يناير 18، 2010

رسائل الجنيد


عاش الإمام أبوالقاسم الجنيد في القرن الثالث الهجري ويعتبر عند علماء التصوف سيد هذه الطائفة، ومقدم هذه الجماعة، وإمام هذه الخرقة، وشيخ طريقة التصوف، وعلم الأولياء في زمانه.. يقول عنه جعفر الخلدي من تلامذته.. لم نر في شيوخنا من اجتمع له علم وحال غير الجنيد، إذا رأيت علمه رجحته علي حاله وإذا رأيت حاله رجحته علي علمه 'ويقول: قال الجنيد ذات يوم؟ ما أخرج الله علما وجعل للخلق إليه سبيلا إلا وجعل لي فيه حظا ونصيبا، وقال أبوالقاسم الكعبي المتكلم المعتزلي: 'مارأت عيناي مثله، كان الكتبة يحضرونه لألفاظه، والفلاسفة لدقة معانيه، والمتكلمون لعلمه'..
كتاب الفناء
كلام الإمام أبي القاسم الجنيد بن محمد قدس الله روحه
الحمد لله الذي قطع العلائق عن المنقطعين اليه، ووهب الحقائق للمتصلين به المعتمدين عليه، حين أوجدهم ووهب لهم حبه، فأثبت العارفين في حزبه، وجعلهم درجات في مواهبه، وأراهم قوة أبداها عنه، ووهبهم منة من فضله، فلم تعترض عليهم الخطرات بملكها، ولم تلتق بهم الصفات المسببة للنقائص في نسبتها، لانتسابهم الى حقائق التوحيد بنفاذ التجريد، فيما كانت به الدعوة، ووجدت به أسباب الحظوة، من بوادي الغيوب وقرب المحبوب.
ثم سمعته يقول: وهبنيه ثم استتر بي عني فأنا أضر الأشياء علي، الويل لي مني، أكادني و عنه بي خدعني، كان حضوري سبب فقدي، وكانت متعتي بمشاهدتي كمال جهدي، فالآن عدمت قواي لعناء سري. لا أجد ذوق الوجود ولا أحلو من تمكين الشهود، ولا أجد نعيما من جنس النعيم، ولا (أجد) التعذيب من جنس التعذيب، فطارت المذاقات عني، وتفانت اللغات من وصفي، فلا صفة تبدي ولا داعية تحدي. كان الأمر في إبدائه كما لم يزل في ابتدائه.
قلت: فما أبان منك هذا النطق ولا صفة تبدو ولا دعية تحدو.

كتاب الميثاق
ومن كلام الجنيد رحمه الله في قوله تعالي 'وإذ أخذ ربك'. قال كاتبه: يليق بهذا الكتاب أن يسمي 'كتاب الميثاق'، ولسهل رحمه الله كلام في ذلك سمي بكتاب الميثاق.
الحمد لله الذي جعل ما أنعم علي عباده من إبزاغ نعمته دليلا هاديا لهم إلي معرفته، بما أفادهم به من الأفهام والأوهام التي يفهمون بها رجع الخطاب: أحمده دائما ديموميا، وأشكره شكرا قائما قيوميا: وأشهد أن لا إله إلا الله الفرد الفريد الأحد الوحيد الصمد القدوس، وأشهد أن محمد صلي الله عليه وسلم الكامل بالنبوة والتام للرسالة صلي الله عليه وسلم وعلي آله أجمعين.
ثم إن لله عز وجل صفوة من عباده وخلصاء من خلقه، انتخبهم للولاية واستخلصهم للكرامة وأفردهم به له، جعل أجسامهم دنيوية وأرواحهم نورانية وأوهامهم روحانية وأفهامهم عرشية وعقولهم حجبية، جعل أوطان أرواحهم غيبية في مغيب الغيب. جعل لهم تسرحا في غوامض غيوب الملكوت: ليس لهم مأوي إلا إليه: ولا مستقر إلا عنده: أولئك الذين أوجدهم لديه في كون الأزل عنده ومراكب الأحدية لديه: حين دعاهم فأجابوا سراعا، كرما منه عليهم وتفضلا: أجاب به عنهم حين أوجدهم: فهم الدعوة منه: وعرفهم نفسه حين لم يكونوا إلا مشيئة أقامها بين يديه: نقلهم بإرادته ثم جعلهم كذر أخرجهم بمشيئه خلقا فأودعهم صلب آدم عليه السلام فقال عزٌ وجلٌ 'وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم'. فقد أخبر جل ذكره أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم، إذ كانوا واجدين للحق من غير وجودهم لأنفسهم، فكان الحق بالحق في ذلك موجودا بالمعني الذي لا يعلمه غيره ولا يجده سواه: فقد كان واجد محيطا شاهدا عليهم برأهم في حال فنائهم، الذين كانوا في الأزل للأزل أولئك هم الموجودون الفانون في حال فنائهم الباقون في بقائهم: أحاطت بهم صفات الربانية وآثار الأزلية وأعلام الديمومية: أظهر هذه عليهم لما أراد فناءهم ليديم بقاءهم هناك، وليفسحهم في علم الغيب غيبه: وليريهم غوامض مكنوات علمه ويجمعهم به. ثم فرقهم ثم غيبهم في جمعهم وأحضرهم في تفريقهم، فكان غيبهم سبب حضورهم وحضورهم سبب غيبهم. اختطفهم بالشواهد البادية منه عليهم حين أحضرهم، واستلبهم عنها حين غيبهم: أكمل فناءهم في حال بقائهم وبقاءهم في حال فنائهم. أحاطت الأمور بهم حين أجري عليهم مراده من حيث يشاء بصفته المتعالية التي لا يشارك فيها. فكان ذلك الوجود أتم الوجود، وهو أولي وأعلي وأحق بالقهر والغلبة وصحة الاستيلاء علي ما بدا منه عليهم حتى يمحي أثرهم ويمتحي رسومهم ويذهب وجودهم إذ لا صفة بشرية ولا وجود معلومية ولا أثر مفهومية إنما هي تلبيسات علي الأرواح مالها من الأزلية

في الألوهية
قال أبوالقاسم الجنيد رحمه الله تعالي
اعتزل الحق بهم، وجردت الألوهية لهم، فكان أول وارد الحق بتأدية شواهد إبرازه لهم وإنزاله إياهم في أول الألوهية، أنزل الأزلية علي سرمد الأبد، في ديمومية البقاء إلي ما ليس له غاية ولامنتهي، ثم أتبع مع ذلك بشاهد منيع العز وطول الفخر وظهور القهر وشامخ العلو وقاهر السطوة وشدة الصولة وعظيم الكبرياء وجليل الجبرياء، فاعتزل منفردا بذلك وتكبر وتعالي بالعظمة، فكان الحق بالحق للحق قائما، وكان الحق بالحق للحكم حاكما، وتوحد في تفرد جبروته أحدا فردا صمدا، وهذا أول شاهد إنزاله من أنزل في غلبة هذا الاسم عليه وأحله به لديه، وتابع مع ذلك ما أمكن في إجنان صونه به له من أسمائه الحسني ما وقعت إليه الإشارة ومالم يقع من أسماء الجمع والتفرقة علي ما شاء من الإبداء والإخفاء، فمنها ما بدت في شواهدها، وظهرت في مطالبها، وعلت في مذاهبها، وسرحت في مساكنها، وترددت في مراكبها، ثم تفانت النعوت بجواز الاحتواء علي ما تكيفته الحقيقة فسترته، وكمنت فيه فغيبته، وطوت عليه فكتمته، وتمكنت منه فأتلفته، وغلبت عليه فقهرته، ثم تذهب بواديها علي الانفصال من غير انفصام، وعلا بالإلف من غير جنس النظام، فعالي بظاهره وبظافر أبداه بتمكين أحكامه، فتصاول عند ذلك الصول، وتفاخر الفخر، وتقاهر القهر، فأين الأين عند ذلك وليس يحين أينه، وأين ذهاب الأين علي دوام أزليته، وأين ما لا أين له ولا أين فيه علي تفرد الألوهية، وهو بعض ما لوح الحق به في اسم الجمع
في التوحيد
اعلم أن أول عبادة الله عز وجل معرفته، وأصل معرفة الله توحيده، ونظام توحيده نفي الصفات عنه بالكيف والحيث والأين، فبه استدل عليه، وكان سبب استدلاله به عليه توفيقه، فبتوفيقه وقع التوحيد له، ومن توحيده وقع التصديق به، ومن التصديق به وقع التحقيق عليه، ومن التحقيق جرت المعرفة به، ومن المعرفة به وقعت الاستجابة له فيما دعا اليه ومن الاستجابة له وقع الترقي اليه ومن الترقي اليه وقع الاتصال به، ومن الاتصال به. وقع البيان له، ومن البيان له وقع عليه الحيرة،
مسألة أخري
رجل انتصب له العلم بحقيقته، وانتصبت المطالبة عليه بحدتها، وانتصب للعمل بكليته، فلم يقع الائتلاف بين الصفة والعلم في المطالبة، فاستدرك عند الاختلاف بينهما مع حضوره وجمعه وانتصابه، علم مراد الرجوع الى الحق مع الانتصاب والحضور والجمع، فرجع الى الصغار والذلة والافتقار والقلة بالسؤال، بحملان أثقال ما انتصب عليه من علم الحقيقة، فكان موجودا عندما انتصب له من العلم الثاني، بخروج صفته للعمل فيه، وغير واجد لما انتصب عليه من حقيقة علم الأول، لأثقال ما انتصب عليه من شروط أحكامه، فاستدرك عند اجتماع العلمين بوجود حقيقة الثاني وفقد حقيقة الأول
مسألة أخري
الخوف يقبضني. والرجاء يبسطني. والحقيقة تجمعني، والحق يفرقني، فإذا قبضني بالخوف أفناني عني بوجودي، فصانني عني. واذا بسطني بالرجاء ردني علي بفقدي، فأمرني بحفظي، واذا جمعني بالحقيقة أحضرني فدعاني، واذا فرقني بالحق أشهدني غيري فغطاني عنه، فهو في ذلك كله محركي غير ممسكي، وموحشي غير مؤنسي، بحضوري أذوق طعم وجودي، فليته أفناني عني فمتعني، أو غيبني عني فروحني وللفناء أشهدني، فنائي بقائي، ومن حقيقة فناني أفناني عن بقائي وفنائي فكنت عند حقيقة الفناء بغير بقاء ولا فناء، بفنائي وبقائي لوجود الفناء والبقاء، لوجود غيري بفنائي.
مسألة أخري
اعلم ان دليل الخلق برؤية الصدق وبذل المجهود، لإقامة حدود الأحوال بالتنقل فيها، لتؤديه حال الى حال، حتى يؤديه الى حقيقة العبودة في الظاهر، بترك الاختيار والرضا بفعله، وهذه مواضع، قبول الخلق لدلائل صفات علم الظاهر عليه، واجتماع صفته، ثم تؤديه حقيقته الى مشاهدة الحق وإدراك إشارته اليه، بتلوين الأمور لاختيار اختياره له، وهذه مواضع ذهاب الخلق عنه، لتلوين صفاته فيهم، ومواضع تغيبه عنهم، وهذا مقام الاصطناع، قال الله عز وجل لموسي عليه السلام، 'واصطنعتك لنفسي' فمن أين والي أين، فمنه واليه وله وبه فني، وفني فناؤه، لبقاء بحقيقة فنائه، فإن للحق فيه مرادا، برده عليهم، أخرجه إليهم بتظاهر نعمائه عليه، فتلألأ سناء عطائه برد صفاته عليه لاستجلاب الخلق إليه وإحسانهم عليه.
مسألة أخري
اعلم انك محجوب عنك بك، وأنك لاتصل اليه بك، ولكنك تصل إليه به، لأنه لما ابدي إليك، رؤية الاتصال به، ودعاك الى طلب له فطلبته، فكنت في رؤية الطلب برؤية الطلب والاجتهاد لاستدراك ما تريده بطلبك، كنت محجوبا، حتى يرجع الافتقار اليه في الطلب، فيكون ركنك وعمادك في الطلب بشدة الطلب، وأداء حقوق ما انتخب لك من علم الطلب، والقيام بشروط ما اشترط عليك فيه، ورعاية ما استرعاك فيه لنفسك، حماك عنك، فيوصلك بفنائك الى بقائك لوصولك الى بغيتك، فيبقي ببقائه، وذلك أن توحيد الموحد باق ببقاء الواحد، وان فني الموحد، فحينئذ أنت أنت، اذ كنت بلا أنت، فبقيت من حيث فنيت والفناء ثلاثة
مسألة أخري
اعلم ان الناس ثلاثة: طالب قاصد، ووارد واقف، أو داخل قائم، أما الطالب لله عز وجل فإنه قاصد نحوه، باسترشاد دلائل علم الظاهر، معامل الله عز وجل بجد ظاهره، أو وارد للباب واقف عليه، متبين لمواضع تقريبه إياه، بدلائل تصفية باطنه، وإدرار الفوائد عليه، معامل لله عز وجل في باطنه، أو داخل بهمه، قائم بين يديه، منتف عن رؤية ما سواه، ملاحظا في باطنه، ملاحظا لإشارته اليه، مبادرا فيما يأمره مولاه، فهذه صفة الموحد لله عز وجل.
مسألة أخري
اعلم ان التوحيد في الخلق علي أربعة أوجه، فوجه منها توحيد العوام، ووجه منها توحيد أهل الحقائق بعلم الظاهر، ووجهان منها توحيد الخواص من أهل المعرفة، فإما توحيد العوام فالإقرار بالوحدانية بذهاب رؤية الأرباب والأنداد والأضداد والأشكال والأشباه، والسكون الى معارضات الرغبة والرهبة ممن سواه، فان له حقيقة التحقيق في الأفعال ببقاء الإقرار. وإما توحيد حقائق علم الظاهر فالإقرار بالوحدانية بذهاب رؤية الأرباب والأنداد والأشكال والأشباه، مع إقامة الأمر والانتهاء عن النهي في الظاهر، مستخرجة ذلك منهم من عيون الرغبة والرهبة والأمل والطمع، فإقامة حقيقة التحقيق في الأفعال لقيام حقيقة التصديق بالإقرار، وإما الوجه الأول من توحيد الخاص فالإقرار بالوحدانية بذهاب رؤية هذه الأشياء مع إقامة الأمر في الظاهر والباطن، بإزالة معارضات الرغبة والرهبة ممن سواه، مستخرجة ذلك من عيون الموافقة بقيام شاهد الحق معه مع قيام شاهد الدعوة والاستجابة، والوجه الثاني من توحيد الخاص، فشبح قائم بين يديه ليس بينهما ثالث، تجري عليه تصاريف تدبيره، في مجاري أحكام قدرته، في لجج بحار توحيده، بالفناء عن نفسه وعن دعوة الحق، له
آخر مسألة التوحيد من كلامه رضي الله عنه
سئل الجنيد رحمه الله الى أين تنتهي عبادة أهل المعرفة بالله عز وجل، فقال : الظفر بنفوسهم، نصب الحق لهم أعمال أدلة العمال، فوقفوا مع ماله دون التعريج علي مالهم، فشوق إليهم الأنبياء، وانتسب بهم للأولياء، وسبحت لهم الملائكة، فتركوا ما لهم ووقفوا مع ما الله وعز وجل عليهم، وسائر الناس وقفوا مع ما لهم وتركوا ما لله عز وجل عليهم فرد الله عز وجل كلا الى قيمته.
أدب المفتقر الى الله
وسئل الشيخ أبوالقاسم رحمه الله عن أدب المفتقر إلي الله عز وجل فقال: أن ترضي عن الله عز وجل في جميع الحالات، ولا تسأل أحدا سوي الله تعالي.
وسئل عن خاطر الخير هل هو شيء واحد أو أكثر؟ فقال: قد يقع الخاطر الداعي للطاعة علي ثلاثة أوجه: خاطر شيطاني باعثه وسوسة الشيطان، وخاطر نفساني باعثه الشهوة وطلب الراحة، وخاطر رباني وباعثه التوفيق. وتشتبه هذه الخواطر في الدعاء إلي الطاعة، ولابد من تمييزها لأعمال الصواب منها، لقوله عليه السلام (من فتح له باب من الخير فلينتهزه) ولابد من رد الآخرين.
أما الشيطاني فبقوله تعالي: 'إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون'.
والشهواني الذي هو خاطر النفس بقوله صلي الله عليه وسلم 'حفت النار بالشهوات'، ولكل واحد من هذه الخواطر علامة يتميز بها عن صاحبه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق