباته واقعهن ، لكنه إسماعيل الولد ، نكتة القرية التي صارت مدينة تتحكم في مصائر المدن ، فهي قلب الطريق ، المفترق إلى المدن الأخرى ، و ابن هذا المفترق " إسماعيل " الولد الغريب و مثلما المفترقات في فروعها ، تحكم إسماعيل في أقاويله ... نطق بأكذوبته الأولى : " حلال دم الغزال " .، فاز في مناطحة ثور المختار و خسر المختار ثوره .. باح بأسرار البستان و أشخاص اللقاء و دون أن يدري استقالت الوزارة فكان السبب في أزمة من أزمات المملكة الفتية .. شكر السيد على إطعامه القشدة المغمسة بالكاكاو .. فضح العلاقة بين السيد و أرملة مأذون القرية ... و ...... ، و هكذا صار إسماعيل مشكلة مدينة قديمة تثار في شوارع مدينة حديثة ، و لهذا تنكر أبي لطفولته معه .. صاغ الشيوخ أقوالاً أخرى غير المروية على لسان الجدات عن إسماعيل و إبراهيم الانقطاعي .، قال جارنا لأبي : علينا أن نبتر الحكاية و نلجم فم إسماعيل فما هي الحكاية ، أيثير هذا المستديم بطفولته رجالنا . اضحك بقوة من هؤلاء و خوفهم من أفعال إسماعيل و هي أفعال طفل لا يتجاوز العاشرة ، القيمة على معيشته و هي حفيدة أخته قالت للناس عليهم احترام حقوق شخص مريض ، صحيح انه غير مثمر لكن قتله جريمة ... " عليكم روح النبي لا تمسوه بضير .. " .، صحنا جميعاً نحن الأطفال : لِمَ تخافون طفلنا إسماعيل .، في طفولتنا ، صَيـرنا إسماعيل بعيراً و طالما فعلنا ذلك أنا كنت قرب رقبته ، لا ادري كيف تسلقت على ظهـره الأملس كالحجارة و بقية الأولاد احدهم على ذراعه و الأخر على وسطه و هكذا ظـل يركـض و يخب كالفرس .. ها .. انحنوا .. انحنوا سندخل طاق السلطان ... باشا .. باشا .. باشا ، صيحوا حياكم ، ظل يصيح و نحن لا نفهم شيئا لكننا نعرف إننا نلعب لعبة السلطان و الجندرمة ... كدنا نسقط من على ظهره إذ انفعل كثيراً و بدا يصيح بوجه الجيوش القادمة و نحن لا نرى شيئاً ، و هو يتفاعل مع حرب موهومـة ... انظروا : دخلوا من جهة الفتحة ، الجهات جميعاً مغلقة و القرية محُاطة بشبه سور و الفتحة الوحيدة تقام أمامها مئات الخيام يعسكر فيها الجند و القرية التي هجرها أهلها تقطن فيها عشر نساء فقط ، كن قد خسرن محاولات إبراهيم إذ واقعهن مرتين أو ثلاث ، قالت واحدة منهن " غير مقسوم الرزق من جماعتنا ... " .
تضاء مصابيح الزيت ليلاً و تعلق عند الواجهة أمام البيت و عند المغيب ، تصير المصابيح دليلاً لضيوف يمكثون دقائق معدودة و يعودن بعدها إلى الثكنة ، و طالما رسم إبراهيم فخاخه في منتصف المسافة بين الفتحة ، و البيوت ، يحار أحياناً كيف التخلص من عدم السقوط في أي قبضة ، سواء بيوت النساء أم خيام الجيش ، ... و نحن نركب ظهره اهتز جذعه بعنف و يبدو انه نسي مجموعة الأولاد التي تمتطي ظهـره و ظـل يصيح بأسماء نساء ليس لهن وجود في عصرنا فتلك فخرية ، و نبيلة ، و مجدية و عامرة ، ظل يسرد في الأسماء حتى عضه احدهم و شتمه محتجاً علـى ورود اسـم جدتـه مع أسماء النساء عشيقات جنود الاحتلال الباشوي ...
في الحقيقة أن " مجدية " هي جدة والدي و " عامرة " جدة والدتي الرابعة .. اغتاظ أبي كثيراً إذ عرف بذلك و هكذا امسكوا به مساءَ و قيدوه بالسلاسل حتى يكف عن ذكر الأسماء ، لكن جسده الثقيل ظل يحتمل كل هذا الهول .. لكننا بدأنا نعرف أسماء جداتنا .

