بالانتقال الآن إلى الصورة السينمائية في حد ذاتها ، أريد في الحال أن أبدد الفكرة المسلم بها على نحو واسع و التي تقول بأن الصورة " مركبة " جوهريا . هذا المفهوم يبدو لي خاطئا لأنه يدل ضمنا على أن السينما مؤسسة على خاصيات تابعة لأشكال فنية شقيقة ، و لا تملك على الإطلاق شيئا خاصا بها ، و هذا يعني إنكار حقيقة أن السينما فن .
العامل الغالب ، الفعال تماما ، للصورة السينمائية هو الإيقاع ، الذي يعبر عن جريان الزمن ضمن الكادر . الانتقال الفعلي للزمن يتجلى أيضا في سلوك الشخصيات ، في المعالجة البصرية ، و في الصوت . لكن هذه كلها مقومات مصاحبة و التي غيابها ، نظريا ، سوف لن يؤثر بأية حال في كينونة الفيلم . المرء لا يستطيع أن يتخيل عملا سينمائيا بدون أي إحساس بمرور الزمن من خلال اللقطة ، لكن المرء يستطيع بسهولة أن يتخيل فيلما بدون ممثلين أو موسيقى أو ديكور أو حتى مونتاج . فيلم الأخوين لوميير " وصول القطار " ، الذي أشرنا إليه سابقا ، كان كذلك . أيضا فيلم أو فيلمان من حركة " الاندرجراوند " الأمريكية : أحدهما يظهر رجلا نائما ، بعد ذلك يصحو .. و السينما عن طريق قوتها السحرية الخاصة ، تمنح تلك اللحظة تأثيراً جماليا فاتنا وغير متوقع . أو فيلم الفرنسي باسكال اوبير الذي تستغرق مدته عشر دقائق و يتألف من لقطة واحدة فقط . في البداية ، يعرض الفيلم حياة الطبيعة المهيبة ، غير الصاخبة ، اللامبالية تجاه الأهواء البشرية و الأنشطة الصاخبة . بعد ذلك تتحرك الكاميرا ، الموجهة بمهارة و براعة فنان ، لتصور نقطة صغيرة جدا : شخص راقد ، لكن بالكاد يُرى ، على ارض معشوشبة ، عند سفح هضبة . الذروة الدرامية تلي مباشرة ، فمرور الزمن يبدو متسارعا ، يحثه فضولنا : انه كما لو ننسل بحذر صوب الشخص برفقة الكاميرا . و فيما نقترب ، ندرك بان الرجل ميت . و في اللحظة التالية نحصل على معلومة إضافية : انه ليس ميتا فحسب ، بل كان مقتولا .. متمرد مات متأثراً بجراحه ، و هو الآن مرئي في خلفية طبيعة لا مبالية . إن ذكرياتنا ترمينا بقوة نحو أحداث تهز عالم اليوم .
سوف تتذكر بان الفيلم لا يحتوي على تمثيل أو ديكور أو مونتاج ، لكن إيقاع حركة الزمن حاضر هناك ضمن الكادر ، بوصفه القوة المنظمة الوحيدة للتنامي الدرامي .. المركّب تماما .لا يوجد عنصر أو مكوّن واحد من الفيلم يمكن أن يتضمن أي معنى في عزلته عن المكونات الأخرى .. الفيلم كله هو الذي يشكل العمل الفني . و نحن نستطيع فحسب أن نتحدث عن مكوناته على نحو اعتباطي إلى حد ما ، مقسمينها على نحو متكلف من أجل مناقشتها نظريا .
أيضا لا أستطيع أن أقبل بفكرة أن المونتاج هو العنصر المكون الأساسي للفيلم ، كما أكد – في سنوات العشرينات – أنصار سينما المونتاج ، أتباع كوليشوف وايزنشتاين .. كما لو أن الفيلم يتحقق على طاولة المونتاج .
غالبا ما يشيرون ، و هذا صحيح تماما ، إلى أن كل شكل فني يتضمن المونتاج ، بمعنى الانتقاء و الموازنة ، تعديل أو ضبط الأجزاء و القطع . الصورة السينمائية تنشأ أثناء التصوير ، و توجد ضمن الكادر ، أثناء التصوير ، و لذلك أنا أركز على سير الزمن في الكادر من أجل إعادة إنتاجه و تسجيله . المونتاج يجلب معا لقطات هي مليئة بالزمن قبل ذلك الحين ، و ينظم البناء الحي الموحد ، المتأصل في الفيلم .. و الزمن الذي ينبض عبر شرايين الفيلم ، و الذي يجعله حيا و متقدا ، ذو ثقل إيقاعي متنوع .
