يناير 01، 2010

صياد اليمام - محاولة تجريب سينمائي


بلغة شاعرية مرهفة ، تستبطن أعماق النفس البشرية ، يواصل بطل الرواية - صياد اليمام - رحلته باحثا عن اليمام ، عن الدفء / الحنان في يوم شتوي ، فيكتشف - عبر السرد الحلمي الاستيهامي - أن كل ما هو موجود غير موجود ، ويظل يطارد الأمل بأسى شفيف
برع إبراهيم عبد المجيد - في الرواية طبعا - في وصف شتاء الإسكندرية ، هذه المدينة التي ارتبطت في الأذهان كمدينة للسحر .. يصور شتاء صباح قاس في محطة القطار الخالية و التي تحضر بقوة في معظم قصص وروايات عبد المجيد . الريح تعوي ، و الشمس سكنت في جوف السماء وأعطت ظهرها للأرض . هذه المتعة التي نصادفها في القراءة تجاهلتها الكاميرا كنوع من تحويل مسار السرد لصورة سينيمائية تجريبية " برد اليوم مختلف رغم أن الشتاء الطويل يأتي كل عام . إنه يعرف ذلك و لا يستغرب . من سبق أن استغرب لدوران السنين" ، وعربات السكك الحديدية الفارغة تبدو لصياد اليمام " علي " مثل طابوري حزن . الرصيف خال ، و العصافير قليلة و هو لا يصطادها .. " ربما حين غمر النور المدينة تعلق الناس بخيوطه الواهنة وصعدوا جميعا إلى السماء وهو بعد نائم مع زوجته . علمته العربات الصمت . علمه شتاء الإسكندرية الخشوع . كيف يكون الفرح في شتاء دافيء " .
يكتب إبراهيم عبد المجيد عن قاع المدينة ، و معاناة العمال الوافدين : " و في المقاهي الرخيصة السوداء ، حيث تختزل الرجولة في ضربات أكف حامية فوق المناضد ، بعد هزائم و انتصارات في الدومينو و الورق ينسى أبناء الشمال الإسكندرية . يعطونها ظهورهم و يفتحون عيونهم على مدن جديدة . و الإسكندرية الصغيرة الطويلة ، ممتدة كامرأة نائمة ممشوقة لينة القوام ، لها عجيزة مترهلة كثيفة الشعر والقمل . تعطي الإسكندرية أبناء الجنوب جنوبها حيث العفن في الشوارع المتربة الضيقة الموحلة و البيوت المكومة فوق بعضها . يرحل أبناء الشمال بعد أن يمصون لبن الضرع القوي ناصع الحمرة و البياض . تظل عجيزة الإسكندرية مسك الختام لأبناء الجنوب " .
صيد اليمام لم يكن سوى تسلية نصحه بها زميله " طلعت زكريا في الفيلم " - دور برع طلعت في تأديته لم يلعب مثله من قبل - ، ولم يكن يعرف من قبل أن في الدنيا يماما ، و إن سمع الكلمة ترددها أفواه الرجال واصفين بها النساء : " طالما تعيش وحدك مثلي لماذا لا تصطاد اليمام ؟ " . و يمضي رافعا عينيه وبندقيته مستعدا للتصويب في أي لحظة . و لا ييأس رغم أنه لم يصطد يمامة منذ خمسة أعوام . ليس اليمام - وحده - من اختفى ، وإنما زميله ، و قبله أمه ، تلك الجنية الجميلة الوديعة - المثلة دنيا في الفيلم في دور ليس بجديد عليها كنجمة لا يبرع غيرها في تأدية مثل تلك الأدوار - ، و كذلك " قمر " بائعة الشاي " بسمة في الفيلم " ، و هند جامعة حبوب القمح من أرصفة السكة الحديد خمس سنوات يمضي ببندقيته و مخلاته و لا يصطاد شيئا ، و لا يفكر في أن يجرب تغيير المكان
من شخوص الرواية التي لن تنسى له الشرطي " يجسده صلاح عبد الله " ، وربما - لأول مرة في تاريخ الرواية العربية - يقدم لنا كاتب شخصية بغيضة بمثل هذه الحساسية و الشجن فالشرطي يشير إليه أن يجلس ، ويفاجئه بأنه كان يراقبه كل هذه المدة ، و ذلك اليوم فقط يكلمه . الشرطي وحيد معزول ، لا يغادر كشكه ويحتاج إلى من يكلمه . يخبره الشرطي برغبته في أن يستقيل ، لأن مهنته لا معنى لها ، و في منطقة واسعة ومكشوفة كالتي بها ، لا أحد سيسرق قطارا أو يجر عربة سكة حديد إلى المدينة - لماذا أجلس إذن هنا ؟ - . و يتضح له أن المنطقة التي يراقبها تقل عاما عن عام ، بسبب ضعف بصره . لكن صناع الفيلم شوهوا هذه الشخصية بإضفاء بعض توابل السينما عليها ، حتى صارت نمطية .
اليمام ليس سوى حنان الأم الفقيد ، التي اختفت بعد أن تزوجها العم قسرًا . فيبحث عنها صياد اليمام في كل شيء ، و يعجز عن أن يحب زوجته التي لا يعرف حتى اسمها ، بينما في المعالجة السينمائية يتم تلفيق قصة حب بين صياد اليمام " أشرف عبد الباقي " و سماح " علا غانم " على غرار أفلام المقاولات التي تسند بطولتها إلى مراهقين ، يتمتعون في أغلب الأحيان بـ " خفة الدم " أو بمعنى آخر التفاهة ، فنراه يحاول سرقة إعجابها بأن يتشاجر مع نادل المقهى المقابل لبيتها ، ثم يتنكر في هيئة الجابي عند رؤيتها بالترام .
حين تظهر يمامة يفشل في إصابتها ، ( للأسف هذه اليمامة لم تظهر في الفيلم ) ، رغم أنه - في الرواية طبعا - أفلح في إصابة الثعبان الذي يتربص بالعصافير بمهارة ، وكأن إبراهيم عبد المجيد بهذا الحدث ( الانتقام للعصافير ) يواسي البطل والقرّاء ، بل و يفلسف الحدث و كذلك صيد اليمام متحدثا عن الظلم والعدالة لكن في الفيلم لا نجد أثرا لشجرة التوت ولا للثعابين، وصديقها العجوز وكشكه ، بل إننا سنحتار في أمر شخصية هذا العجوز ، هل هي شخصية البهلوان " علاء زينهم " الذي قابله سيد الأب المقهور ، بغض النظر عن تمطيط الزمن الفيلمي ، فنراه - سيد - بهلوانا فاشلا مقهور ، مع أن الرواية تتحدث عن عجوز حاوِ ، وشتان بين الحاوي والبهلوان . سيلفت انتباهنا أن كاتب السيناريو يفصل الأحداث و الشخصيات حسب هواه ، فشخصية العجوز طلبة شطرها إلى شخصيتين مختلفتين ، متناقضتين وفاترتين معًا . أدى إحداهما لطفي لبيب ، وهو يصطاد السمك - وهو الحاوي في الرواية - ، و الثانية هي الشخصية التي شخصها علاء زينهم ، لكن الأغرب والمدهش هو اختراع شخصية المصور جورج " رؤوف مصطفى كرواي تشخيصي " ، وهي غير موجودة بالنص الروائي ، ونراه بنفس السن في أول الفيلم وآخره " دلالة ما تقصدها المعالجة " لكنها تشخيصة جيدة لمقابلة الراوي الحكاء " أحمد راتب الذي يقوم بدور الحكي بحميمية جميلة " .
حين ذهب سيد للحانة ، فهو سأل عن والد هند الذي اختفى ، حتى يعيد إليها الإحساس بالأمان والأبوة ، و ليس بحثا عن صديقه الشقاوي " طلعت زكريا " .. هذا التزوير يبدو غير مستساغ أبدا ، رغم أننا قد نتفق مع كاتب السيناريو في إغفال بعض التفاصيل ، مثل حكايا أصدقاء الحانة و اختفاء صديقهم الغامض ، لأنها تبدو خارج السياق الدرامي للفيلم .
أما موت الطفل فيقدمه الروائي بشكل ملتبس وآسر ، و ليس كما اختصره الفيلم ، حيث يلقى حتفه في حضور والديه .. يدهمه قطار ، بعد أن جاء بصحبة أمه ، و هي ترجو الأب / صياد اليمام أن يعود معها إلى البيت . إبراهيم عبد المجيد تلاعب بمشاعر القراء من خلال اختفاء ابنه ، و قدمه بشكل غامض ، جعلنا نعتقد أنها مجرد كوابيس ، و يبلغ المشهد ذروته - في الرواية طبعا - حين تسأله الزوجة : من يدفن الولد ؟ ويتركها تندب ، و يخرج للصيد ، كعادته كل صباح . لكن الفيلم أغفل هذا المشهد الخارق ، الذي كان سيتيح للممثليْن طاقة تعبيرية هائلة ، مثلما تم إغفال المشهد ما قبل الأخير في الرواية ، حيث تنقشع الظلمة وتنجلي الحقائق ، و قبلها يتحدث الكاتب عن معرفة صياد اليمام - مثل اللص تماما - لطول العربة المظلمة من خلال الإصغاء إلى صدى خطواته فقط ، و هذا مشهد صعب ترجمته للمشاهد بالكاميرا ، و في عربة القطار المظلمة المهجورة ، يحس أن لا ملاذ أمامه سوى زوجته ، التي تحملت قسوته وجفاءه .
في حوار مع أشرف عبد الباقي أعلن تبرؤه من الفيلم ، وبأنه لن ينسبه إلى رصيده الفني ، ويرى بأن المسؤول الأول والأخير عن فشل الفيلم هو المخرج إسماعيل مراد ، لكن لي رأي مخالف ، فكاتب السيناريو علاء عزام يتحمل كل الفشل .. بدل تقديم مشاهد بصرية تترجم ثراء هذا النص الدرامي الباذخ ، و لن نغالي إن اعتبرناه من الروايات العالمية ، فقد كتب بطريقة باهرة . لكن الكاتب والمخرج لجآ إلى التقريرية والمباشرة ، و ربما هذا الشيء الوحيد الذي نقلوه من الرواية بأمانة ، كقول بائعة الشاي قمر لصياد اليمام إنه " لا يرى إلا ما يريد . اليمام " ، بعد أن انتبهت - وبعد خمسة عشر عاما - إلى نظرته ، وتصارحه بحبها . و هي في الرواية لا تأخذ مساحة كبيرة ، بينما في الفيلم صرنا أمام فلاش باك مطوّل يروى على لسان أحمد راتب " ماذا أضاف وجود الراوي / أحمد راتب ، وهو يحلل بسذاجة ما لا يحتاج إلى تحليل أو حتى إلى سرد ، مرددا ما تقوله أو مقررا ما تفعله الشخصيات " ، و يبوح علي لقمر/ للمشاهدين بأوجاعه وبأوجاع والديه من قبل ، و هو الصموت الذي لا يبوح بأوجاعه لأحد . " كان يبذل جهدا كبيرا في أن يمضي أيامه في صمت . يطرد كل هاجس ألم . كان يعرف أنه لو تكلم . سيحكي و يشكو و الوجوه حوله متعبة " ، كما جاء في الرواية .
لقد جعل إبراهيم عبد المجيد صيد اليمام معادلا موضوعيا وجماليا للبحث عن الدفء والحب والحياة الكريمة ، لكن الفيلم عوّض صيد اليمام بصيد النساء ، و رأينا أشرف عبد الباقي " دون جوان " يتنقل من حضن الأم " دنيا " إلى سماح " علا غانم " إلى هند " حنان كرم مطاوع " ، التي جسدت أجمل دور نسائي بالفيلم ، بأداء شاعري يناسب براءة ملامحها ، ثم قمر" بسمة " ، التي لم يحبها حبا جسديا ، وإن اشتهى في الرواية أن ينام على صدرها . لكن أسوأ ما في الفيلم تلك العلاقة غير المشروعة التي تجمع بين الشرطي " صلاح عبدالله " و والدة هند " سلوى عثمان " ، في دور جريء يختلف عن أدوراها السابقة ، لكنه نمطي سينمائيا ، فهما يبحثان عن الخلاص من خلال علاقة جسدية بلا حب .. للهروب من الواقع المرير ، مما قد يكرس لدى المشاهدين فكرة مشوّهة .. بأن هذه الطبقات المسحوقة لا يشغلها إلا الجنس والخيانة ، و هو تسطيح للمعالجة الدرامية ، بدل ملامسة جراح الأعماق و تحليل الحدث .. على طريقة المخرج - الفلتة خالد يوسف ، والذي و للأسف - لا أتحمل أن أشاهد أي فيلم له أكثر من خمس دقائق ، و أحيانا أكتفي بقراءة ما يكتب عنه فقط ، و كفى الله المؤمنين شر القتال ، بينما عاشق الإسكندرية إبراهيم عبد المجيد يتابع شخصياته وهي تبحث / تطارد الأمل الأبتر في زمن الحزن الشفيف السرمدي ، ذلك الحزن المقيم في القلوب الكسيرة .
أبرز ما في صياد اليمام الفيلم هو دور علي " أشرف عبد الباقي " الصياد الذي برع في آداء تشخيصات لم أعتد عليها في أدوار عبد الباقي السابقة غير دوره في فيلم رشة جريئة بجانب ظهور " دنيا " في دور يدلل على براعتها كنجمة في أدوار بمثل هذا التركيب ، يبرز لطفي لبيب كعادته في آداء أدوار البروق ، الأبرز على الإطلاق هو اسم ابراهيم عبد المجيد بروايته المفعمة بالإبداع الذي شوهه السيناريست علاء عزام .
أيضا لعبت المزيكا و الكاميرا دوران مهمان جدا في المعالجة السينمائية ، صوت نهال نبيل يحمل الكثير من الدلالات و الإيحاءات المطلوبة داخل العمل التجربة لتصل مدى روعة الغناء التعبيري في " فص زمرد " لتتفوق نهال نبيل على محمد محي الذي ظهر باهتا في أداء الغناء التعبيري ، ربما كان صوت نهال أكثر قدرة على نقل الحس ، أيضا لعبت الكاميرا دورا هاما في كثير من المشاهد ، أهمها على الإطلاق مشهد " ماستر سين الفيلم " حيث يتبادل أشرف عبد الباقي و رؤوف مصطفى عدم المقدرة على الضحك لما تحمله الدلالة من إحاء نفسي و فلسفي . تتر الفيلم في البداية كان رائع تحمله أغنية يا طير يا طاير لتجهّز المشاهد للدخول في تجربة جيدة .
مشكلة التجربة السينمائية " صياد اليمام " تكمن في عاملين خلاف السيناريو هما المونتاج الذي لم يكن على قدر الكاميرا و رشاقتها فكان أولى بالمونتاج ترتيب المشاهد و إقامة توازن في ظهور الشخصيات التي تبرق كصياد السمك و جورج المصوراتي ، المشكلة الأخرى في المخرج إسماعيل مراد الذي لم يحاول و يجرب تقنيات سينيمائية على قدر التجربة الروائية لإبراهيم عبد المجيد ليقع مراد في خطأ الاستسهال و اللعب على ما هو متاح رغم انه يمتلك كاست تمثيل رائع يجيد التلوين في ادواره و تطبيق تقنيات سينيمائية متعددة ، حتى تقنية الفلاش باك لم تكن جيدة حتى أنها لم تخدم العمل الدرامي بالصورة المطلوبة ، كان على إسماعيل مراد التجريب أكثر من ذلك .
هذا الفيلم سيطرح مرة أخرى ، و بشكل جاد للنقاش العلاقة بين السينما والأدب ، فالرواية تجريبية و ليست كباقي روايات إحسان عبد القدوس أو يوسف السباعي ، ولن نصادر رأي أحد إن كتبنا بأنها لا تنفع للاقتباس ، و لا ينفع استسهال صنّاع السينما التعامل مع شبيهاتها .. كثيرون انتقدوا الفيلم ، لأنهم اعتبروه غامضا مثل أفلام يوسف شاهين ، و البعض تصيدوا أخطاءه التقنية والإخراجية ، و لا أظنهم اطلعوا على الرواية ، في حين أعتبر نفسي الأسوأ حظا ، لأنني قرأت الرواية وشاهدت الفيلم ، لذا حاولت التركيز على أحداثهما وشخوصهما قدر الإمكان .
على كل حال فالتجربة عموما محاولة جيدة لصناعة عمل مختلف عن الوجبات السينيمائية المملة في الفترة الأخيرة و محاولة جيدة من أشرف عبد الباقي لاكتشاف ذاته التمثيلية من جديد و محاولة من ممثلين اللعب و التنويع في آداء أدوار جديدة مختلفة قدمها لهم المبدع إبراهيم عبد المجيد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق