مايو 16، 2010

تهبط نحو الجنوب .. حمزة الدين .. الأيقونة السمراء

Hamza El Din - Griffin
أدخل العود إلى الموسيقى النوبيّة ، و آلة « الطار » النوبية إلى الموشّحات و الكلاسيكيّات العربيّة . عزف مع تيلينيوس مونك ، و شارك في « وودستوك » ، و مات مجهولاً في العالم العربي الموسيقي النوبيّ حمزة علاء الدين الذي رحل بصمت ، تماماً كما عاش : تجاهلٌ عربيّ كامل ، و احتفاء غربيّ . يُعَدّ حمزة الدين ( الاسم الذي اشتهر به في الغرب ) الذي ولد في قرية توشكي على الحدود المصرية السودانية ، أوّل ـ ربما أهم ـ مَن اشتغل أكاديميّاً على التراث الموسيقيّ النوبي بصيغته المعاصرة : التلاحم مع التراث العربي الذي نشأ عن التجاور في السودان و مصر ، بطريقة لم تعد الموسيقى النوبيّة موسيقى إثنيّة مغلقة على اثر هذا الجهد الذي بذله المبدع حمزة . أول إنجازات حمزة الدين أنّه أدخل العود إلى الموسيقى النوبيّة ، و بالعكس ، أدخل آلة الإيقاع النوبيّة « الطار » إلى الموشّحات و الكلاسيكيّات العربيّة . كل ذلك بصوت رعويّ شجيّ . كذلك كان من المؤثرين في الطفرة الموسيقيّة الأميركيّة في الستينيّات و السبعينيّات ، فكما أبهر رافي شانكر فرقة الـ « بيتلز » في بريطانيا ، كان تأثير حمزة علاء الدين مشابهاً على جون بايز وبوب ديلان في أميركا . ولد حمزة الدين في عام 1929 في توشكي التي غمرتها بحيرة السد العالي . بعدما اجتاح الفيضان قريته ، انتقل مع عائلته إلى القاهرة ، حيث درس الهندسة الكهربائية في القاهرة ، و عمل في سكة الحديد المصريّة ليوفّر نقوداً كي ينخرط في دورة موسيقيّة لدراسة الموشّحات في « معهد إبراهيم شفيق للموسيقى » . هناك بدأت أسئلة الهويّة تقتحم الشاب النوبيّ ، متأثراً بطغيان موسيقى أم كلثوم و عبد الوهاب التي كان يسمعها أينما ذهب ، متسائلاً عن هويته النوبيّة ، ما دفعه إلى القيام برحلة دون كيخوتية على حمار في قرى النوبة لتوثيق التراث الموسيقيّ النوبيّ . حصل الدين على منحة من الحكومة الإيطالية عام 1959 لدراسة الغيتار الكلاسيكي و الموسيقى الغربيّة في « معهد سانتا سيسيليا » في روما . هناك ، مرّر زميل له موسيقاه إلى صديقته الموسيقيّة و الناشطة السياسيّة جوان بايز . و عندما انتقل إلى أميركا في 1962 ، كانت بايز قد روّجت له و وظّفت علاقاتها لإنتاج أسطوانة للشاب النوبيّ الذي لقّب بالـ Virtuoso . هكذا ، صدرت أسطوانة « موسيقى النوبة » عام 1964 ، و فتحت له أبواب الموسيقى التي كانت الطريقة الشعبيّة الأسهل و الأعمّ للتعبير عن انتفاضة الشعب للمطالبة بالحقوق المدنيّة المتساوية ، و ضد حرب فيتنام . شارك حمزة الدين في « مهرجان نيوبورت للموسيقى الإثنية » ، ثم شارك فرقة Kronos Quartet في « مهرجان وودستوك » ، و عزف مع عازف البيانو المؤثر إلى الأبد في موسيقى الجاز تيلينيوس مونك ، و مع فرقة الروك الشهيرة Grateful Dead . و أصدر في عام 1972 اسطوانته الأشهر « الساقية » . عمل حمزة الدين مدرّساً للموسيقى الإثنيّة في جامعات أميركية عدة ، في أوهايو و واشنطن و تكساس ، قبل أن ينتقل إلى اليابان في أوائل الثمانينيات ليعمل مدرّساً للموسيقى النوبية في جامعة طوكيو . هناك ، انجذب إلى الآلة الوتريّة اليابانيّة التقليدية الشبيهة بالعود « بيوا » و راح يجري أبحاثاً عنها ، و يصبح نجماً في اليابان تحتفي به وسائل الإعلام و يُستخدم اسمه في الإعلانات . هناك أيضاً ، التقى بزوجته اليابانية التي اتّخذت اسماً نوبيّاً : نيبرا . عاد حمزة الدين إلى أميركا ليستقرّ في سان فرانسيسكو ، و يتفرّغ للعزف و التأليف ، و يصدر أسطوانة « موشحات » ( 1995 ) ، و « أمنية » ( 1999 ) ، قبل أن يموت إثر مضاعفات عملية جراحية في عام 2006 . رغم إخلاصه للموسيقى النوبيّة ، صرّح حمزة علاء الدين في محاضرة في « جامعة بنسلفانيا » عام 2001 بأنه « خرّب الموسيقى النوبيّة » لأنّ هذه الموسيقى تُغنَّى بمرافقة « الطار » فقط ، فيما أدخل هو العود إليها لأوّل مرة . قد تكون تلك ملاحظة متطرفة تستدعي أسئلة الهويّة لدى الموسيقي النوبيّ ، لكنها ملاحظة مشروعة ، و يمكن إمرارها لمئات الفرق العربيّة التي يبدو أنها تستمتع بإطلاق التصنيفات الموسيقيّة كـ « روك عربيّ » و « جاز شرقي » و حتى « راب فلسطيني » منفتحةً على الأنواع الموسيقيّة العالميّة ، لكن ، متناسية معنى أن تكون لها هويّة .

مايو 14، 2010

عبير النصراوي .. من بعيد



أحيانا تجد نفسك أسير لصوت ذات طابع مختلف تماما - بالتأكيد - عن كل ما سمعت من قبل و إلا ما كنت شُدهت لأول مرة أسمع فيها صوت الست عبير النصراوي . لأول مرة عندما تسمعها في وصلة غناء من طراز الغناء الصوفي يتأكد لك مبدأ سحر الصوت و هنا الصوت يحمل كل تراثية و حداثة الغناء العربي . سمعتها في تسجيل لحفلة المدينة " تونس " في دورتها الـ 26 و هي تجمع بين حالة الإنشاد الإسلامي و الترنّم المسيحي ، حالة من الخشوع و صفاء الذهن و التمكن من أدوات إنتاجها , الصوت المصحوب - إن جاز التعبير - بفلسفة خاصة و نغمة قلما تجدها بصوت يطربك مضاف إلى كل ذلك إيقاعات صوتها التي تعرف جيدا كيف تعلو و تهبط مع الموسيقى المصاحبة . كل ذلك يمتلكه صوت عبير النصراوي الذي لم أجد تعبير حقيقي أو واقعي لوصفه ، من الممكن أن يكون صوت من الماس إذا تعاملنا معه بقيمته . بحثت كثيرا عن تسجيلات لها ساعدني في ذلك بعض الأصدقاء المقربين لها و تمكنت من الاستمتاع بصوت المطربة الكبيرة عبير النصراوي .
فلسفة خاصة تصاحب ذلك الصوت , نعم فلسفة خاصة لا أعرف كيف أفسر فلسفة صوت عبير النصراوي , وحده الهواء هو من يمكنه نقل مفهوم تلك الفلسفة , صناعة المفارقة بتلوين أداءها و انتقالها في الغناء من مقام لمقام و تأدية أصعب الألحان الخالدة التي أدتها من قبل السيدة أم كلثوم بالإضافة إلى تأدية ابتهالات و ترانيم صوفية غاية في الجمال ترانيم من طراز الحضرة التونسية التي تعتمد أساسا على قوة و صفاء و خشوع الصوت و ما يدعو حقيقة إلى الدهشة في تأدية الست عبير لتلك الألحان و الترانيم الصوفية هو ندرة الأصوات النسائية التي تؤدي مثل تلك الألحان لاختلاف الأسباب أهمها بالتأكيد قوة و جمال الصوت و صعوبة تأدية مثل تلك الألحان و الكلمات التي تضع المطرب تحت تأثير الانتشاء و هذا كله ما يفتقده سبعون بالمائة أو يزيد من المتواجدين على ساحة الغناء العربي , صوتها المصبوغ بشرقية دافئة و نقاء قرطاجنّي و حداثة غربية و رأس - متأكد - يمتلك علم و معرفة بأصول الموسيقى و الغناء .
فوق خشبة المسرح تقف بكل هدوء و بابتسامة خاصة تأسرك قبل أن تبدأ في الولوج بوصلة الغناء الراقي , تحيي جمهورها بهدوء أيضا , لا تستجدي ثناء الجمهور بالوقوف لتلقي التحية فترة أكبر ، فقط تخطف التحية و تعود لوصلتها , لا تستجديه بابتذال عُربة من هنا أو من هناك , تعرف جيدا أنها تخاطب آذان و لا تخاطب عيون مثل معظم فنانات العصر البغيض الذي نعيشه مع الاعتذار لها و للقليل من الجادين و المميزين على ساحة الطرب العربي المقارنة بالكباريه المفتوح ليل نهار على شاشة الفضائيات العربية .
أن لا تجد هذا الصوت بما يستحقه على ساحة الطرب العربي قمة المهزلة , أن يفسد الذوق العام العربي لدرجة أن أصوات من نوعية الست عبير النصراوي يتلاشى أمام أصوات فاسدة كتامر حسني و نانسي عجرم و أشباههم من ملوثي فن الغناء العربي , أن لا تجد ألبوم يضم أغنيات للسيدة عبير قمة المأساة في واقع عربي هرئ ثقافيا و فنيا , أبسط حقوقنا كمستمعين أن نجد الأصيل و المزيف و نقرر نحن من نسمع , لكن أن يظل المزيف هو وحده المطروح دائما فهذا يجعل الذائقة العامة تفسد أكثر فأكثر فالفن و الغناء تحديدا أحد وسائل تربية الروح و تهذيبها , فإمكانية عودة فن الغناء العربي إلى سابق مجده متوفرة في أصوات عديدة منها عبير النصراوي و أميمه الخليل و وجيه عزيز على سبيل المثال لا الحصر , أسماء كثيرة يمكنها أن تعيد الأغنية العربية إلى عصرها الذهبي , لا أقصد فقط كلاسيكية الغناء العربي فانا ضد العودة إلى تقنيات و أفكار قديمة و مستهلكة , لكن أثق أن أصوات بهذه الروعة و ملحنين و شعراء جادين بإمكانهم صناعة أغنيات من طراز " حبيبي يسعد أوقاته " - أدتها عبير النصراوي من قبل - لكنها تحمل حداثة و فكر و تقنيات العصر , عندما سمعت الست عبير في أحد الأغنيات التونسية على مزيكا سريعة نسبيا فهمت أن هذا الصوت يمكنه أن يحدث فارق في الأغنية العربية إن أراد فهي تمتلك حس و خامة صوت و زوق فني يؤهلها لإنتاج أغنيات خاصة بها تعيد مجد الأغنية العربية .
السؤال الأهم الآن لماذا لا يبذل مبدعون من أمثال عبير النصراوي الجهد الأكبر لإنتاج أغنياتهم الخاصة , لماذا تبقى هذه الأصوات سجينة حفلات و استرجاع أغنيات محمد عبد الوهاب و أم كلثوم و فيروز , قلة من اتجهوا من فرق الموسيقى العربية و من القاعات الصغيرة إلى إنتاج ألبومات و إلى فضائيات العالم العربي لكنهم لم يبذلوا جهدا حقيقيا لإنتاج أغنيات على قدر " غني لي شوي " و " ليه يا ترى " و " الورد جميل " و غيرها . فمثال على ذلك خرجت آمال ماهر من عباءة أم كلثوم لكن خرجت دون وعي و بلا شكل يناسبها فاندمجت في موجة الغناء قصير النفس و الألحان المبتذلة المسروقة من هنا و هناك .
كلمة حق أتوجه بها للسيدة عبير النصراوي , أنتِ صوت قلما ظهر على ساحة الغناء العربي فلماذا لا نجدك بيننا هنا في مصر أو لبنان لإنتاج غنائك الخاص الذي استحلفك بتاريخ الفن العربي الأصيل أن تجتهدي في صناعة أغنية على قدر " هو صحيح الهوى غلاب " لكن تحمل حداثة هذا الزمن و أعرف أنك قادرة على فعل ذلك , نظرا لعلمك بالموسيقى و فلسفتها و دأبك على إبهار مستمعيكِ .
ـــــــ
ببليوغرافيا .. عبير النصراوي

مواليد القصرين - تونس
بكالوريا الآداب 1996
إجازة في العلوم الموسيقية 2001
الدراسات المعمّقة في علم موسيقى الشعوب " السربون " 2003
إجازة في علم الاجتماع " باريس الثامنة " 2005
تحترف الغناء منذ 1994
شاركت في افتتاح مهرجان قرطاج 1998
مهرجان الموسيقى العربي بالقاهرة بمشاركة الفنان العراقي نصير شمه 1998
مهرجان المدينة بتونس 1999 , 2004
ربيع الشعراء 2003
مقام بدون حدود " معهد العالم العربي " 2005
مذيعة في إذاعة مونت كارلو منذ 2005
تقدم برامج " العالم موسيقى - نغم و ذكرى - غني لي "