ــــــ

ببليوغرافيا :

سعدي عوض الزيدي
قاص و روائي
عراقي من مواليد 1962 , الشطرة / ذي قار
أكاديمي عمل في الصحافة و اتحاد المؤرخين العرب
صدر له :
رغوة المسافات - مجموعة قصصية
وداعاً أيتها السنة القادمة - مجموعة قصصية
الحب - نص مسرحي
طوفان صدفي - رواية
للتواصل معه :
sady_bagdad@yahoo.com
ــــــ
اللوحة : سيروان باران عارف

يناير 01، 2011

فقراء


وحدهم يصنعون من لحمهم العاري الملطخ ببقع حمراء من حكة ليلة أمس جمال العالم
ينامون بلا أية أمل في الغد
لا يحلمون
نومهم محض صدفة يلتقون بالموت و الجنون في عالم آخر تحرسه الملائكة .

وحدهم الفقراء ملاك العالم ، لا يشاركهم فيه غير ثلة من الأثرياء
قبل أن يمضوا مع فراغهم المرتبك
يناولون بأياديهم الخشنة بخفة ما يصنع من الخجل تمثالا يتحدّى بوادر الذبول الأكيد .

من يوقف عناء الفقراء
هم يشتهون أن تثمر الأرض ببقايا عصافيرها متنسمين لفحة من حرية مغصوبة
يبتهلون للرب الذي في الأعالي من نسيهم ذات مساء حزين
أن تشتعل البغضاء بين قنابل الأثرياء
يصلّون من أجل يوم سعيد
و يوم بحلم

الدقيق فاكهة الفقراء ألذّ من عسل النحل حين يجدوه
و النار ضياء أكواخ شادها الفلاحون
من طين و غناء
يألفون العيش في بيوت شادوها من الصفيح و من طمي النيل و نزف القلب
بيوتهم تلك التي تشبه وجوههم المشدودة بنار تاريخهم المقيت
يقضمون التراب رغيفا

لطفولة فقيرة طائشة تمصُّ أصابعها على غفلة من الآباء و الأمهات
لوطن يختنق بغاز الأعصاب
لسماء كفروا بها قبلا
انتحر ضوء مصابيحهم النيون الموفرة للكهرباء
ينتظرون دائما من يدفع فاتورة واحدة عنهم
لينمحي الغسق من خرائط العتمة في صناديق المهملات و الجيوب الفارغة

ربما يخونوا حواسهم
ربما يطفح موج الانتظار ببقايا الأمل
قرب مرور الأجل
ربما يسقط الأثرياء من ملكوت عليائهم لمصائر ما كانوا ليتهجّوا عذاباتها

لغة القلب ماتت منذ انتزعوا منهم شرارة البدء
لغة العين مفقودة
لغة الشفاه نداوة افتضاض الزهر
لغة الجرح آنية من حريق
لغة الحرمان موروثة من تشظّي التكتم ، ما فتئوا يشعرونه

أقبلوا أيها الفقراء
الوطن يتدثر بثياب البنفسج
و لا خيار بين خفقان القلب و نبض بندقية
ها هو الموت يزحف في خطوات سريعة نحو قبوركم و يعانق من يشتهيه
أيها الفقراء
الجرح ينزف كالمطر
و يرسف في دمه كطائر مذبوح
أيها الفقراء إن امتشاق الجمر أجمل ردٍ و هو معنى من معاني الكبرياء

وحدهم كل ما يختاروه يؤول إلى صراع يقود إلى عزلة مقيتة
و يفقدون على إثرها أحلى الأمنيات
و ما يُحارب في سبيله ، قد يبدو جريا وراء سراب

يا ربهم
عابدوك لم يبرحوا تماثيلك و الفقراء بين منتظر و شاهد
أضيء ظلام العالم بنار تنضج فيها جلود و لحم ضان
أيها النائم في كهفك العالي هانئا معافى راضيا بعذاباتهم
انهض
قد بنفسك مدارات الأرض و السماء
فأرض الفقراء قد أُجدبت
و مُرْ عابديك أن يهجروا خوفهم من ظلم الأثرياء
الأثرياء مالكوا العالم الضيق
و ارحم الفقراء من غسل أقدامهم
و تمشيط شعورهم بأمشاط العاج و الياقوت

خذوا نصيبكم من الكعكة و امضوا
هكذا قالت الأرض
لكنهم أخذوا نصيبهم من الألم و مضوا
و لم يبق لهم سوى الهروب من النوافذ

ــــــــــــــــ

اللوحة : عبد الرحمن شوان