فكرة " سينما المونتاج " ، أي أن المونتاج يجلب معا مفهومين و بالتالي يولّد مفهوماً ثالثا جديدا ، تبدو لي ، مرة أخرى ، متنافرة مع طبيعة السينما . الفن لا يمكن أبدا أن يجعل من تفاعل المفاهيم غايته الأساسية أو النهائية . الصورة مرتبطة بالملموس و المادي ، مع ذلك تمتد عبر الطرق الخفية و الغامضة إلى أقاليم توجد وراء الروح .. في اختيار المخرج للمادة و تسجيلها ، فإن كادرا واحدا يكفي لإثبات ما إذا كان المخرج موهوبا ، و ما إذا كان يمتلك رؤية سينمائية . المونتاج ، في النهاية ، ما هو إلا تجميع للقطات عبر تنوع مثالي ، و الذي يتضمن بالضرورة داخل المادة الموضوعة في قرص الفيلم . إن مونتاج الصورة على نحو صحيح و واف يعني السماح للمشاهد و اللقطات المنفصلة أن تتشكل معا تلقائيا نظرا لأنها من بعض النواحي تولّف نفسها . إنها تتحد وفقا للمثال الجوهري الخاص بها . إنها ببساطة مسألة التسليم بهذا المثال أو النمط و متابعته أثناء الربط و القطع . ليس من السهل دائما الإحساس بنمط العلاقات ، و المفاصل بين اللقطات ، خصوصا إذا صور المشهد على نحو غير صحيح . عندئذ سوف لن يتعين عليك أن تلصق الأجزاء على نحو منطقي و طبيعي على طاولة المونتاج فحسب ، بل أن تنشد جاهدا المبدأ الأساسي للمفاصل . شيئا فشيئا ، و على مهل ، سوف تجد الوحدة الأساسية المتضمنة في المادة تنبثق و تصبح أكثر وضوحا . أن البناء المنظم ذاتيا يتخذ شكلا معيناً أثناء المونتاج بسبب الخاصيات المميزة الممنوحة للمادة أثناء التصوير . الطبيعة الأساسية للمادة المصورة تتجلى في أسلوب المونتاج . بالرجوع مرة أخرى إلى تجربتي الخاصة ، ينبغي أن أقول إن كماً هائلاً من العمل احتجنا في مونتاج فيلم " المرآة " . كان هناك عشرون شكلا مختلفا أو أكثر . لا أعني فقط التغييرات في ترتيب لقطات معينة ، بل التعديلات الرئيسية في البناء الفعلي ، في سياق الأحداث . في لحظات معينة ، كان الفيلم يبدو كما لو أنه يستحيل توليفه ، و الذي يعني بأن هفوات غير مقبولة حدثت أثناء التصوير . الفيلم لم تتماسك أجزاؤه ، لم يصمد بل انهار فيما نحن نراقب .. و لم يكن يملك تلك الوحدة و الانسجام ، ذلك الارتباط الداخلي الضروري ، ذلك المنطق . ثم ، و في يوم رائق و جميل ، حين نجحنا - بطريقة ما - في القيام بعملية يائسة و أخيرة من إعادة الترتيب و التنسيق ، تخلق الفيلم فجأة ، و عادت المادة إلى الحياة . الأجزاء باشرت في العمل على نحو متبادل كما لو كانت متصلة بمجرى دم . و فيما تلك المحاولة اليائسة الأخيرة معروضة على الشاشة ، ولد الفيلم أمام أعيننا المجردة . و لفترة طويلة لم أستطع أن أصدق المعجزة : الفيلم و قد تماسكت أجزاؤه .
كان ذلك اختبارا جديا للمدى الذي كان فيه تصويرنا جيدا . من الواضح أن الأجزاء تشكلت معا بسبب النزوع المتضمن في المادة و الذي نشأ حتما أثناء تصوير الفيلم . و لأننا لم نضلل أنفسنا بشأن وجوده هناك ، على الرغم من كل الصعوبات و العوائق ، فلم يكن بوسع الفيلم إلا أن يتشكل ، إذ أن ذلك كان متأصلا في الجوهر الفعلي للأشياء . كان عليه أن يحدث ، على نحو شرعي و تلقائي ، ما إن أدركنا معنى اللقطات و مصدر حياتها .و حين يحدث ذلك ، حمدا لله ، تعم الفرحة و يسود الارتياح بين الجميع . الزمن نفسه ، الدائر عبر اللقطات ، قد اتحد و اتصل من غير انقطاع . كان فيلم ” المرآة " يتضمن حوالي 200 لقطة ، و هي قليلة جدا ، إذ أن فيلما بهذا الطول يحتوي عادة 500 لقطة .. لكن العدد القليل كان بسبب طول اللقطات . و مع أن تجمع اللقطات هو المسؤول عن بنية الفيلم ، إلا أنه - بخلاف ما هو مفترض عموما - لا يخلق إيقاع الفيلم . الزمن المميز ، الممتد عبر اللقطات ، يخلق إيقاع الفيلم . الإيقاع لا يقرره طول الأجزاء بعد تعرضها للمونتاج بل يحدده ضغط أو ثقل الزمن الذي ينزلق عبر هذه الأجزاء . المونتاج لا يمكن أن يقرر الإيقاع ( إنه في هذه الناحية ، يمكن أن يكون مجرد مقوّم للأسلوب ) .
الزمن في الواقع يجري عبر الفيلم على الرغم من المونتاج و ليس بسببه . إن مجرى الزمن ، المسجل في الكادر ، هو ما يتعين على المخرج أن يأسره و يثبته في الأجزاء الموضوعة على طاولة المونتاج .
الزمن المطبوع في الكادر ، يملي مبدأ المونتاج الخاص . و الأجزاء التي تقاوم المونتاج – التي لا يمكن أن تكون متصلة أو متحدة كما ينبغي – هي تلك التي تسجل نوعا من الزمن مختلفاً جذرياً . المرء لا يستطيع ، على سبيل المثال ، أن يركّب زمنا فعليا مع زمن تصوري ، مثلما لا يستطيع المرء أن يوصل أنابيب مياه ذات سمك أو قطر متفاوت . إن تماسك الزمن الذي يجري عبر اللقطة ، كثافته أو انزلاقه ، يمكن أن يدعى " ثقل الزمن " : عندئذ يمكن رؤية المونتاج كتجميع أو تركيب للأجزاء على أساس ثقل الزمن داخل تلك الأجزاء . المحافظة على الضغط الفعال ، أو القوة الدافعة ، سوف يوحد تأثير اللقطات المختلفة .
كيف يجعل الزمن نفسه محسوسا في اللقطة ؟ انه يصبح ملموسا و حقيقيا عندما تشعر بشيء ما هام ، صادق ، ذي معنى ، و يستمر إلى ما بعد الأحداث على الشاشة .. و عندما تدرك ، على نحو واع تماما ، بأن ما تراه في الكادر ليس محدداً بتصويره البصري بل يشير إلى شيء يتمدد وراء الكادر و نحو أللا تناهي ، يشير إلى الحياة . و مثل لا نهائية الصورة التي تحدثنا عنها سابقاً ، الفيلم هو اكبر مما يكونه .. إذا كان حقيقيا على الأقل . و الفيلم دائما ينتهي بأن يمتلك أفكارا و أهدافا هي أكثر من تلك التي صاغها مبدع الفيلم بوعي . و كما أن الحياة ، التي تتحرك و تتغير باستمرار ، تتيح لكل شخص أن يفسر و يشعر بكل لحظة منفصلة و مستقلة بطريقته الخاصة ، كذلك الفيلم الحقيقي الذي بإخلاص و أمانة يسجل الزمن الذي يتدفق وراء تخوم الكادر ، و يعيش ضمن الزمن إذا عاش الزمن ضمنه . هذه العملية المتبادلة هي عامل حاسم في السينما .
آنذاك يصبح الفيلم شيئا وراء نطاق كينونته الظاهرية كشريط في علبة .. مكشوف و خاضع للمونتاج ، أو بوصفه قصة أو حبكة . ما إن يحقق الفيلم اتصاله المباشر بالفرد الذي يشاهده ، حتى ينفصل الفيلم عن خالقه و يشرع في ممارسة حياته الخاصة ، خاضعا لتغيرات في الشكل و المعنى .
أنا ارفض مبادئ " سينما المونتاج " لأنها لا تتيح للفيلم أن يستمر و يمتد وراء حدود الشاشة : إنها لا تتيح للجمهور أن يخلق ذلك الاتصال بين التجربة الشخصية و ما يوجد أمامهم على الشاشة. " سينما المونتاج " تقدم إلى الجمهور أحاجى و ألغازا ، تجعلهم يحاولون حل شفرة الرموز ، و يجدون متعة في التعرف على المجازات و الاستعارات ، محتكمين طوال الوقت إلى تجربتهم العقلية ، الفكرية . مع ذلك ، فإن كل لغز من هذه الألغاز يتضمن الحل الصحيح و الدقيق ، بالتالي فأنا اشعر بأن ايزنشتاين يمنع الجمهور من السماح لمشاعرهم بأن تتأثر حسب تفاعلهم الخاص تجاه ما يشاهدونه . في فيلمه " أكتوبر " ، عندما يجاور الآلة الموسيقية – البالالايكة – مع شخصية كيرينسكي ، فإن منهجه يصبح هدفه ، بالطريقة التي قصدها فاليري . إن بناء الصورة يصبح غاية بذاته ، و خالق العمل يباشر في شن هجوم شامل على الجمهور ، فارضا عليهم موقفه الخاص تجاه ما يحدث .
لو يقارن المرء بين السينما و فنون مبنية على أساس الزمن ، مثل الباليه أو الموسيقى ، فإن السينما تبرز بوصفها الفن الذي يعطي الزمن شكلا مرئيا و حقيقيا . ما إن يتم تسجيل الزمن على الفيلم حتى تكون الظاهرة موجودة هناك .. محددة ، ثابتة ، و غير قابلة للتغيير .. حتى عندما يكون الزمن ذاتيا على نحو مكثف .
الفنانون ينقسمون إلى فئتين : أولئك الذي يخلقون عالمهم الداخلي الخاص ، و أولئك الذين يعيدون خلق الواقع . يقينا ، أنا انتمي إلى الفئة الأولى .. لكن ذلك لا يغير شيئا . إن عالمي الداخلي قد يكون ذا فائدة و أهمية للبعض ، و قد يسبب للبعض الآخر الفتور و اللامبالاة أو حتى السخط . القصد هو أن العالم الداخلي الذي تخلقه الوسيلة السينمائية ينبغي قبوله أو إدراكه بوصفه الواقع ، حيث انه مؤسس على نحو موضوعي في مباشرية اللحظة المسجلة .
المقطوعة الموسيقية يمكن عزفها بطرق مختلفة ، و يمكن أن تدوم لفترات زمنية متفاوتة . هنا ، في الموسيقى ، الزمن هو ببساطة حالة من الأسباب و النتائج المعلنة في نظام معين . إن لها صفة فلسفية ، تجريدية . السينما ، من جهة أخرى ، قادرة على تسجيل الزمن في علامات ظاهرية و منظورة ، يمكن أن تميزها المشاعر . هكذا يصبح الزمن الأساس الفعلي للسينما : كما الصوت في الموسيقى ، و اللون في الرسم ، و الشخصية في الدراما .
الإيقاع اذن ، ليس هو التعاقب القياسي الموزون للأجزاء . إن حركة الزمن ضمن الكادرات هي التي تخلق الإيقاع . و أنا مقتنع بأن الإيقاع و ليس المونتاج ، كما يعتقد البعض ، هو العنصر المكون الرئيسي للسينما .
المونتاج يوجد في كل شكل فني ، بما أن المادة ينبغي أن تكون دائما منتقاة و متصلة ببعضها . ما هو مختلف بشأن المونتاج السينمائي هو انه يقدم الزمن على نحو متصل ، مطبوعا في أجزاء الفيلم . المونتاج يستلزم جمع و تركيب أجزاء صغيرة و أخرى كبيرة ، كل منها تنطوي على زمن مختلف .. و هذا التجميع و التركيب يخلق إدراكا جديدا لوجود ذلك الزمن ، المنبثق كنتيجة للفواصل ، لما هو محذوف ، للمنحوت في المعالجة .. لكن الصفة المميزة للتجميع و التركيب ، كما قلنا سابقا ، هي حاضرة قبل الآن في الأجزاء . المونتاج لا يولّد ، لا يعيد خلق نوعية جديدة ، انه يظهر خاصية سبق و أن كانت متضمنة في الكادرات التي يربطها و يوحدها . المونتاج متوقع أثناء التصوير . انه مفترض سلفا في سمة ما هو مصور ، و مبرمج من البداية . المونتاج له علاقة بامتدادات الزمن ، و درجة الكثافة التي بها توجد ، كما تسجلها الكاميرا ، و ليس برموز تجريدية أو تكوينات منظمة بعناية ، و ليس بمفهومين متشابهين و اللذين من اتحادهما ينتج – كما يقال لنا – معنى ثالث .
أعمال ايزنشتاين نفسه تثبت فرضيتي . لو خذله حدسه ، و اخفق في تضمين الأجزاء الخاضعة للمونتاج ضغط الزمن الذي يقتضيه ذلك التركيب ، عندئذ سوف يُظهر الإيقاع – الذي يُعتبر شيئا يعتمد مباشرة على المونتاج – مواطن الضعف في مفاهيمه النظرية . خذ كمثال مشهد المعركة على الجليد في فيلم " الكسندر نيفسكي " : متجاهلا الحاجة لشحن الكادرات بالثقل الزمني المناسب ، يحاول ايزنشتاين أن يحرز الديناميكية الداخلية للمعركة من خلال تتابع اللقطات القصيرة عبر المونتاج .. و هي أحيانا قصيرة على نحو مفرط . مع ذلك ، و على الرغم من السرعة الخاطفة في تغير الكادرات ، إلا أن الجمهور ( و من بينهم أولئك الذين يأتون بذهنية منفتحة دون التأثر بفكرة أن هذا الفيلم " كلاسيكي " و انه مثال " كلاسيكي " للمونتاج كما يدرس في معهد السينما ) يلازمهم الشعور بأن ما يحدث على الشاشة راكد ، بليد ، و متكلف . و ذلك لعدم توفر الصدق الزمني في الكادرات المستقلة .. التي هي ، بذاتها ، كادرات ساكنة و غير ممتعة . بالتالي هناك تناقض محتوم بين الكادر نفسه ، المجرد من مرور محدد للزمن ، و أسلوب المونتاج المفاجئ ، الذي هو اعتباطي و ظاهري لأنه لا يحتوي على أي علاقة بأي زمن داخل اللقطات . الإحساس الذي كان المخرج يعول عليه لا يصل أبدا إلى الجمهور لأنه لم يقلق نفسه بملء الكادر بالحس الزمني الحقيقي للمعركة الأسطورية . الحدث لم يُخلق من جديد بل تم تركيبه بطريقة مألوفة .
الإيقاع في السينما يتم توصيله بواسطة حياة الشيء المسجل على نحو منظور في الكادر . و مثلما تستطيع أن تقرر ، من اهتزاز قصبة ، أي نوع من التيار المائي و أي ضغط يوجد هناك في النهر ، كذلك ، و بالطريقة نفسها ، نعرف حركة الزمن من تدفق عملية الحياة المعاد إنتاجها في اللقطة .
انه قبل كل شيء ، من خلال الإحساس بالزمن ، من خلال الإيقاع ، يكشف المخرج عن شخصيته المستقلة ، عن فرادته . الإيقاع يلون العمل بعلامات و سمات أسلوبية . الإيقاع ليس نتاج تفكير أو تأمل ، و ليس مركبا على أساس نظري و اعتباطي ، بل ينشأ تلقائيا في الفيلم استجابة للوعي الفطري بالحياة عند المخرج ، و " بحثه عن الزمن " . و يبدو لي بأن الزمن في اللقطة ينبغي أن يتدفق على نحو مستقل و بوقار ، عندئذ سوف تجد الأفكار مكانها في الزمن بلا جلبة و لا اهتياج و لا تهور . الإحساس بإيقاعية اللقطة هو بالأحرى أشبه بالإحساس بالكلمة الصادقة في الأدب . الكلمة غير الصحيحة في الكتابة ، مثل الإيقاع غير الصحيح في الفيلم ، تدمر صحة و صدق العمل .
لكن سيكون لدينا هنا معضلة يتعذر اجتنابها . لنقل بأنني أريد أن يكون هناك زمن يتدفق عبر الكادر في وقار و استقلالية بحيث لا أحد من الجمهور سوف يشعر بأن إدراكه الحسي موضع إكراه ، و بحيث يسمح لنفسه بأن يؤخذ أسيرا ، طوعا و عن طيب خاطر ، من قبل الفنان ، فيما يبدأ هو في التسليم بمادة الفيلم كما لو انها مادته ، مستوعبا و هاضما هذه المادة ، و جاذبا إياها داخل نفسه بوصفها تجربة جديدة و شخصية جدا . مع ذلك ، لا يزال هناك انقسام جلي : إذ أن إحساس المخرج بالزمن يصل دائما إلى نوع من إكراه الجمهور . الشخص الذي يشاهد إما أن ينسجم مع إيقاعك ( عالمك ) و يصبح حليفا لك ، أو لا ينسجم .. و في هذه الحالة لا يحدث أي اتصال . هكذا ، البعض يصبحون " أشقاء " لك ، و البعض الآخر يظلون غرباء . و أنا لا أظن بأن هذا ليس طبيعيا تماما فحسب ، بل محتوما و متعذراً اجتنابه .
عندئذ أرى أن من عملي المهني هو أن اخلق جريان الزمن المميز ، الخاص بي ، و أواصل في اللقطة الإحساس بحركة الزمن .. من الحركة الكسولة و البطيئة إلى الحركة العاصفة و الرشيقة .
التركيب ، المونتاج ، يقاطع مرور الزمن ، يعترضه ، و على نحو متزامن يمنحه شيئا جديدا . إن تحريف الزمن يمكن أن يكون وسيلة لإعطائه تعبيرا إيقاعيا ، النحت في الزمن . لكن الربط المدروس للقطات ذات الضغط الزمني المتفاوت لا يجب تقديمه عرضا و اتفاقا ، ينبغي أن يأتي هذا من الضرورة الداخلية ، من العملية العضوية الجارية في المادة ككل . في اللحظة التي تتشوش فيها العملية العضوية للمقاطع الانتقالية ، فإن توكيد المونتاج ( الذي يريد المخرج أن يواريه ) يبدأ في البروز إلى العيان ، يتكشف و يثب نحو العين . إذا تباطأ الزمن أو تسارع على نحو متكلف و ليس استجابة لنمو باطني ، و إذا كان تغير الإيقاع خاطئا ، فإن النتيجة ستكون زائفة و حادة .
إن ضم أجزاء ذات قيمة زمنية غير متكافئة يحطم بالضرورة الإيقاع . لكن ، لو أن هذا التحطيم تعززه قوى فعالة ضمن الكادرات المركبة ، فعندئذ قد يكون عاملاً أساسياً في نحت التصميم الإيقاعي الملائم . أن نأخذ ضغوطات الزمن العديدة المتنوعة - التي يمكننا تعيينها و تصنيفها مجازيا كغدير ، فيضان ، نهر ، شلال ، محيط - و نضمها معا ، فإن ذلك يولّد ذلك التصميم الإيقاعي الفريد الذي هو إحساس مبدع العمل بالزمن ، و المتخلق ككينونة متشكلة من جديد .
بقدر ما يكون الإحساس بالزمن وثيق الصلة بإدراك المخرج الفطري للحياة ، و المونتاج تمليه الضغوطات الإيقاعية في أجزاء الفيلم ، فإن بصمة المخرج ينبغي أن تكون مرئية في مونتاجه . إنه يعبّر عن موقفه تجاه مفهوم الفيلم ، و هو التجسيد الجوهري لفلسفته في الحياة . و أظن أن صانع الفيلم الذي يركب أفلامه بسهولة ، و بطرق مختلفة ، لابد و أن تبدو أعماله سطحية ، وبلا عمق .. بعكس مونتاج بيرجمان أو بريسون أو كيرو ساوا أو أنتونيوني .. الذي يمكن تمييزه والتعرف عليه دائما . لا يمكن أبدا الخلط بين واحد من هؤلاء وبين شخص آخر ، ذلك لأن إدراك كل منهم للزمن ، كما هو منعكس في إيقاع أفلامه ، هو نفسه دائما .
طبعا يتعين عليك أن تعرف قوانين المونتاج ، تماما مثلما يتعين عليك أن تعرف كل قوانين مهنتك الأخرى . لكن الخلق الفني يبدأ في النقطة التي تلتوي فيها هذه القوانين أو تتعرض للنقض والانتهاك .
مع أن ليف تولستوي لم يكن صاحب أسلوب خال من الأخطاء مثل إيفان بونين ، و رواياته تفتقر إلى الأناقة و الكمال اللذين تتسم بهما قصص بونين ، إلا أنه لا يمكن اعتبار بونين أعظم من تولستوي . إنك تغفر لتولستوي تأويلاته الأخلاقية المضجرة ، و غير الضرورية غالبا ، و تغفر له الجمل الخرقاء ، غير المصقولة .. و ليس هذا فحسب ، بل أنك تشعر بالولع تجاه أخطائه بوصفها سمة تميز الرجل . ففي حضور شخص بارز و عظيم حقا ، أنت تقبله بكل " نقاط ضعفه " أو نقائصه ، و التي تصبح سمات مميزة لخصائصه الجمالية .
إذا أنت انتزعت أوصاف دوستويفسكي لشخصياته من سياق أعماله ، فإنك سوف تجدها مخيبة .. فهو يصف شخصياته على النحو التالي : جميلة ، بشفتين رائعتين ، وجوه شاحبة .. وهكذا . لكن ذلك لا يهم ، و ليس ذا شأن ، لأننا لا نتحدث هنا عن شخص يمارس حرفة ما ، بل عن فنان و فيلسوف . إيفان بونين ، الذي كان يكنّ احتراما مطلقاً ، غير محدود ، لتولستوي ، إعتقد بأن رواية " أنا كارنينا " مكتوبة على نحو رديء ، و حاول أن يعيد كتابتها لكن أخفق في ذلك . فالأعمال الفنية تتشكل عبر معالجة عضوية ، متناسقة الأجزاء ، و سواء أكانت جيدة أم سيئة فإنها كائنات حية ذات نظام خاص لا يجب أن يتعرض للإفساد أو التشويش .
الشيء نفسه ينطبق على المونتاج : إنها ليست مسألة التضلع في التقنية و فهمها ببراعة مثل عالم أو باحث ، بل هي حاجة أساسية و حيوية للتعبير الفردي الخاص و المتميز . يتعين عليك قبل كل شيء ، أن تعرف ما الذي اجتذبك إلى السينما و جعلك تفضلها على أي فرع فني آخر ، و أن تعرف ما تريد أن تقوله بواسطة شعرية السينما .
بالمصادفة ، في السنوات الأخيرة ، يلتقي المرء أكثر فأكثر بشبان يأتون إلى معاهد السينما مهيئين لفعل " ما يتعين عليك فعله " في روسيا ، أو " ما تحصل عليه أكثر " في الغرب . هذا مأساوي . مشاكل التقنية هي لعب أطفال .. تستطيع أن تتعلم أية لعبة بسهولة . لكن التفكير على نحو مستقل ، بكفاءة ، ليس مثل تعلم فعل شيء ما . لا أحد قادر أن يرغمك على حمل عبء ثقيل ، و الذي لا يكون صعبا فحسب ، بل أحيانا يستحيل حمله .. لكن ليس ثمة سبيل آخر .. إما كل شيء أو لاشيء .
الرجل الذي سرق من أجل أن لا يسرق مرة أخرى يظل لصا . لا أحد خان يوماً مبادئه يستطيع أن يملك علاقة نقية مع الحياة . بالتالي ، عندما يقول صانع الفيلم بأنه سوف ينتج عملا يدر له ربحا ماديا لكي يهب نفسه القوة و السند و الوسيلة لتحقيق الفيلم الذي يحلم به ، فإن في ذلك الكثير من الخداع و التضليل .. أو ما هو أسوأ ، خداع الذات . و هو سوف لن يحقق فيلم أحلامه أبدا .
ـــــــ
جزء من كتاب " النحت في الزمن "
تأليف : أندريه تراكوفسكي
ترجمة : أمين صالح
ــــــــ
اللوحة : دافنشي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق