فبراير 18، 2010

الموت و العذراء .. دورفمان .. قراءة



" أنا ذلك الكذاب ، الذي يقول الحقيقة دائماً "
جان كوكتو


لم تستطع سنوات المنفى الثقيلة والخانقة أن تثبط آماله الكبيرة ، ولا المكان أن يطمس هويته ، فقد قرر لحظة وصوله أمريكا ، لاجئاً ، أن يجعل من كتاباته سلاحاً ، ومن غرفة مكتبه الصغير ، ورشة عمل يومي وساحة حرب ضد من شردوه .. ضد من خنقوا صوت الحرية في بلاده.. ضد وحشية الاستبداد و بربريته في كل مكان .


على أحد جدران غرفة مكتبه المعتم ، كان دورفمان يعلق صورة مواطنه بابلو نيرودا ، كانت تضيء له وحشة سنوات الاغتراب ، وبالقرب منها كتب بخط يده عبارة ، كان استعارها من أحد معارفه القدامى ، الروائي الأرجنتيني " هارولد كونتي " سلفه في المنافي . تقول العبارة : " هنا ساحة الحرب ، ساحة معركتي ، ولن أغادرهاً أبداً " .


كتب دورفمان الشر والرواية والقصة القصيرة والنصوص المسرحية والسينمائية والدراسات النقدية في الأدب والفن . وقد ترجمت نتاجاته تلك إلى ما يقرب الخمسين لغة . .


شغل و ما يزال ، موقع بروفيسور في جامعة ديوك في نيويورك ، لتدريس أدب أمريكا اللاتينية ، إضافة إلى نشاطه كمحرر دائم في صحف واسعة الانتشار أمثال نيويورك تايمس ، لوس أنجلوس تايم ، ناشينال ، فيليج فويس ، وغيرها . عرف عنه أيضاً ناشطاً بارزاً في منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان .

عاد دورفمان إلى تشيلي ، برفقته زوجته وولداه عام 1990 بعد زوال الدكتاتور بينوشيت وقيام السلطة الوطنية المنتخبة ، و منذ ذلك التأريخ وهو موزع بين بلاده والولايات المتحدة الأمريكية وأوربا .


( لابد لأحد ما أن يبقى حياً ، ليروي ما حدث )


لقد تم تصفية الكثير من أصدقاء دورفمان ورفاقه في ذلك اليوم الفاجع الرهيب ، يوم الانقلاب على حكومة أليندي ، في الحادي عشر من سبتمبر 1973 ساعة اقتحام قوات بينوشيت قصر لامونيدا .


أما هو فقد نجا بأعجوبة من موت محتم


كان دورفمان يشغل موقع بروفيسور لمادة الأدب والنقد محاضراً في جامعة تشيلي . وكان ُرشح في عام 1971 مستشاراً ثقافياً ضمن هيئة المستشارين الخصوصيين للرئيس أليندي في قصر لامونيدا .


دورفمان : كان عليّ أن أكون في قصر لامونيدا في ذلك اليوم الفاجع . كانت هناك قائمة بأسماء الأشخاص الذين ينبغي تواجدهم في الأحداث أو الأوقات الطارئة ، وكان اسمي واحداً من تلك الأسماء ، لكن أحداً لم يتصل بي ذلك اليوم ، وتركوني أستمتع بنومي ذلك الصباح .


لم أفهم السبب مطلقاً


وبعد ثلاث سنوات ، وبطريق الصدفة ، قابلت الشخص الذي كان مسئولا عن تنظيم تلك القائمة آنذاك واسمه فرناندو فلوريس ، وفي ذلك اللقاء فقط عرفت سر بقائي حياً


لقد أخبرني فرناندو أنه شطب اسمي من قائمة المناوبة تلك في ذلك الصباح ، وحين سألته عن السبب ، صمت قليلاً وغار عميقاً ، عميقاً ، كما لو أنه أراد إن يسترجع تلك اللحظات المرعبة ثانية .


أخيراً ، تطلع نحوي قائلاً : " حسناً .. كان لابد أن يبق أحد ما حياً ، ليروي ما حدث "


لم تكن ثمة معجزة دينية وراء بقائي حياً ، و لا أؤمن بأن قوى غيبية هي التي أنقذتني من ذلك الموت المحتم . لكنني موقن بشيء اسمه قدر الإنسان أو هو ذلك الشيء الذي يحيل الأحداث التي تمر في حياة الإنسان ، إلى شيء ضروري لابد من وقوعه .


ما فعلته أنا ، حسب ظني ، هو أنني أحلت نفسي إلى راوي حكايات .


وهكذا أمضيت الخمسة والعشرين عاماً الأخيرة أروي قصة شيلي بطرق مختلفة .


الكثير من كتاباتي تتحدث عن إنسان تنتابه فكرة ما تلازمه على نحو دائم ، وهي أنه يعيش كالشبح ، وأن كل شيء ما هو إلا مجرد وهم ، وأن ثمة أناس يموتون من أجل أن نستمر نحن على قيد الحياة . فلزاماً علينا أن نقدم لهم شيئاً ما . كيف يمكننا أن نفعل ذلك ؟ كيف يمكننا أن نتحدث إليهم ، نحكي قصصهم ، ومن أجلهم ، بل وعلى الرغم منهم ، و مع ذلك ، فإن قصصي هي ليست قصصاً عن الموت فقط . كلا ، إنها قصص عن الحياة ، والتغني بها أيضاً .


استوحى الكاتب عنوان مسرحيته " الموت والعذراء " من رباعية شوبرت الوترية التي تحمل ذات العنوان ، وهي قصيدة مغناة من تأليف ماتياس كلاوديوس 1740 ـ 1815 . أما الثيمة فقد استقاها من خبر كان قرأه في صحيفة تشيلية ، يحكي قصة رجل أنقذ حياة شخص انقلبت عربته في الطريق العام وكادت تودي بحياته . وأثناء دعوة الرجل لذلك الغريب ضيفاً إلى منزله ، تحدث المفاجئة المروعة .


ففيما هما يتحدثان ، تميز الزوجة نبرة صوت ذلك الرجل الغريب ، وتكتشف أنها نفس نبرة الرجل الذي عذبها واغتصبها في السجن قبل سنين . عند ذاك تقرر سجنه في المنزل وإخضاعه إلى محاكمة شخصية ، تنتزع خلالها اعترافاً كاملاً منه بتلك الجريمة ، ثم تحكم عليه بالموت ! .


يقول دورفمان : " .. لقد تأملت تلك الحادثة عميقاً ، وبدأت أستكشف في مخيلتي ، بشكل خجل ومتردد ، حالة دراماتيكية أصبحت فيما بعد نواةً لمسرحية " الموت والعذراء " .


كنت أجلس بين الحين والآخر أفكر بهذا الموضوع وأخربش على الورق ما تخيلته أن يكون في يوم ما رواية ! . لكن ، بعد جلسات عدة وبضع صفحات غير مقنعة عدلت ، خائباً ، عن الفكرة كلها تماماً ، بسبب أن ثمة شيئاً ما كان غائماً ، شيئاً ما جوهرياً وضرورياً في الحكاية كان مفقوداً . فمثلاً لم أستطع أن أستكشف شخصية زوج تلك المرأة . ترى من هو ؟ وكيف ستكون استجابته إن صدقها ؟


لم تكن واضحة عندي أيضاً ، الوقائع والظروف و الالتباسات التفصيلية ، تلك التي ظهرت من خلالها تلك الحكاية . كذلك كان ثمة غياب للعلاقات الرمزية والدلالية بين العام والخاص . بمعنى آخر ، ما نوع علاقة هذه الحكاية بالوضع العام للحياة في البلاد نفسها .


لم أفهم أيضاً ، صورة العالم الذي كان يقف خلف تلك الحدود الضيقة والخانقة والمغلقة لمنزل تلك المرأة ! " .


هكذا ولسوء الحظ ظلت المسرحية تنتظر مكرهة مثل دورفمان نفسه لوقت طويل ، لحين زوال النظام الديكتاتوري في البلاد عام 1990 وعودة الكاتب وعائلته إلى تشيلي بعد نفي استغرق سبعة عشر عاماً . ففي زحمة الأحداث السياسية الجديدة والشائكة ، عثر الكاتب على إجابات على تلك النقاط التي كانت غائمة في رأسه ، و استطاع أن يمسك بالخيط الذي قاده أخيراً إلى الطريقة التي ستروى بها تلك الحكاية .


( ديمقراطيات في دور النقاهة )


كان الوضع السياسي في تشيلي إبان زوال نظام بينوشيت الفاشي وقيام السلطة الوطنية المنتخبة ، ينذر باحتمال وقوع حرب أهلية في البلاد ، بسبب الإجراءات المؤقتة التي اتخذتها الحكومة الجديدة ، والتي في مقدمتها الإبقاء على الكثير من رموز النظام السابق في مواقع خطيرة وحساسة ، مثل المؤسسات القضائية والبرلمان والمجالس البلدية وكذلك المؤسسات الاقتصادية ، ناهيك عن ترك الكثير من أزلام السلطة من العسكر ورجال الأمن والمخابرات طليقين دون عقاب .


كان ذلك قد أثار غيظ الناس وضغينتهم ، خصوصاً أولئك الذين ظل يسكنهم الخوف رغم سقوط الدكتاتور، والذين أحالتهم زنازين الدكتاتور إلى مجرد أشباح ، أو أنصاف بشر . لقد أثارت فيهم تلك الإجراءات المؤقتة حقاً مخاوف عودة النظام القديم إلى السلطة . لكن واقع الأمر، إن الرئيس الجديد المنتخب ـ باتريسيو ايلوين ـ كان يسعى من خلال تلك الإجراءات ، إلى تطبيق برنامج إصلاحي برغماتي للبلاد ، ووضع حلول وسطية بشأن التعامل مع أدوات النظام القديم ، خوفاً من تجدد الوضع الإرهابي ، وتحت غطاء الديمقراطية هذه المرة ، وخشية من قيام مذابح جديدة وعمليات ثأر شخصية ، قد تقود البلاد فعلاً إلى حرب أهلية ن والى فوضى قد تفقد البلاد فرصتها التأريخية تلك ، وتفضي إلى عودة النظام الديكتاتوري ثانية إلى البلاد .


فلأجل تطبيق ذلك البرنامج قامت السلطة بتشكيل هيئة تحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان ، تلك التي اُرتكبت في زمن الدكتاتور بينوشيت سميت بـ " هيئة ريتيج " والتي كانت تنتهي عقوباتها بالموت أو احتماله ، شرط أن لا يعلن عن أسماء المجرمين أو تجرى محاكمهم علناً . علق دورفمان حينها قائلاً : " استطاع الرئيس ايلوين حقاً أن يدير الدفة بحذر وتبصر وشجاعة ، بإتباعه مسلكاً وسطاً يوفق مابين أولئك الذين يؤثرون دفن الخوف ، خوف الماضي الإرهابي كلياً ، وبين أولئك الذين يريدون الكشف عنه كاملاً " .


قامت تلك اللجنة حينها، و كإجراء احترازي ، بحجب أسماء أولئك المتهمين وعدم استدعائهم لحضور تلك المحاكم علناً ، خشية وقوع صدامات دموية بين عوائلهم وأهالي المتهمين . لكن المأزق الأكبر هو أن تلك العدالة المنتظرة كانت منقوصة ، فعلى الرغم من التجربة الموجعة لمئات الآلاف من ضحايا النظام القديم ، وخصوصاً أولئك الذين استطاعوا أن ينجوا من الموت ، إلا أن الكثير من حقوقهم الشخصية ضاعت وسط زحمة الأحداث العامة ، حيث كل شيء كان مؤجلاً ، كسباً للوقت ورغبة في استتباب الوضع العام للبلاد .


هذه الخلفية السياسية هي التي قدمت المفتاح الرئيسي لحل مغاليق الحكاية ، وأجابت عن تلك الأسئلة التي كانت أجوبتها مبهمة في رأس الكاتب .


يقول دورفمان : ( ... وفيما أنا أرقب بدهشة لجنة التحقيق تلك ، وهي تقوم بإنجاز مهمتها الشاقة والشائكة ، بدأت أدرك شيئاً فشيئا وببطء ، أنني أعثر أخيراً على الإجابة عن السؤال الملتبس للحكاية ، ذلك السؤال الذي ظل يدوي في رأسي لسنوات عديدة . وكانت الإجابة ، هي إن اعتقال المرأة للرجل الغريب في منزلها و إخضاعه إلى محاكمة شخصية ، لا يمكن أن تتم في دولة يتربع على السلطة فيها دكتاتور ، كما حدث في زمن تلك الحادثة التي قرأتها في تلك الصحيفة ، بل في دولة هي في مرحلة انتقال إلى الديمقراطية ، حيث جراح الكثير من التشيليين لم تندمل بعد ، وحيث الكثير من الجناة مازالوا أحراراً يتساءلون برعب عن المصائر التي تنتظرهم فيما لو تم الكشف عن جرائمهم . لقد أصبح واضحاً أن الطريقة التي يمكن أن نجعل فيها من زوج تلك المرأة التي تعرضت للاغتصاب والتعذيب ، يعيش حالة رهان مروعة ومربكة ، كونه زوجاً لتلك المرأة التي اعتقلت ذلك الرجل الغريب من جهة ، وفي نفس الوقت عضواً في لجنة التحقيق من جهة أخرى ! وهو الوضع المشابه إلى حد ما إلى وضع المحامي العجوز الذي عينته الحكومة الجديدة لرئاسة هيئة التحقيق " ريتيج " في الواقع ) .


لم يتطلب من دورفمان الوقت الطويل لاتخاذ قرار حاسم بشأن العمل ، وكان القرار ، هو أن الهدف كتابة نص مسرحي وليس رواية . وقد تم إنجاز" الموت والعذراء " عام 1991 وهو في نيويورك ، لكنه أرجأ إرسالها إلى تشيلي ، خوفاً من الاستجابات السلبية التي قد تثيرها أسئلتها المعبئة بخيارات صعبة ، وهي ذات الأسئلة التي كانت تسعى شخصياتها لأن تفهمها وتجيب على جملة منها ، والتي كان التشيليون يطرحونها على أنفسهم في السر ، ونادراً ما تجد من يرغب في طرحها علناً .


كيف يمكن للجلادين وضحاياهم العيش على أرض واحدة ؟


هل في الإمكان معافاة بلد قاسى صدمة القمع والكبت ، ومازال الخوف من إبداء الرأي سائداً في جنباته


كيف يمكن الوصول إلى الحقيقة ، إذا كان الكذب قد أصبح عادة ؟


كيف يمكننا الإبقاء على الماضي حياً ، شرط أن لا نكون سجناءه ؟ و كيف يمكننا أن ننسى ذلك الماضي دون المخاطرة بألا يتكرر في المستقبل ؟


ما هي عواقب كبح صورة ذلك الماضي ، وثمة حقيقة تهمس في آذاننا أو تنبح في وجوهنا ؟


هل من المنطقي أن نضحي بالحقيقة ، لكي نضمن الطمأنينة والأمن ؟


هل الناس أحرار حقاً في بحثهم عن العدالة والمساواة ، وتهديدات العسكر تلازمهم كالوسواس ؟


هل يمكن تجنب العنف في البلاد في ظروف كهذه ؟ وكم نحن ، جميعاً ، ودون استثناء ، مذنبون إزاء ما حدث لأولئك الذين قاسوا أكثر من غيرهم ؟


ومن المحتمل أن المأزق الأكبر هو ، كيف يمكننا مواجهة كل هذه المشاكل ، دون أن يؤثر ذلك في تقويض الإجماع العام ن ذلك الذي يرسخ الاستقرار للمضي في تحقيق الديمقراطية .


كتب دورفمان يومها : " كنت أدرك جيداً أنني سأنتقد بضراوة من قبل البعض في بلادي لأنني " هززت القارب بقوة " عبر تذكيري الناس بوقع الإرهاب والعنف الذي قاسوه طوال تلك الفترة الطويلة ، في وقت مطلوب منا جميعاً أن نكون حذرين إلى حد كبير .


لقد شعرت على أي حال ، أنني كمواطن ن ينبغي علي أن أتحلى بروح عالية للمسؤولية ، وكفنان ، علي أن أجيب على النداء المروّع والعاصف لشخصياتي ، وأن أحطم ذلك الصمت الذي كان يلقي بثقله على كاهلهم . كنت أتأمل من كان يتابع كتاباتي بوّد من الأصدقاء ، وخوفهم الجميل من أنني ، ربما ، أسهم ومن دون قصد ن في خلق مأزق لتلك الديمقراطية الهشة . لكنني كنت على يقين من قبل ، وزاد الآن يقيني أكثر من أي وقت مضى ، بأن الديمقراطية الهشة تتصلب ويقوى عودها ، عبر المكاشفات وإتباع نهج المصارحة والوضوح ، لكي يرى الجميع كيف ستتفتح و تزهر الأعمال الدرامية العميقة الرؤى ، ويرى أيضاً الأحزان العميقة والآمال الكبيرة ، تلك التي تشكل جميعها مرتكزات وجود صلبة للديمقراطية .


بهذه الطريقة فقط ، وليس عبر جلد الذات ، نستطيع أن نتفادى تكرار ما حدث لنا .. "


" هواجس الكاتب .. هواجس الشخصيات "


إن موضوع " الذاكرة " يكاد يشكل هاجساً دائماً لدورفمان ولشخصياته . الذاكرة التي تستعيد ماضي بلد جريح مثل تشيلي ، مجسداً بشكل كوابيس في النوم ووساوس في اليقظة ، والتي تلازم ضحايا الأمس ، أولئك الذين نجوا من الموت ، بشكل دائم . أما " الخوف " فهو يشكل موضوعاً جوهرياً في البناء الاجتماعي والسيكولوجي لشخصيات الكاتب . إنه يجري في عروقهم ، يؤرقهم ، ويشل حيواتهم .


فإذا كان ذلك الخوف يتشظى في الماضي سراً ، فقد أصبح في الحاضر معلناً ، لدرجة الخشية من أن يتحول إلى تأريخ رسمي للبلاد ، ومن الممكن جداً أن يقود إلى إعادة إنتاج مجتمع تمزقه النزاعات و الحزازات ، تلك التي يسعى الكاتب أصلاً إلى نسيانها .


لا يدعو دورفمان إلى تكريس ذلك الخوف ، بل إلى فهم مغزاه وأبعاده ، كي لا يتكرر في المستقبل .


موضوع " النسيان " هو أيضاً هاجس آخر له وجوهه المتعددة لدى الكاتب . فوجهه الأول ، طوي صفحة ذلك الماضي والبدء من جديد ، حيث الناس يسعون إلى نسيان أوجاعهم ومخاوفهم والعنف الذي نزل بهم ، وثمة أسباب عديدة وراء الرغبة في ذلك النسيان ، سواء للناس الذين تعرضوا للإساءات أو للبعض ممن ارتكبها . هؤلاء يشعرون أن استعادة الماضي هو تحطيم لهم . إنهم يقولون أن ثمة مستقبلاً ينتظرنا ، دعنا نطوي هذه الصفحة ، دعنا ننس ذلك ، دعنا نبدأ من جديد ، وهذا كله نعثر عليه ساطعاً في شخصية المحامي وعضو هيئة التحقيق جيراردو في " الموت والعذراء " وأيضاً في شخصية الكابتن في مسرحية " الأرامل " .


أما الوجه الثاني للنسيان فهو ذلك الذي يتعامل غالباً مع الناس الذين يخوضون نضالاً مسعوراً ضد من يريد إلغاءهم وتهميشهم وتجاهلهم ، بل وحتى محوهم من وجه الأرض . هؤلاء الناس ذاقوا جور الماضي ومرارته ، وخرجوا من تلك المحرقة مشوهين ومشوشين ، وحين استيقظوا على حاضر آخر جديد ، وجدوا أنفسهم منسيين مهمشين ، يسيرون على رصيف واحد وجلاديهم .


هذا ما نعثر عليه بصورة جلية لا لبس فيها في شخصية باولينا في " الموت والعذراء " والرجال المفقودين في " الأرامل " .


دورفمان يذهب أبعد من ذلك ، حين يضيف وجهاً ثالثاً لمغزى مفهوم النسيان وهو ذلك الذي يتعلق بالهوية . فقد كتب يقول :


" .. ومشكلة الذاكرة هي ليست مشكلة أننا نتذكر المخاوف التي مورست معنا وعلينا نسيانها ، بل تلك التي لها تأثير أيضاً على الهوية ، هويتنا التي فقدناها .


أين هويتنا ؟ علينا أن نفكر عميقاً وبدقة في هذا السؤال .
ـــــــ
اللوحة للفنان العظيم : رامبرانت

فبراير 11، 2010

الكيمتريل يغير وجه الأرض


يبدو أن مخططات أمريكا وإسرائيل للسيطرة علي الكون دون حروب تقليدية وصلت إلى مراحلها الأخيرة بل وظهرت تقارير صحفية تحذر أيضا من الأسوأ مازال بانتظار البشرية وأن الهدف التالي بعد هايتي سيكون العرب وإيران وكلمة السر في هذا الصدد هي "الكيمتريل".

وكان العالم فوجىء في ذروة انشغاله بمواجهة تداعيات كارثة هايتي باتهامات لـ "غاز الكيمتريل" بأنه وراء ما حدث وليس الزلزال المدمر ، كما يعتقد كثيرون ولم يقف الأمر عند ما سبق ، فقد ظهرت تقارير صحفية تحذر أيضا من أن ما شهدته هايتي هو بروفة على حروب المستقبل وخاصة تلك التي ستشنها إسرائيل ضد العرب وإيران وسيتم خلالها التغاضي عن المواجهات العسكرية المباشرة والاستعانة بدلا من ذلك بـ "الكيمتريل" الأكثر "براءة وفتكا في الوقت ذاته .

غاز الكيمتريل هو أحدث الأسلحة للدمار الشامل ويستخدم لاستحداث الظواهر الطبيعية كالبرق والرعد والعواصف والأعاصير والزلازل بشكل اصطناعي بل ويمكنه أيضا نشر الجفاف والتصحر وإيقاف هطول الأمطار وإحداث الأضرار البشعة بالدول والأماكن غير المرغوب فيها أمريكيا وإسرائيليا .

تبدأ قصته مع التدمير الواسع من حقيقة أنه عبارة عن مركبات كيماوية يمكن نشرها علي ارتفاعات جوية محددة لاستحداث ظواهر جوية مستهدفة وتختلف هذه الكيماويات طبقا للأهداف ، فمثلا عندما يكون الهدف هو "الاستمطار" أي جلب الأمطار يتم استخدام خليط من أيوديد الفضة علي بيركلورات البوتاسيم ليتم رشها مباشرة فوق السحب فيثقل وزنها ولا يستطيع الهواء حملها فتسقط أمطارا ، كما تستخدم هذه التقنية مع تغير المركبات الكيماوية فتؤدي إلي الجفاف والمجاعات والأمراض والأعاصير والزلازل المدمرة .

وبمعني آخر أكثر وضوحا ، فإنه ما أن تطلق إحدى الطائرات غاز "الكيمتريل" في الهواء تنخفض درجات الحرارة في الجو وقد تصل إلى 7 م وذلك بسبب حجب أشعة الشمس عن الأرض بواسطة مكونات هذه السحابة الاصطناعية ، كما تنخفض الرطوبة الجوية إلى 30% بسبب امتصاصها مع أكسيد الألمونيوم ، متحولا إلى هيدروكسيد الألمونيوم هذا بجانب عمل الغبار الدقيق لأكسيد الألمونيوم كمرآه تعكس أشعة الشمس .

ويؤدي ما سبق إلى انخفاض شديد مفاجئ في درجات الحرارة وانكماش في حجم كتل هوائية تغطي مساحات شاسعة تقدر بملايين الكيلومترات مما يؤدي لتكوين منخفضات جوية مفاجئة في طبقة الغلاف الجوي "الاستراتوسفير" فتندفع إليها الرياح من أقرب منطقة ذات ضغط جوي مرتفع ثم من المنطقة التي تليها ، ويتسبب هذا الوضع في تغير المسارات المعتادة للرياح في هذه الأوقات من السنة فتهب في اتجاهات غير معتاد الهبوب فيها ويعقب هذا الإطلاق استمرار الحرارة المنخفضة والجفاف لعدة أيام وخلال تلك الفترة تفقد السماء لونها الأزرق المعروف وتصبح أثناء النهار سماء ذات لون رمادي خفيف يميل إلى اللون الأبيض وفي المساء تبدو لون السحب الاصطناعية بلون يميل إلي الرمادي الداكن وهكذا تحدث تغيرات غير مألوفة في الطقس في تلك المناطق مما ينتج عنها صواعق وبرق ورعد وجفاف دون سقوط أي أمطار كما يصاحب ذلك انخفاضا واضحا في مدي الرؤية بسبب العوالق الكيماوية للمكونات الهابطة إلى الأرض حيث تتخذ مظهرا شبيها بالشبورة .

ورغم التداعيات الكارثية السابقة ، إلا أن هذا لا يعني أن الكيمتريل هو الشر بحد ذاته ، بل على العكس فهو يحمل الخير للبشرية في حال استخدم في المجالات السلمية النفعية حيث له دور فعال في التقليل بشكل كبير من ظاهرة الاحتباس الحراري التي تهدد بغرق الكرة الأرضية وفناء الكون في المستقبل البعيد ، فهو يستخدم لحجب أشعة الشمس عن الأرض واستخدام جزئيات دقيقة من أكسيد الألمونيوم كمرآة تعكس أشعة الشمس للفضاء الخارجي فتنخفض درجة حرارة الهواء وعلى الأرض فجأة وبشدة .

هذا بالإضافة إلى أنه مفيد جدا في ظاهرة "الاستمطار" في المناطق القاحلة ، إلا أنه وللأسف فإن واشنطن أبت فيما يبدو أن تخدم البشرية واستخدمت تلك التقنية في الأغراض الاستعمارية ليصبح الكيمتريل أحدث أسلحة الدمار الشامل .

سلاح الكيمتريل وقبل أن يسارع البعض بتوجيه الاتهامات بالتأثر بنظرية المؤامرة والتحامل على واشنطن دون أدلة ملموسة ، نستعرض هنا قصة اكتشاف الكيمتريل .

المثير للانتباه في هذا الصدد أن الاتحاد السوفيتي السابق هو من اكتشفه حيث تفوق مبكرا علي أمريكا في مجال الهندسة المناخية عندما حصل على نتائج دراسات قديمة في أوائل القرن الماضي للباحث الصربي نيقولا تيسلا الذي صنف بأنه من أعظم علماء ذلك القرن بعد أن نجح في اكتشاف الموجات الكهرومغناطيسية وقام بابتكار مجال الجاذبية المتبدل بل واكتشف قبل وفاته كيفية إحداث "التأيين" في المجال الهوائي للأرض والتحكم فيها بإطلاق شحنات من موجات الراديو فائقة القصر مما يسفر عن إطلاق الأعاصير الاصطناعية وبذلك يكون نيقولا تيسلا هو مؤسس علم الهندسة المناخية الذي بدأه الاتحاد السوفيتي ثم تلته الصين .

أما بداية معرفة الولايات المتحدة بـ " الكيمتريل " فقد بدأت مع انهيار الاتحاد السوفيتي وهجرة الباحث الصربي نيقولا تيسلا والعلماء الروس إلي أمريكا وأوروبا وإسرائيل .

وكانت آخر الاستخدامات السلمية الروسية لهذا الغاز ما حدث في الاحتفال بمناسبة مرور60 عاما علي هزيمة ألمانيا النازية وانتهاء الحرب العالمية الثانية وذلك في مايو 2005 باستخدام وزارة الدفاع الروسية للطائرات في رش الغاز في سماء موسكو وخصوصا الميدان الأحمر لتشتيت السحب ، وإجراء مراسم الاحتفالات في جو مشمس وكان ضيف الشرف في هذا الاحتفال هو الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن وذلك للمرة الأولي وهي رسالة موجهة له ليفهم منها دقة التحكم في الطقس بتقنية الكيمتريل علي مستوي مدينة واحدة هي موسكو .

وقبل التجربة الروسية السابق ، قام السوفيت بإسقاط الأمطار الصناعية "استمطار السحب" وذلك برش الطبقات الحاملة للسحب وقد استفادت الصين من ذلك خلال الفترة ما بين 1995 و2003 واستمطرت السحب فوق 3 ملايين كيلو متر مربع "حوالي ثلث مساحة الصين" وحصلت على 210 مليارات متر مكعب من الماء حققت مكاسب اقتصادية من استزراع تلك المناطق التي كانت جافة قدرت بـ "1,4" مليار دولار وكانت التكلفة العملية فقط "265" مليون دولار .

ثم تطورت أبحاث الكيمتريل على يد واشنطن وتوصلت إلي قواعد علمية وتطبيقات تؤدي إلي الدمار الشامل يطلق عليها الأسلحة الزلزالية يمكن بها إحداث زلازل مدمرة اصطناعية في مناطق حزام الزلازل وتقنيات لاستحداث ضغوط جوية عالية أو منخفضة تؤدي إلي حدوث أعاصير مدمرة .

وما يثير المرارة والحسرة في هذا الصدد أن واشنطن نجحت بخبث شديد في انتزاع موافقة الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية في مايو عام 2000 علي قيامها بمهمة استخدام تقنية الكيمتريل في تخفيض الاحتباس الحراري علي مستوي الكرة الأرضية بعد عرض براءة الاختراع المسجلة عام1991 من العالمين ديفيد شانج وأي فو شي بشأن الإسهام في حل مشكلة الانحباس الحراري دون التطرق لأية آثار جانبية وأعلينت حينها عزمها علي تمويل المشروع بالكامل علميا وتطبيقيا مع وضع الطائرات النفاثة المدنية في جميع دول العالم في خدمة المشروع ، ووافق أغلبية أعضاء الأمم المتحدة على إدخال هذا الاختراع إلي حيز التطبيق وبذلك تم تمرير المشروع بموافقة المجتمع الدولي مع إشراك منظمة الصحة العالمية بعد أن أثار كثير من العلماء مخاوفهم من التأثيرات الجانبية لتقنية الكيمتريل علي صحة الإنسان. وفي ضوء ما سبق ، ظهرت واشنطن وكأنها تسعى لخدمة البشرية ، إلا أنها أخفت الهدف الرئيس وهو تطوير التقنية للدمار الشامل وبالفعل وحسب التقارير المتداولة في هذا الصدد ، فإن الولايات المتحدة سوف تكون قادرة في عام 2025 علي التحكم في طقس أية منطقة في العالم عن طريق الكيمتريل .

هناك من الاعترافات من داخل أمريكا وخارجها ما يؤكد صحة ما سبق ، والبداية في هذا الصدد مع محاضرة ألقاها الكولونيل تامزي هاوس أحد جنرالات الجيش الأمريكي ونشرت علي شبكة معلومات القوات الجوية الأمريكية وكشف فيها أن الولايات المتحدة سوف تكون قادرة في عام 2025 علي التحكم في طقس أي منطقة في العالم عن طريق تكنولوجيا عسكرية غير نووية يتم إطلاقها من خزانات ملحقة بالطائرات النفاثة ، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة تسعى لاستخدام تقنية الكيمتريل كجزء من أدواتها الرئيسية للحروب المستقبلية .

كما تضمنت المحاضرة إشارة إلي توصية من البنتاجون تشير إلي استخدام سلاح الجو الأمريكي أسلحة التحكم في الطقس لإطلاق الكوارث الطبيعية الاصطناعية من الأعاصير والفياضانات أو الجفاف المؤدي للمجاعات بالإضافة إلي التوصية ببدء نشاط إعلامي موجه لتجهيز المواطن الأمريكي لقبول مثل هذه الاختراعات من أجل طقس مناسب لحياة أفضل ثم إقناع المواطن الأمريكي بعد ذلك باستخدام هذه الأسلحة لحمايته من "الإرهابيين" .

بجانب الاعتراف السابق ، فإن الطريقة التي عرف من خلالها سر استخدام الكيمتريل كسلاح للدمار الشامل تكشف أيضا النوايا الحقيقية لواشنطن ، ففي مايو 2003 وخلال عمله بمشروع الدرع الأمريكي ، تمكن عالم من علماء الطقس في كندا كان من العاملين بالمشروع وهو العالم "ديب شيلد" من الاطلاع على هذا السر وقد أعلن ذلك علي شبكة المعلومات الدولية الإنترنت في موقع تحت اسم "هولمزليد " .

ووفقا للعالم الكندي ، فإنه وقع بصره عن طريق المصادفة البحتة علي وثائق سرية عن إطلاق الكيمتريل فوق كوريا الشمالية وأفغانستان وإقليم كوسوفو أثناء الحرب الأهلية اليوغسلافية والعراق والسعودية في حرب الخليج الثانية . وأضاف في هذا الصدد أنه مقتنع بفكرة مشروع الكيمتريل إذا كان سيخدم البشرية ويقلل من ظاهرة الاحتباس الحراري ولكنه يرفض تماما أن يستخدم كسلاح لإجبار الشعوب أو قتلها أوإفناء الجنس البشري ، مشيرا إلى أنه قرر الانسحاب من العمل بمشروع الدرع الأمريكي لأن هدف واشنطن هو الشر وليس الخير . وبعد حوالي ثلاث سنوات من قيامه بكشف المستور ، وجد العالم الكندي ديب شيلد مقتولا في سيارته في عام 2006 وزعمت الأنباء حينها أنه انتحر .

أخيرا هناك تصريحات هامة جدا في هذا الصدد نشرتها صحيفة " الأهرام " المصرية في 7 يوليو 2007 وكشف خلالها الدكتور منير محمد الحسيني أستاذ المكافحة البيولوجية وحماية البيئة بكلية الزراعة بجامعة القاهرة حقائق مثيرة وردت في بحث أعده خصيصا لهذا الأمر كان من أبرزها أن علماء الفضاء والطقس في أمريكا أطلقوا "الكيمتريل" سرا في المرة الأولي فوق أجواء كوريا الشمالية وأدى ذلك إلى تحول الطقس هناك إلى طقس جاف وتم إتلاف محاصيل الأرز الغذاء الرئيس لهم كما أدى ذلك إلى موت الآلاف شهريا ، هذا بالإضافة إلى أن هذا السلاح تم استخدامه أيضا في منطقة " تورا بورا" بأفغانستان لتجفيفها ودفع السكان للهجرة كما أطلقته مؤسسة "ناسا" عام 1991 فوق العراق قبل حرب الخليج الثانية وقد طعم الجنود الأمريكيون باللقاح الواقي من الميكروب الذي ينتشر مع "الكيمتريل" ورغم ذلك فقد عاد 47% منهم مصابين بالميكروب وأعلن حينها عن إصابتهم بمرض غريب أطلق عليه "مرض الخليج" .

وفي التفاصيل ، أكد الدكتور منير محمد الحسيني أن علماء المناخ الإسرائيليين قاموا بتطوير هذا السلاح الذي تم الكشف عنه في عام 2003 بواسطة عالم كندي وفجر مفاجأة في هذا الصدد مفادها أن إعصار "جونو" الذي ضرب سلطنة عمان مؤخرا وأحدث خرابا وتدميرا كبيرا ثم جنح إلي إيران بعد أن فقد نصف قوته كان ناجما عن استخدام "الكيمتريل" ، قائلا :" بكل تأكيد هو صناعة أمريكية وإسرائيلية ولكن ليست سلطنة عمان هي المقصودة بهذا الدمار وإنما كان الهدف إيران ولكن بسبب خطأ بعض الحسابات ـ فالتجارب لن تستقر قبل عام 2025 ـ تحول الإعصار إلي سلطنة عمان وعندما ذهب إلي إيران كانت قوته التدميرية قد استنفدت " .

بل ورجح أن يكون السبب في ارتفاع درجات الحرارة في السنوات الأخيرة في مصر وشمال إفريقيا وبقية البلدان العربية هو التجارب الأمريكية والإسرائيلية في هذا الصدد ، قائلا :" ليس ببعيد ذلك الاحتمال فعند هبوط سحابة الكيمتريل إلي سطح الأرض فوق المدن الكبيرة مثل القاهرة وباريس وغيرها حيث تسير ملايين السيارات في الشوارع وغيرها من وسائل المواصلات التي ينبعث منها كم كبير جدا من الحرارة فيقوم أكسيد الألومنيوم بعمل مرآة فيعكس هذه الحرارة للأرض مرة أخري مما يؤدي إلي ارتفاع درجة الحرارة بشكل غير عادي متسببا فيما يسمي موجات الحر القاتل كما حدث في باريس عام 2003 وجنوب أوروبا في يونيو2007 وسوف يتكرر ذلك مستقبلا في فصل الصيف ".

وأضاف " وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن أسراب الجراد التي هاجمت مصر وشمال إفريقيا وشمال البحر الأحمر ومنطقة جنوب شرق آسيا فوق السعودية والأردن في أواخر عام 2004 كان السبب الرئيس فيها هو غاز الكيمترل وذلك بعد رش تلك المنطقة بزعم خفض الاحتباس الحراري وقد قمت وغيري بتصوير ذلك واختفت السماء خلف السحاب الاصطناعي الكيمترل خلال عدة ساعات وحدث الانخفاض المفاجيء لدرجات الحرارة وتكوين منخفض جوي فوق البحر المتوسط وتحول المسار الطبيعي للرياح الحاملة لأسراب الجراد الصحراوي إلي اتجاه جديد تماما في هذا الوقت إلي الجزائر وليبيا ومصر والأردن وغيرها وبهذا لم تتم الرحلة الطبيعية لأسراب الجراد".

وتابع الحسيني قائلا :" في هذا الوقت لاحظ الباحثون أن الجراد الذي دخل مصر كان يحمل اللون الأحمر ، بينما كان الجراد الذي يدخل مصر علي طول تاريخها يحمل اللون الأصفر ، واختلاف الألوان هنا جاء بسبب أن الجراد الأحمر هو الجراد ناقص النمو الجنسي ولكي يكتمل النمو الجنسي للجراد كان لابد أن يسير في رحلة طبيعية حتي يتحول إلى اللون الأصفر كما تعودنا أن نشاهده في مصر ولكن مع حدوث المنخفض الجوي الجديد، اضطر الجراد إلي تغيير رحلته دون أن يصل إلي النضج المطلوب" .

وبالإضافة إلي ما سبق ، توقع الدكتور منير الحسيني أن تعرف مصر ظاهرة الموت بالصواعق كما حدث في إبريل عام 2006 عندما قتل اثنان من رعاة الأغنام بالمنصورة صعقا وكذلك في 13 إبريل 2007 عندما قتل ثلاثة مزارعين أثناء عملهم بالحقول في إحدى قرى محافظة البحيرة . واستطرد " الصواعق هي إحدي الآثار الجانبية الخطيرة لرش الكيمتريل من طبقة التروبوسفير واتحاده مع أملاح وأكسيد الباريوم مع ثاني أكسيد الكربون وهما من عوامل الاحتباس الحراري فيؤدي ذلك كله إلي تولد شحنات في حقول كهربائية كبيرة وعندما يتم إطلاق موجات الراديو عليها لتفريغها تحدث الصواعق والبرق والرعد الجاف دون سقوط أي أمطار كما حدث في بازل في سويسرا وفي ولاية الأسكا الأمريكية وفي مصر يوم 18 مايو 2005 وفي ألمانيا يوم 12 مايو 2000 " . وحذر من أن الصواعق ليست هي الخطر الوحيد الذي يهدد المواطنين في مصر ودول العالم التي ترش في سمائها الكيمتريل ، بل سيلاحظ السكان وجود ظواهر جديدة مثل تغير لون السماء وتحولها من الأزرق إلي لون أقرب إلي الأبيض وذلك بسبب وجود كمية كبيرة من أملاح الباريوم وجزئيات الألومنيوم بكميات تبلغ 7 أضعاف مثيلاتها في الطبقات غير المتعاملة بالكيمتريل أما تأثير رش الكيمتريل علي صحة الإنسان فقد نشرت مجلات علمية أمريكية لباحثين مثل كريس كورينكوم وجارث نيكولسون بعض أبحاثهم التي أعدوها بعد تجريب الكيمتريل في الولايات المتحدة من واقع سجلات المستشفيات هناك حيث طرأت قائمة بالأعراض الجانبية وهي كالتالي : نزيف الأنف ، ضيق التنفس ، آلام الصداع ، عدم حفظ التوازن ، الإعياء المزمن ، أوبئة الأنفلونزا ، أزمة التنفس ، إلتهاب الأنسجة الضامة ، فقدان الذاكرة ، أمراض الزهايمر المرتبطة بزيادة الألومنيوم في جسم الإنسان .

بجانب مصر ، استعرض الحسيني نماذج أخرى لضحايا الكيمتريل في العالم ومن أبرزها ما حدث في العراق في 28 يناير1991 عندما قامت الطائرات الأمريكية بإطلاق غاز الكيمتريل فوق سماء العراق بعد تحميله بالسلالة النشطة من الميكروب المهندس وراثيا لحساب وزارة الدفاع الأمريكية للاستخدام في الحرب البيولوجية وذلك بعد أن قامت واشنطن بتطعيم الجنود الأمريكان باللقاح الواقي من هذا الميكروب قبل إرسالهم لميدان المعركة ، ورغم ذلك فقد عاد47% من الجنود الأمريكان مصابين بالمرض وتغطية علي الحقيقة السابقة ، زعمت وزارتا الدفاع والصحة الأمريكيتين أنه مرض غير معروف أطلق عليه "مرض الخليج" وأشيع أنه ناتج بسبب أنواع من الغازات الكيماوية المتولدة عن إطلاق ذخيرة الطلقات الجديدة فائقة الصلابة .

وسرعان ما كشف النقاب عن حقيقة هذا المرض الطبيب الأمريكي جارث نيكولسون الذي قدم بحثا أشار فيه إلى الأمراض التي يسببها غاز الكيمتريل في الأماكن التي تم إطلاقه فيها ومنها نزيف الأنف وأوبئة الأنفلونزا وفقدان الذاكرة المؤقت ، مشيرا أيضا إلى إمكانية حدوث "الإيدز" بسبب زيادة الباريوم في جسم الإنسان .

وبالإضافة إلى العراق ، هناك أيضا كوريا الشمالية ، حيث أكد الدكتور الحسيني استخدام تقنية الكيمتريل فعليا كسلاح لمواجهة مشروعات كوريا الشمالية النووية حيث شهدت تلك الدولة وحدها دون البلدان المجاورة لها موجة من الجفاف التام ونقصاً حاداً في هطول الأمطار علي الرغم من اعتماد كوريا الشمالية علي زراعة الأرز كغذاء رئيس لها فظهرت حالة جفاف غير مبررة لم تصب كوريا الجنوبية أو الصين مثلا وهما علي حدودها الشمالية ونتج عن حالة الجفاف مجاعة رهيبة أدت إلي موت الآلاف من البشر شهريا ووصلت أرقام الضحايا إلي 6.2 مليون طفل و1.2 مليون بالغ" .

واستطرد " تم سرا إطلاق سلاح الكيمتريل على كوريا الشمالية لإضعافها وإشغالها بالجفاف والمجاعة والأمراض وبالفعل هجر الكوريون تلك المناطق بعد التعرض للمجاعات والأمراض والموت جوعا وعطشا حيث توفي هناك 6,2 مليون طفل خلال عامين فقط من 2002 وحتى 2004 ، ومازال العدوان مستمرا وتتلقي كوريا الشمالية حاليا المعونات من الأرز الذي كان يشكل المحصول الرئيس حين كان متوافرا له المياه والأمطار سابقا بينما لم تتأثر جاراتاها كوريا الجنوبية والصين في الشمال ".

أيضا فإن إقليم كوسوفو المسلم لم يسلم من آثار الكيمتريل ، حيث استخدمته الطائرات الأمريكية خلال الغارات التي شنها الناتو على القوات الصربية في الإقليم في التسعينات ، الأمر الذي نجم عنه برودة شديدة في الشتاء وما قد ينجم عنه من احتمال الموت بردا .

والمثال الآخر الذي ساقه الدكتور الحسيني هو إطلاق الطائرات الأمريكية غازات الكيمتريل فوق منطقة تورا بورا في أفغانستان لتجفف النظام البيئي بالمنطقة لإحداث عملية نضوب للماء في هذه المنطقة ، الأمر الذي يدفع المقاتلين الأفغان إلي الفرار والخروج من المخابئ فيسهل اصطيادهم .

ويبدو أن شركات الأدوية هي أحد المستفيدين من هذا السلاح الخطير ، حيث أشار الدكتور الحسيني إلى حرص شركات الدواء الكبري علي الاشتراك في تمويل مشروع "الكيمتريل" بمليار دولار سنويا لأنه مع انتشار الآثار الجانبية لرش الكيمتريل علي مستوي العالم سوف تزداد مبيعات هذه الشركات العملاقة علي مستوي العالم جراء بيع الأدوية المضادة لأعراضه .

واختتم الدكتور الحسيني قائلا :" هناك تجارب لاستخدام تكنولوجيا جديدة لإطلاق الكوارث الطبيعية كالأعاصير المدمرة والفيضانات أو الجفاف ضد أعداء أمريكا ، أمريكا سوف تقوم بردع إيران وإثنائها عن المضي في برنامجها النووي علي شاكلة ما فعلته في كوريا الشمالية ، لكن ليس بتقنية تجفيف النظام البيئي بل بتقنية استحداث الأعاصير المدمرة من الدرجة الخامسة سرعة 250 كم في الساعة ولهذا لم ينجح توجيه إعصار جونو إلي إيران بدقة كافية ، إذا أردنا ملاحظة تأثير امتلاك هذا السلاح في السياسات الدولية ، يمكننا الإشارة إلى تراجع أمريكا عن تهديداتها بمهاجمة كوريا الشمالية عسكريا بالوسائل التقليدية علي نمط ما حدث في أفغانستان والعراق ، عموما لا يمكن التكهن بما سوف يحدث من ظواهر جوية وتأثيرها علي النظام البيئي والبشر والنباتات والحيوانات في مثل هذه الأنظمة الإيكولوجية ، الوقاية الوحيدة ضد هذا الاندفاع الأمريكي واستخدامه السيء للتكنولوجيا والطفرات العلمية هي الالتزام الأخلاقي ولكن في سبيل سيطرتها علي العالم تندفع أمريكا بجنون حتي لو كان الضرر سيلحق بشعبها ".

الخلاصة أنه في ظل الطموح الأمريكي والإسرائيلي المجنون للسيطرة على الكون ، فإن العالم مهدد مستقبلا بحروب تدميرية ولكن هذه المرة ليست من خلال الغزو والاحتلال والاستعمار التقليدي وإنما من خلال حروب غامضة ستظهر على أنها كوارث طبيعية .
ـــــــــ
المصادر :
شبكة الإعلام العربية " محيط " .
جريدة الأهرام المصرية .
مجلة " العلم و السلاح " الأمريكية .
بحث للدكتور منير محمد الحسيني أستاذ المكافحة البيولوجية وحماية البيئة بكلية الزراعة بجامعة القاهرة .
بحث معملي عن مادة الكيمتريل قمت به خصيصا للتاكد من خصائصة المذكورة مسبقا بكلية العلوم جامعة المنصورة .
اسئلة لمجموعة من الأساتذة المتخصصين في المكافحة البيولوجية بقسم الحشرات جامعة المنصورة .
ـــــــ
الصورة :
الدمار الذي خلفه " الكيمتريل " في هايتي
ـــــــ
ملحوظة :
شاهد سماء أي منطقة منكوبة بعد الحادث مباشرة سترى بقايا اللون الفضي لغاز الكيمتريل و هذا ما يلاحظ في سماء هايتي حتى الآن

فبراير 01، 2010

الزمن و الإيقاع و المونتاج


بالانتقال الآن إلى الصورة السينمائية في حد ذاتها ، أريد في الحال أن أبدد الفكرة المسلم بها على نحو واسع و التي تقول بأن الصورة " مركبة " جوهريا . هذا المفهوم يبدو لي خاطئا لأنه يدل ضمنا على أن السينما مؤسسة على خاصيات تابعة لأشكال فنية شقيقة ، و لا تملك على الإطلاق شيئا خاصا بها ، و هذا يعني إنكار حقيقة أن السينما فن .
العامل الغالب ، الفعال تماما ، للصورة السينمائية هو الإيقاع ، الذي يعبر عن جريان الزمن ضمن الكادر . الانتقال الفعلي للزمن يتجلى أيضا في سلوك الشخصيات ، في المعالجة البصرية ، و في الصوت . لكن هذه كلها مقومات مصاحبة و التي غيابها ، نظريا ، سوف لن يؤثر بأية حال في كينونة الفيلم . المرء لا يستطيع أن يتخيل عملا سينمائيا بدون أي إحساس بمرور الزمن من خلال اللقطة ، لكن المرء يستطيع بسهولة أن يتخيل فيلما بدون ممثلين أو موسيقى أو ديكور أو حتى مونتاج . فيلم الأخوين لوميير " وصول القطار " ، الذي أشرنا إليه سابقا ، كان كذلك . أيضا فيلم أو فيلمان من حركة " الاندرجراوند " الأمريكية : أحدهما يظهر رجلا نائما ، بعد ذلك يصحو .. و السينما عن طريق قوتها السحرية الخاصة ، تمنح تلك اللحظة تأثيراً جماليا فاتنا وغير متوقع . أو فيلم الفرنسي باسكال اوبير الذي تستغرق مدته عشر دقائق و يتألف من لقطة واحدة فقط . في البداية ، يعرض الفيلم حياة الطبيعة المهيبة ، غير الصاخبة ، اللامبالية تجاه الأهواء البشرية و الأنشطة الصاخبة . بعد ذلك تتحرك الكاميرا ، الموجهة بمهارة و براعة فنان ، لتصور نقطة صغيرة جدا : شخص راقد ، لكن بالكاد يُرى ، على ارض معشوشبة ، عند سفح هضبة . الذروة الدرامية تلي مباشرة ، فمرور الزمن يبدو متسارعا ، يحثه فضولنا : انه كما لو ننسل بحذر صوب الشخص برفقة الكاميرا . و فيما نقترب ، ندرك بان الرجل ميت . و في اللحظة التالية نحصل على معلومة إضافية : انه ليس ميتا فحسب ، بل كان مقتولا .. متمرد مات متأثراً بجراحه ، و هو الآن مرئي في خلفية طبيعة لا مبالية . إن ذكرياتنا ترمينا بقوة نحو أحداث تهز عالم اليوم .
سوف تتذكر بان الفيلم لا يحتوي على تمثيل أو ديكور أو مونتاج ، لكن إيقاع حركة الزمن حاضر هناك ضمن الكادر ، بوصفه القوة المنظمة الوحيدة للتنامي الدرامي .. المركّب تماما .لا يوجد عنصر أو مكوّن واحد من الفيلم يمكن أن يتضمن أي معنى في عزلته عن المكونات الأخرى .. الفيلم كله هو الذي يشكل العمل الفني . و نحن نستطيع فحسب أن نتحدث عن مكوناته على نحو اعتباطي إلى حد ما ، مقسمينها على نحو متكلف من أجل مناقشتها نظريا .
أيضا لا أستطيع أن أقبل بفكرة أن المونتاج هو العنصر المكون الأساسي للفيلم ، كما أكد – في سنوات العشرينات – أنصار سينما المونتاج ، أتباع كوليشوف وايزنشتاين .. كما لو أن الفيلم يتحقق على طاولة المونتاج .
غالبا ما يشيرون ، و هذا صحيح تماما ، إلى أن كل شكل فني يتضمن المونتاج ، بمعنى الانتقاء و الموازنة ، تعديل أو ضبط الأجزاء و القطع . الصورة السينمائية تنشأ أثناء التصوير ، و توجد ضمن الكادر ، أثناء التصوير ، و لذلك أنا أركز على سير الزمن في الكادر من أجل إعادة إنتاجه و تسجيله . المونتاج يجلب معا لقطات هي مليئة بالزمن قبل ذلك الحين ، و ينظم البناء الحي الموحد ، المتأصل في الفيلم .. و الزمن الذي ينبض عبر شرايين الفيلم ، و الذي يجعله حيا و متقدا ، ذو ثقل إيقاعي متنوع .
فكرة " سينما المونتاج " ، أي أن المونتاج يجلب معا مفهومين و بالتالي يولّد مفهوماً ثالثا جديدا ، تبدو لي ، مرة أخرى ، متنافرة مع طبيعة السينما . الفن لا يمكن أبدا أن يجعل من تفاعل المفاهيم غايته الأساسية أو النهائية . الصورة مرتبطة بالملموس و المادي ، مع ذلك تمتد عبر الطرق الخفية و الغامضة إلى أقاليم توجد وراء الروح .. في اختيار المخرج للمادة و تسجيلها ، فإن كادرا واحدا يكفي لإثبات ما إذا كان المخرج موهوبا ، و ما إذا كان يمتلك رؤية سينمائية . المونتاج ، في النهاية ، ما هو إلا تجميع للقطات عبر تنوع مثالي ، و الذي يتضمن بالضرورة داخل المادة الموضوعة في قرص الفيلم . إن مونتاج الصورة على نحو صحيح و واف يعني السماح للمشاهد و اللقطات المنفصلة أن تتشكل معا تلقائيا نظرا لأنها من بعض النواحي تولّف نفسها . إنها تتحد وفقا للمثال الجوهري الخاص بها . إنها ببساطة مسألة التسليم بهذا المثال أو النمط و متابعته أثناء الربط و القطع . ليس من السهل دائما الإحساس بنمط العلاقات ، و المفاصل بين اللقطات ، خصوصا إذا صور المشهد على نحو غير صحيح . عندئذ سوف لن يتعين عليك أن تلصق الأجزاء على نحو منطقي و طبيعي على طاولة المونتاج فحسب ، بل أن تنشد جاهدا المبدأ الأساسي للمفاصل . شيئا فشيئا ، و على مهل ، سوف تجد الوحدة الأساسية المتضمنة في المادة تنبثق و تصبح أكثر وضوحا . أن البناء المنظم ذاتيا يتخذ شكلا معيناً أثناء المونتاج بسبب الخاصيات المميزة الممنوحة للمادة أثناء التصوير . الطبيعة الأساسية للمادة المصورة تتجلى في أسلوب المونتاج . بالرجوع مرة أخرى إلى تجربتي الخاصة ، ينبغي أن أقول إن كماً هائلاً من العمل احتجنا في مونتاج فيلم " المرآة " . كان هناك عشرون شكلا مختلفا أو أكثر . لا أعني فقط التغييرات في ترتيب لقطات معينة ، بل التعديلات الرئيسية في البناء الفعلي ، في سياق الأحداث . في لحظات معينة ، كان الفيلم يبدو كما لو أنه يستحيل توليفه ، و الذي يعني بأن هفوات غير مقبولة حدثت أثناء التصوير . الفيلم لم تتماسك أجزاؤه ، لم يصمد بل انهار فيما نحن نراقب .. و لم يكن يملك تلك الوحدة و الانسجام ، ذلك الارتباط الداخلي الضروري ، ذلك المنطق . ثم ، و في يوم رائق و جميل ، حين نجحنا - بطريقة ما - في القيام بعملية يائسة و أخيرة من إعادة الترتيب و التنسيق ، تخلق الفيلم فجأة ، و عادت المادة إلى الحياة . الأجزاء باشرت في العمل على نحو متبادل كما لو كانت متصلة بمجرى دم . و فيما تلك المحاولة اليائسة الأخيرة معروضة على الشاشة ، ولد الفيلم أمام أعيننا المجردة . و لفترة طويلة لم أستطع أن أصدق المعجزة : الفيلم و قد تماسكت أجزاؤه .
كان ذلك اختبارا جديا للمدى الذي كان فيه تصويرنا جيدا . من الواضح أن الأجزاء تشكلت معا بسبب النزوع المتضمن في المادة و الذي نشأ حتما أثناء تصوير الفيلم . و لأننا لم نضلل أنفسنا بشأن وجوده هناك ، على الرغم من كل الصعوبات و العوائق ، فلم يكن بوسع الفيلم إلا أن يتشكل ، إذ أن ذلك كان متأصلا في الجوهر الفعلي للأشياء . كان عليه أن يحدث ، على نحو شرعي و تلقائي ، ما إن أدركنا معنى اللقطات و مصدر حياتها .و حين يحدث ذلك ، حمدا لله ، تعم الفرحة و يسود الارتياح بين الجميع . الزمن نفسه ، الدائر عبر اللقطات ، قد اتحد و اتصل من غير انقطاع . كان فيلم ” المرآة " يتضمن حوالي 200 لقطة ، و هي قليلة جدا ، إذ أن فيلما بهذا الطول يحتوي عادة 500 لقطة .. لكن العدد القليل كان بسبب طول اللقطات . و مع أن تجمع اللقطات هو المسؤول عن بنية الفيلم ، إلا أنه - بخلاف ما هو مفترض عموما - لا يخلق إيقاع الفيلم . الزمن المميز ، الممتد عبر اللقطات ، يخلق إيقاع الفيلم . الإيقاع لا يقرره طول الأجزاء بعد تعرضها للمونتاج بل يحدده ضغط أو ثقل الزمن الذي ينزلق عبر هذه الأجزاء . المونتاج لا يمكن أن يقرر الإيقاع ( إنه في هذه الناحية ، يمكن أن يكون مجرد مقوّم للأسلوب ) .
الزمن في الواقع يجري عبر الفيلم على الرغم من المونتاج و ليس بسببه . إن مجرى الزمن ، المسجل في الكادر ، هو ما يتعين على المخرج أن يأسره و يثبته في الأجزاء الموضوعة على طاولة المونتاج .
الزمن المطبوع في الكادر ، يملي مبدأ المونتاج الخاص . و الأجزاء التي تقاوم المونتاج – التي لا يمكن أن تكون متصلة أو متحدة كما ينبغي – هي تلك التي تسجل نوعا من الزمن مختلفاً جذرياً . المرء لا يستطيع ، على سبيل المثال ، أن يركّب زمنا فعليا مع زمن تصوري ، مثلما لا يستطيع المرء أن يوصل أنابيب مياه ذات سمك أو قطر متفاوت . إن تماسك الزمن الذي يجري عبر اللقطة ، كثافته أو انزلاقه ، يمكن أن يدعى " ثقل الزمن " : عندئذ يمكن رؤية المونتاج كتجميع أو تركيب للأجزاء على أساس ثقل الزمن داخل تلك الأجزاء . المحافظة على الضغط الفعال ، أو القوة الدافعة ، سوف يوحد تأثير اللقطات المختلفة .
كيف يجعل الزمن نفسه محسوسا في اللقطة ؟ انه يصبح ملموسا و حقيقيا عندما تشعر بشيء ما هام ، صادق ، ذي معنى ، و يستمر إلى ما بعد الأحداث على الشاشة .. و عندما تدرك ، على نحو واع تماما ، بأن ما تراه في الكادر ليس محدداً بتصويره البصري بل يشير إلى شيء يتمدد وراء الكادر و نحو أللا تناهي ، يشير إلى الحياة . و مثل لا نهائية الصورة التي تحدثنا عنها سابقاً ، الفيلم هو اكبر مما يكونه .. إذا كان حقيقيا على الأقل . و الفيلم دائما ينتهي بأن يمتلك أفكارا و أهدافا هي أكثر من تلك التي صاغها مبدع الفيلم بوعي . و كما أن الحياة ، التي تتحرك و تتغير باستمرار ، تتيح لكل شخص أن يفسر و يشعر بكل لحظة منفصلة و مستقلة بطريقته الخاصة ، كذلك الفيلم الحقيقي الذي بإخلاص و أمانة يسجل الزمن الذي يتدفق وراء تخوم الكادر ، و يعيش ضمن الزمن إذا عاش الزمن ضمنه . هذه العملية المتبادلة هي عامل حاسم في السينما .
آنذاك يصبح الفيلم شيئا وراء نطاق كينونته الظاهرية كشريط في علبة .. مكشوف و خاضع للمونتاج ، أو بوصفه قصة أو حبكة . ما إن يحقق الفيلم اتصاله المباشر بالفرد الذي يشاهده ، حتى ينفصل الفيلم عن خالقه و يشرع في ممارسة حياته الخاصة ، خاضعا لتغيرات في الشكل و المعنى .
أنا ارفض مبادئ " سينما المونتاج " لأنها لا تتيح للفيلم أن يستمر و يمتد وراء حدود الشاشة : إنها لا تتيح للجمهور أن يخلق ذلك الاتصال بين التجربة الشخصية و ما يوجد أمامهم على الشاشة. " سينما المونتاج " تقدم إلى الجمهور أحاجى و ألغازا ، تجعلهم يحاولون حل شفرة الرموز ، و يجدون متعة في التعرف على المجازات و الاستعارات ، محتكمين طوال الوقت إلى تجربتهم العقلية ، الفكرية . مع ذلك ، فإن كل لغز من هذه الألغاز يتضمن الحل الصحيح و الدقيق ، بالتالي فأنا اشعر بأن ايزنشتاين يمنع الجمهور من السماح لمشاعرهم بأن تتأثر حسب تفاعلهم الخاص تجاه ما يشاهدونه . في فيلمه " أكتوبر " ، عندما يجاور الآلة الموسيقية – البالالايكة – مع شخصية كيرينسكي ، فإن منهجه يصبح هدفه ، بالطريقة التي قصدها فاليري . إن بناء الصورة يصبح غاية بذاته ، و خالق العمل يباشر في شن هجوم شامل على الجمهور ، فارضا عليهم موقفه الخاص تجاه ما يحدث .
لو يقارن المرء بين السينما و فنون مبنية على أساس الزمن ، مثل الباليه أو الموسيقى ، فإن السينما تبرز بوصفها الفن الذي يعطي الزمن شكلا مرئيا و حقيقيا . ما إن يتم تسجيل الزمن على الفيلم حتى تكون الظاهرة موجودة هناك .. محددة ، ثابتة ، و غير قابلة للتغيير .. حتى عندما يكون الزمن ذاتيا على نحو مكثف .
الفنانون ينقسمون إلى فئتين : أولئك الذي يخلقون عالمهم الداخلي الخاص ، و أولئك الذين يعيدون خلق الواقع . يقينا ، أنا انتمي إلى الفئة الأولى .. لكن ذلك لا يغير شيئا . إن عالمي الداخلي قد يكون ذا فائدة و أهمية للبعض ، و قد يسبب للبعض الآخر الفتور و اللامبالاة أو حتى السخط . القصد هو أن العالم الداخلي الذي تخلقه الوسيلة السينمائية ينبغي قبوله أو إدراكه بوصفه الواقع ، حيث انه مؤسس على نحو موضوعي في مباشرية اللحظة المسجلة .
المقطوعة الموسيقية يمكن عزفها بطرق مختلفة ، و يمكن أن تدوم لفترات زمنية متفاوتة . هنا ، في الموسيقى ، الزمن هو ببساطة حالة من الأسباب و النتائج المعلنة في نظام معين . إن لها صفة فلسفية ، تجريدية . السينما ، من جهة أخرى ، قادرة على تسجيل الزمن في علامات ظاهرية و منظورة ، يمكن أن تميزها المشاعر . هكذا يصبح الزمن الأساس الفعلي للسينما : كما الصوت في الموسيقى ، و اللون في الرسم ، و الشخصية في الدراما .
الإيقاع اذن ، ليس هو التعاقب القياسي الموزون للأجزاء . إن حركة الزمن ضمن الكادرات هي التي تخلق الإيقاع . و أنا مقتنع بأن الإيقاع و ليس المونتاج ، كما يعتقد البعض ، هو العنصر المكون الرئيسي للسينما .
المونتاج يوجد في كل شكل فني ، بما أن المادة ينبغي أن تكون دائما منتقاة و متصلة ببعضها . ما هو مختلف بشأن المونتاج السينمائي هو انه يقدم الزمن على نحو متصل ، مطبوعا في أجزاء الفيلم . المونتاج يستلزم جمع و تركيب أجزاء صغيرة و أخرى كبيرة ، كل منها تنطوي على زمن مختلف .. و هذا التجميع و التركيب يخلق إدراكا جديدا لوجود ذلك الزمن ، المنبثق كنتيجة للفواصل ، لما هو محذوف ، للمنحوت في المعالجة .. لكن الصفة المميزة للتجميع و التركيب ، كما قلنا سابقا ، هي حاضرة قبل الآن في الأجزاء . المونتاج لا يولّد ، لا يعيد خلق نوعية جديدة ، انه يظهر خاصية سبق و أن كانت متضمنة في الكادرات التي يربطها و يوحدها . المونتاج متوقع أثناء التصوير . انه مفترض سلفا في سمة ما هو مصور ، و مبرمج من البداية . المونتاج له علاقة بامتدادات الزمن ، و درجة الكثافة التي بها توجد ، كما تسجلها الكاميرا ، و ليس برموز تجريدية أو تكوينات منظمة بعناية ، و ليس بمفهومين متشابهين و اللذين من اتحادهما ينتج – كما يقال لنا – معنى ثالث .
أعمال ايزنشتاين نفسه تثبت فرضيتي . لو خذله حدسه ، و اخفق في تضمين الأجزاء الخاضعة للمونتاج ضغط الزمن الذي يقتضيه ذلك التركيب ، عندئذ سوف يُظهر الإيقاع – الذي يُعتبر شيئا يعتمد مباشرة على المونتاج – مواطن الضعف في مفاهيمه النظرية . خذ كمثال مشهد المعركة على الجليد في فيلم " الكسندر نيفسكي " : متجاهلا الحاجة لشحن الكادرات بالثقل الزمني المناسب ، يحاول ايزنشتاين أن يحرز الديناميكية الداخلية للمعركة من خلال تتابع اللقطات القصيرة عبر المونتاج .. و هي أحيانا قصيرة على نحو مفرط . مع ذلك ، و على الرغم من السرعة الخاطفة في تغير الكادرات ، إلا أن الجمهور ( و من بينهم أولئك الذين يأتون بذهنية منفتحة دون التأثر بفكرة أن هذا الفيلم " كلاسيكي " و انه مثال " كلاسيكي " للمونتاج كما يدرس في معهد السينما ) يلازمهم الشعور بأن ما يحدث على الشاشة راكد ، بليد ، و متكلف . و ذلك لعدم توفر الصدق الزمني في الكادرات المستقلة .. التي هي ، بذاتها ، كادرات ساكنة و غير ممتعة . بالتالي هناك تناقض محتوم بين الكادر نفسه ، المجرد من مرور محدد للزمن ، و أسلوب المونتاج المفاجئ ، الذي هو اعتباطي و ظاهري لأنه لا يحتوي على أي علاقة بأي زمن داخل اللقطات . الإحساس الذي كان المخرج يعول عليه لا يصل أبدا إلى الجمهور لأنه لم يقلق نفسه بملء الكادر بالحس الزمني الحقيقي للمعركة الأسطورية . الحدث لم يُخلق من جديد بل تم تركيبه بطريقة مألوفة .
الإيقاع في السينما يتم توصيله بواسطة حياة الشيء المسجل على نحو منظور في الكادر . و مثلما تستطيع أن تقرر ، من اهتزاز قصبة ، أي نوع من التيار المائي و أي ضغط يوجد هناك في النهر ، كذلك ، و بالطريقة نفسها ، نعرف حركة الزمن من تدفق عملية الحياة المعاد إنتاجها في اللقطة .
انه قبل كل شيء ، من خلال الإحساس بالزمن ، من خلال الإيقاع ، يكشف المخرج عن شخصيته المستقلة ، عن فرادته . الإيقاع يلون العمل بعلامات و سمات أسلوبية . الإيقاع ليس نتاج تفكير أو تأمل ، و ليس مركبا على أساس نظري و اعتباطي ، بل ينشأ تلقائيا في الفيلم استجابة للوعي الفطري بالحياة عند المخرج ، و " بحثه عن الزمن " . و يبدو لي بأن الزمن في اللقطة ينبغي أن يتدفق على نحو مستقل و بوقار ، عندئذ سوف تجد الأفكار مكانها في الزمن بلا جلبة و لا اهتياج و لا تهور . الإحساس بإيقاعية اللقطة هو بالأحرى أشبه بالإحساس بالكلمة الصادقة في الأدب . الكلمة غير الصحيحة في الكتابة ، مثل الإيقاع غير الصحيح في الفيلم ، تدمر صحة و صدق العمل .
لكن سيكون لدينا هنا معضلة يتعذر اجتنابها . لنقل بأنني أريد أن يكون هناك زمن يتدفق عبر الكادر في وقار و استقلالية بحيث لا أحد من الجمهور سوف يشعر بأن إدراكه الحسي موضع إكراه ، و بحيث يسمح لنفسه بأن يؤخذ أسيرا ، طوعا و عن طيب خاطر ، من قبل الفنان ، فيما يبدأ هو في التسليم بمادة الفيلم كما لو انها مادته ، مستوعبا و هاضما هذه المادة ، و جاذبا إياها داخل نفسه بوصفها تجربة جديدة و شخصية جدا . مع ذلك ، لا يزال هناك انقسام جلي : إذ أن إحساس المخرج بالزمن يصل دائما إلى نوع من إكراه الجمهور . الشخص الذي يشاهد إما أن ينسجم مع إيقاعك ( عالمك ) و يصبح حليفا لك ، أو لا ينسجم .. و في هذه الحالة لا يحدث أي اتصال . هكذا ، البعض يصبحون " أشقاء " لك ، و البعض الآخر يظلون غرباء . و أنا لا أظن بأن هذا ليس طبيعيا تماما فحسب ، بل محتوما و متعذراً اجتنابه .
عندئذ أرى أن من عملي المهني هو أن اخلق جريان الزمن المميز ، الخاص بي ، و أواصل في اللقطة الإحساس بحركة الزمن .. من الحركة الكسولة و البطيئة إلى الحركة العاصفة و الرشيقة .
التركيب ، المونتاج ، يقاطع مرور الزمن ، يعترضه ، و على نحو متزامن يمنحه شيئا جديدا . إن تحريف الزمن يمكن أن يكون وسيلة لإعطائه تعبيرا إيقاعيا ، النحت في الزمن . لكن الربط المدروس للقطات ذات الضغط الزمني المتفاوت لا يجب تقديمه عرضا و اتفاقا ، ينبغي أن يأتي هذا من الضرورة الداخلية ، من العملية العضوية الجارية في المادة ككل . في اللحظة التي تتشوش فيها العملية العضوية للمقاطع الانتقالية ، فإن توكيد المونتاج ( الذي يريد المخرج أن يواريه ) يبدأ في البروز إلى العيان ، يتكشف و يثب نحو العين . إذا تباطأ الزمن أو تسارع على نحو متكلف و ليس استجابة لنمو باطني ، و إذا كان تغير الإيقاع خاطئا ، فإن النتيجة ستكون زائفة و حادة .
إن ضم أجزاء ذات قيمة زمنية غير متكافئة يحطم بالضرورة الإيقاع . لكن ، لو أن هذا التحطيم تعززه قوى فعالة ضمن الكادرات المركبة ، فعندئذ قد يكون عاملاً أساسياً في نحت التصميم الإيقاعي الملائم . أن نأخذ ضغوطات الزمن العديدة المتنوعة - التي يمكننا تعيينها و تصنيفها مجازيا كغدير ، فيضان ، نهر ، شلال ، محيط - و نضمها معا ، فإن ذلك يولّد ذلك التصميم الإيقاعي الفريد الذي هو إحساس مبدع العمل بالزمن ، و المتخلق ككينونة متشكلة من جديد .
بقدر ما يكون الإحساس بالزمن وثيق الصلة بإدراك المخرج الفطري للحياة ، و المونتاج تمليه الضغوطات الإيقاعية في أجزاء الفيلم ، فإن بصمة المخرج ينبغي أن تكون مرئية في مونتاجه . إنه يعبّر عن موقفه تجاه مفهوم الفيلم ، و هو التجسيد الجوهري لفلسفته في الحياة . و أظن أن صانع الفيلم الذي يركب أفلامه بسهولة ، و بطرق مختلفة ، لابد و أن تبدو أعماله سطحية ، وبلا عمق .. بعكس مونتاج بيرجمان أو بريسون أو كيرو ساوا أو أنتونيوني .. الذي يمكن تمييزه والتعرف عليه دائما . لا يمكن أبدا الخلط بين واحد من هؤلاء وبين شخص آخر ، ذلك لأن إدراك كل منهم للزمن ، كما هو منعكس في إيقاع أفلامه ، هو نفسه دائما .
طبعا يتعين عليك أن تعرف قوانين المونتاج ، تماما مثلما يتعين عليك أن تعرف كل قوانين مهنتك الأخرى . لكن الخلق الفني يبدأ في النقطة التي تلتوي فيها هذه القوانين أو تتعرض للنقض والانتهاك .
مع أن ليف تولستوي لم يكن صاحب أسلوب خال من الأخطاء مثل إيفان بونين ، و رواياته تفتقر إلى الأناقة و الكمال اللذين تتسم بهما قصص بونين ، إلا أنه لا يمكن اعتبار بونين أعظم من تولستوي . إنك تغفر لتولستوي تأويلاته الأخلاقية المضجرة ، و غير الضرورية غالبا ، و تغفر له الجمل الخرقاء ، غير المصقولة .. و ليس هذا فحسب ، بل أنك تشعر بالولع تجاه أخطائه بوصفها سمة تميز الرجل . ففي حضور شخص بارز و عظيم حقا ، أنت تقبله بكل " نقاط ضعفه " أو نقائصه ، و التي تصبح سمات مميزة لخصائصه الجمالية .
إذا أنت انتزعت أوصاف دوستويفسكي لشخصياته من سياق أعماله ، فإنك سوف تجدها مخيبة .. فهو يصف شخصياته على النحو التالي : جميلة ، بشفتين رائعتين ، وجوه شاحبة .. وهكذا . لكن ذلك لا يهم ، و ليس ذا شأن ، لأننا لا نتحدث هنا عن شخص يمارس حرفة ما ، بل عن فنان و فيلسوف . إيفان بونين ، الذي كان يكنّ احتراما مطلقاً ، غير محدود ، لتولستوي ، إعتقد بأن رواية " أنا كارنينا " مكتوبة على نحو رديء ، و حاول أن يعيد كتابتها لكن أخفق في ذلك . فالأعمال الفنية تتشكل عبر معالجة عضوية ، متناسقة الأجزاء ، و سواء أكانت جيدة أم سيئة فإنها كائنات حية ذات نظام خاص لا يجب أن يتعرض للإفساد أو التشويش .
الشيء نفسه ينطبق على المونتاج : إنها ليست مسألة التضلع في التقنية و فهمها ببراعة مثل عالم أو باحث ، بل هي حاجة أساسية و حيوية للتعبير الفردي الخاص و المتميز . يتعين عليك قبل كل شيء ، أن تعرف ما الذي اجتذبك إلى السينما و جعلك تفضلها على أي فرع فني آخر ، و أن تعرف ما تريد أن تقوله بواسطة شعرية السينما .
بالمصادفة ، في السنوات الأخيرة ، يلتقي المرء أكثر فأكثر بشبان يأتون إلى معاهد السينما مهيئين لفعل " ما يتعين عليك فعله " في روسيا ، أو " ما تحصل عليه أكثر " في الغرب . هذا مأساوي . مشاكل التقنية هي لعب أطفال .. تستطيع أن تتعلم أية لعبة بسهولة . لكن التفكير على نحو مستقل ، بكفاءة ، ليس مثل تعلم فعل شيء ما . لا أحد قادر أن يرغمك على حمل عبء ثقيل ، و الذي لا يكون صعبا فحسب ، بل أحيانا يستحيل حمله .. لكن ليس ثمة سبيل آخر .. إما كل شيء أو لاشيء .
الرجل الذي سرق من أجل أن لا يسرق مرة أخرى يظل لصا . لا أحد خان يوماً مبادئه يستطيع أن يملك علاقة نقية مع الحياة . بالتالي ، عندما يقول صانع الفيلم بأنه سوف ينتج عملا يدر له ربحا ماديا لكي يهب نفسه القوة و السند و الوسيلة لتحقيق الفيلم الذي يحلم به ، فإن في ذلك الكثير من الخداع و التضليل .. أو ما هو أسوأ ، خداع الذات . و هو سوف لن يحقق فيلم أحلامه أبدا .
ـــــــ
جزء من كتاب " النحت في الزمن "
تأليف : أندريه تراكوفسكي
ترجمة : أمين صالح
ــــــــ
اللوحة : دافنشي