ديسمبر 24، 2009

الإبداع بوصفه مغايرة

رؤية أولـى
" أنا طائر من الريف
الكلمة عندي إوزة بيضاء
و الأغنية بستان من الفستق الأخضر "
" محمد الماغوط "
( 1 )
أكثر من علامة دالة تحملها المقارنة بين أربع أجيال من الحداثة العربية في الشعر و الرواية ، في الشعر كانت الحركة الجديدة لقصيدة التفعيلة قد فرضت نفسها بأكثر من دلالة على المشهد الإبداعي العربي على نحو ما تبنّت مجلة " الآداب " التي أنشاها سهيل إدريس عام 1953 للجيل الذي وُلد ما بين 1917 و 1935 " يوسف الخال ، فدوى طوقان ، نازك الملائكة ، نزار قباني ، كمال نشأت ، أحمد عبد المعطي حجازي ، محمد عفيفي مطر ، صلاح عبد الصبور ، عبد الوهاب البياتي ، بدر شاكر السياب و بلند الحيدري " .
ساهم جيل الحداثة الأول في تحرير القصيدة التقليدية من عموديتها لتعبّر عن التجربة الحياتية بما يعيها الشاعر بجميع كيانه و استخدام الصورة الحية و التداعيات النفسية و تطوير الإيقاع الشعري العربي و فهم جديد لوعي التراث الروحي و العقلي العربي في موازاة التجارب الإبداعية التي حققها أدباء العالم .
لم يكن من قبيل المصادفة نجاح تجربة قصيدة التفعيلة لثورتها على قيد تجربة استمرت أكثر من ألفي سنة و أعني عمود الشعر العربي بما يحمله من جمود و عدم تطوّره إلا في بعض المحاولات القليلة و التي أودت بأصحابها طي النسيان من أمثال الحلاج و النفري مرورا بابن زيدون و مؤخرا بتجربة البارودي ، فنجاح قصيدة التفعيلة بتحريرها من سياق عروض الخليل و توسيع إطار الإيقاع إلى تفعيلات و الخروج عن القافية كان بمثابة إنجاز يماثل إنهاء الاستعمار الأوروبي للوطن العربي واندلاع حركات التحرر الوطني ، و انتشار تلك الثورة التي قادها في مصر صلاح عبد الصبور و نازك الملائكة في العراق و نزار قباني في لبنان و كان قد سبقهم يوسف الخال و فدوى طوقان على استحياء .
منذ 1946 تأججت ثورة المغايرة الشعرية بظهور دواوين شعراء و شاعرات قصيدة التفعيلة ، فدوى طوقان " وحيدة مع الأيام 1955 " و نازك الملائكة " عاشقة الليل 1947 ، شظايا و رماد 1946 ، قرارة الموجة 1957 " و بلند الحيدري " خفقة الطين 1946 ، أغاني المدينة الميتة 1951 " و بدر شاكر السياب " أزهار ذابلة 1947 ، أساطير 1950 ، حفار القبور 1952 ، المومس العمياء 1951 ، الأسلحة و الأطفال 1954 " و صلاح عبد الصبور " الناس في بلادي 1957 " .
إذ نجد أن هناك ملمح عام لتلك الثورة و هو خصوبة الإنتاج الإبداعي و التأكيد على انزياح أكيد لم يبدأ من فراغ و لكنه من رغبة متوثبة في التجديد و التحرر و ذلك على نحو أتاح لقصيدة التفعيلة الانطلاق إلى مدى أبعد حيث نرى إلحاح نزار قباني – الذي سبق بفترة طويلة نسبيا هذا الجيل و لكنه يحسب عليه بشكل كبير – على كسر إطار العمود الشعري و لكنه احتفظ بالتقنية و استبدل الثورة عليها بثورة أخرى كان يراها نزار أكثر أهمية و هي الثورة على الموروث المتحجر و كسر تابوهات الدين و الجنس و السياسة بشكل كبير . لكن ما يتوجب علينا قوله أن نزار تخلّف عن مسايرة ثورة المغايرة و ثبت عند قيوده الشكلية الشخصية و التي وضعها كإطار كتابي له مع اعترافنا بريادة نزار و حسه الشعري الخاص .
لكن ثورة المغايرة " قصيدة التفعيلة " كان لها رأي مختلف عن إطار نزار قباني ، فمع كسر التابوهات الثلاث و هدم عمود الشعر و احتفاظ البعض بنوع مغاير من التقفية و انطلاق آخرين في ابتكار أساليب مثل التدوير و القافية الديناميكية المتباعدة ، و استطاع كل من أبناء هذا الجيل رسم معالمه الخاصة في بناء القصيدة و حفر وشم يميزه عن ثوّار جيله .
بجانب نزار الذي اكتفى بكسر التابوهات و وضع إطاره الشكلي الخاص نجد نازك الملائكة ببراعتها في نحت اللغة و ابتكار صور جزئية من حضن طبيعة أرض العراق و نجد السياب بغنائيته المعروفة و صلاح عبد الصبور بصوره الصادمة و فلسفته الصوفية و استلهام التراث و نرى تصوير حجازي الواقعي للقرية و المدينة على السواء و عفيفي مطر بجزالة لغته ، و مع كل ذلك كان ينقص قصيدة التفعيلة روح إضافية فكل ثورة تخمد أو تأطر ضمن قوالب تتحول إلى لا ثورة و تعتبر إرث يحسب لأصحابه و مرحلة من مراحل الجمود ، فالجمود مراحل متتالية و كذلك الثورة فهي مراحل ، أي أن ثورة الشعر مع جيل الحداثة الأول توقف عند حد معين و أصبح في الأفق بوادر ثورة جديدة مع ظهور تجديد جبران خليل جبران و جبرا إبراهيم جبرا و أدونيس و خليل حاوي و لاحقا محمد الماغوط .
( 2 )
إذ تتبلور عند جبران كتابة جديدة مع مطلع القرن العشرين تذهب بعمود الشعر إلى نوع من التحرر من قيد القافية و عروض الخليل و يُطلق عليه الشعر الحر الذي ارتاده جبرا إبراهيم جبرا بعد ذلك ثم انتقل مع النصف الثاني من القرن العشرين - بعد ثورة قصيدة التفعيلة – هذا النوع من الشعر الحر أو كما سُمي أيضا بالشعر المنثور حيث ارتاده البعض أيضا لكن مع محاولة تغيير الإطار أيضا من أمثال أدونيس و خليل حاوي و يوسف الخال و ميشال طراد و ظهور محاولات رمسيس يونان في القاهرة " المجلة الجديدة " و استجابة سعدي يوسف في العراق .
دلّت إرهاصات مطران في " مرثيته إلى إبراهيم اليازجي " و أمين الريحاني و جبران و مي زيادة و الحركة السريالية المصرية و العراقية و السورية و التمرد الرومانسي لحسين عفيف و من قبل ثورة قصيدة التفعيلة على ظهور تمرّد جديد يلوح في الأفق ابتدأ بالشعر المنثور كان يوحي بأن تجربة الحداثة العربية ستذهب في اتجاه جديد و ثورة جديدة على قصيدة التفعيلة نفسها و التي كانت بدورها ثورة ضد عمود الشعر و لكنها اتفقت معه في تفعيلات الخليل ابن أحمد .
كانت موجة السريالية العربية هي محرّك أول بعد المحاولات العديدة للكلاسيكيين لتطوير جمودهم لتوجيه الشعر العربي نحو التحرر و الانطلاق في أبعاد جديدة و أصبح الأمر جليا بظهور مجموعة ألبير أديب " لمن " سنة 1952 في القاهرة و من بعدها مجموعة توفيق الصايغ " ثلاثون قصيدة " سنة 1954 و أدونيس " أوراق في الريح " سنة 1955 و سعدي يوسف " أغنيات ليست للآخرين " سنة 1955 ، و بدا على ساحة الشعر العربي ذلك النوع " قصيدة النثر " لكن بدون هذه التسمية و تطوّر بشكل أكبر مع حركة مجلّة شعر و التي كان يوسف الخال الأب الروحي لها .
يجدر بنا القول أن المحاولات التي سبقت ظهور قصيدة النثر كانت تحت تأثير فرنسي كان قد حسم الجدل الدائر حول الاعتراف بالنوع الجديد " قصيدة النثر " منذ أكثر من 150 عام قبل ظهورها عربيا ، و كان تأثير " سام باريس " و " أزهار الشر " لبودلير هما البداية الحقيقية العاصفة التي حفرت مجرى جديد لقصيدة النثر داخل الأجناس الأدبية .
( 3 )
يغرق بودلير في قراءة الموال القصصي " البالاد " الذي استوحاه وردزورث و كوليريدج في ثورتهما على الجمود الكلاسيكي من التراث العربي و يتأثر به بجانب شكسبير و توماس دي كونيسي و ادجار آلان بو الذي ترجم أعماله إلى الفرنسية حتى أن بودلير اشتهر كمترجم قبل إصدار ديوانه أزهار الشر .
و إن كانت قصيدة النثر العربية تدين بالفضل لبودلير فإن بودلير نفسه يدين لـ " آلان بو " بتأثّره الواضح به ، فقد شرع بودلير في كتابة قصائد نثرية تصوّر باريس 1861 كما أبدع من قبل " آلان بو " في وصف باريس 1821 . و أنتج بودلير قصائده الباريسية مستوحي فيها روح المدينة الكبيرة ذلك المعين الذي لا ينضب من النماذج و الأحلام ، و أضافها إلى ديوانه أزهار الشر تحت عنوان " لوحات باريسية " بدلا من القصائد الست التي قضت المحكمة بحذفها من الطبعة الأولى ، و بعدها ظلّ حلم قصيدة النثر يراوده بشدة حتى كتب مجموعة قصائد أخرى لكنه لم يتمكن من نشرها في حياته ووجد أصدقاؤه المخطوط كاملا بعد وفاته فلم يغيّروا فيه شيئا و طبع تحت عنوان رئيسي " سأم باريس " و عنوان فرعي " قصائد نثرية " .
و بعد تبلور مفهوم " قصيدة النثر " بشكلها البودليري الحالي في ديوان " سأم باريس " بشكل كبير بعدما تخلّى بودلير عن شكل " البالاد " الشعري إلى التصوير المطلق و " الشعر الخارق " على حد تعبير بودلير نفسه ، لقد تكوّنت قصائد سأم باريس عند بودلير بوصفها أشباها لأزهار الشر حيث جاءت قلقه بشأن تطوير الإيقاع ليعطي للسرد نغمته دون الوقوع في فخ النثر الشعري و ليطوّر فكرة التصوير الزخرفي أو التصوير الجزئي إلى نوع من التصوير الكلي أو الخيال المطلق ، جاء قلق بودلير بشأن قياس الجمال أيضا رغبة في صنع مغايرة تامة .
إن " سأم باريس " – على كل حال – يتميّز بعلامة الازدواج حيث يعتبر الديوان غرفة مزدوجة بين المثال و الواقع و هذا الواقع هو في الحقيقة " فوق واقعي " سريالي واقع شبحي و لعلّ في إنتاج بودلير ما هو أكثر من " سام باريس " دليلا على عدم الخضوع للمسلّمة المزدوجة " الله – الشيطان " / " الخير – الشر " فالديوان بأكمله كان واقع تحت تأثير ذلك القلق البودليري حول ازدواجية الأطراف البعيدة حيث نجد " المرأة الجحيم " هي ذاتها " المرأة الفردوس " .
يكفي القول بأن فكرة بودلير حول الشعر – تلك التي غيّرت مجرى الأنواع في العالم اجمع – قد وصلت ذروتها بفكرة الزجاج الذي يعُدُّ فاصلا و في الوقت نفسه اتصال سحري بين الجوانب بما يعني فكرة الفاصل الزمني .
على أن " سام باريس " الذي لم يتحمّس له " جوستاف لانسون " قد أثّر مع أزهار الشر في الأجيال التالية لبودلير تأثيرا عارما و كان شرارة لانطلاق مدرسة الرمزية فيما بعد حيث أطلق " رامبو " الذي هاجم كل من سبقه على بودلير بالرائي الأول و ملك الشعراء ، كما انطلقت أجيال عديدة فيما بعد في العالم أجمع من " قصيدة النثر البودليرية " و هو ما حدث مع حركة مجلّة شعر التي أسست لقصيدة نثر بودليرية تُكتب بالعربية .
( 4 )
صدرت مجلة شعر " 1957 " متبنية أمرين أولهما : قصيدة النثر و التي لم يكن اسمها الاصطلاحي قد تحدد أو استقرّ بعد في الاستخدام الأدبي العربي و حتى لمجلة شعر نفسها ، و ثانيهما : قصيدة العامية و التي تبناها يوسف الخال الأب الروحي لحركة مجلة شعر ، تعبيرا عن التجربة الحياتية اليومية على حقيقتها و امتزاجا بروح الشعب لا الطبيعة ، فالشعب مورد حياة لا ينضب أما الطبيعة فحالة آنية زائلة على حد تعبير " الخال " .
منذ اللحظة الأولى لجلسات الخميس لحركة شعر و صدور العدد الأوّل محملا بقصائد نثرية بودليرية الطابع و الجدل مستمر حول ماهية النوع . لكن ظلّت مجلة شعر تخصّ موضوع الصدارة بقصيدة تفعيلة إلى أن عثرت على ما يكسر تلك القاعدة حيث كانت قصيدتا الماغوط " حزن في ضوء القمر " و " الخطوات الذهبية " حدثا استثنائيا من حيث الكثافة و الجسارة التخيلية فانطلقت القصيدتان كالوعد داخل الدوائر المهتمة بقصيدة النثر و تحوّل الشاعر السوري المغمور " محمد الماغوط " إلى شاعر ظاهرة يثير حوله آراء متعارضة خصوصا مع نشر قصيدة " القتل " في صدر العدد السادس " 1958 " و أصبح الماغوط رائد هذه الغواية التي انطلقت معلنة رسميا مصطلح قصيدة النثر ، ثم تصدر المجلة الديوان الأول للماغوط بعنوان " حزن في ضوء القمر " سنة 1959 ، الذي أصر بعض روّاد قصيدة التفعيلة على تسميته " نثرا جميلا " .
وبقدر ما كانت كتابة الماغوط في " حزن في ضوء القمر " قوة دافعة لقصيدة النثر على نحو استثنائي و نموذجا يحتذى في غواية شعرية جديدة بقدر م كانت وعدا بتدفق إبداعي ظهر في ديوانه اللاحق " غرفة بملايين الجدران " 1964 و " الفرح ليس مهنتي " 1970 ، تدفق شعري لروح شاعرة أحدثت دويّ بديوانها الأول لا يقارن بمجموعات سبقتها في غواية قصيدة النثر أو نشرت في نفس العام 1959 حيث كانت مليئة بالتوتر و التوقّد مما أغرى كثيرين بالاندفاع في مضمار قصيدة النثر المغوي ، فكانت المجموعة الأولى لأنسي الحاج " لن " 1960 التي صدّرها بمقدمة تنظيرية لهذا المشروع الجديد ، تلاها محاولة تأصيلية لأدونيس بعنوان " في قصيدة النثر " 1960 ، و يبدو أن أدونيس و الحاج قد استفادا جيدا من كتاب سوزان برنار " قصيدة النثر من بودلير إلى اليوم " .
بظهور نموذج قصيدة النثر في الأدب العربي أصبح هناك تيار جديد للحداثة العربية في الشعر ، فعلى الرغم من محاولة تأصيل ذلك النوع و ربطه بالجذر الثقافي العربي إلا أن أصحاب تلك النظرة انقلبوا عليها ممعنين في نسب قصيدة النثر للغرب و خصوصا فرنسا و أصبح النموذج البودليري هو المسيطر على كل الكتابات في مضمار قصيدة النثر فيما عدا تجارب القليلين كتجربة الماغوط ، ليدور جدل كبير ليس لإثبات مشروعية قصيدة النثر و محاولة حفر النوع داخل الأدب العربي و لكن ظلّ الجدل الكبير بين أصحاب النظريتين ، من ينخرطون في كتابة قصيدة النثر البودليرية و التنظير لها بريادة أدونيس و من يحاولون صبغ قصيدة النثر بروح عربية خالصة بريادة محمد الماغوط الذي تبنّى ذلك المشروع كتابة و أثرى تلك الفكرة يوسف الخال بمحاولته تأصيل النوع " قصيدة النثر " داخل الإطار العربي ، و الحقيقة أن ذلك الجدل كان مفيدا لتطوّر نموذج قصيدة النثر فيما بعد بربط النموذجين البودليري و العربي لإنتاج قصيدة نثر تحمل الطابعين و تثقل التجربة بإثرائها ببكارة البدايات عند بودلير و صبغ تلك البكارة بالروح العربية . فعلينا الاعتراف بان ذلك النوع ــ رافضين أو مناصرين ــ صنيعة فرنسية بودليرية في المقام الأول .
كانت العلامة الأولى لهذه الشعرية توقّد خيالها المتمرد الذي اكتسح المواصفات و المسكوكات المألوفة و الموروثة كي يعيد تشكيل مدركات الواقع المتنافرة في علاقات جديدة فألحت قصيدة النثر على استخدام الصورة الشعرية بما جعل منها كتابة بالصورة و أطلقت سراح الفاعلية الاستعارية بما أحالها إلى لغة مجازية موغلة في الجسارة تمزج بين المدركات و المعطيات لتعطي تركيبات مفاجئه . فقصيدة النثر استبدلت المحسوس بالمعنوي و الملموس بالمجرد مضفورة بإيقاع مراوغ لا يتبع أوزان الخليل المعتادة المتراتبة لكنه مشحون بترجيعاته الداخلية التي تمايزه عن المقطوعة النثرية فأصبحت تجربة مفاجئة ، مباغتة ، صادمة ، تستمد قيمتها من قدرتها على تحطيم أسوار المدركات الثابتة ووخم العادة لنضع كل التصورات عن الواقع و عن الشعر و الشاعر و الروح موضع المسائلة حتى نصل إلى التدمير المتعمد للتوقع الرومانتيكي و الكلاشيهات الثابتة التي عابت الشعر العربي طيلة قرون عديدة .
هذا التدمير الذي قامت عليه قصيدة النثر كان ينقصه عند الكثير الوقوف ضد تلك القطيعة التي دعى إليها أدونيس مع التراث العربي و التي في محاولة فهم أخرى تأويلية لتلك القطيعة نجد أن تلك القطيعة ليست قطيعة فعلية و لكن قطيعة بمعنى إعادة النظر في ذلك الموروث و تنقيته و إعادة صياغته و هذا ما دعى أدونيس نفسه فيما بعد لمحاولة إقامة جسر مع ذلك التراث في كتابته و في محاولاته التنظيرية كما نرى في كتابة " الثابت و المتحول " . حداثة أدونيس كانت تعد بمغايرة حقيقية و تدمير مطلق للتراث العربي ، تدمير بهدف إعادة بناء جسر مع التراث الحقيقي .. تراث من نوعية شعراء كالمتنبي و أبو نواس و الحلاج و النفري .. تراث كان يبحث عن جديده التعبيري في موازاة حياته و مستقبله ، حيث كان أدونيس يميّز بين المغايرة الشكلية و الجوهرية ، فالمغايرة الشكلية مقصودة لذاتها و لا تعني شيئا مضافا إذ لا تتجاوز الفعل الذي يقوم على إنتاج النقيض بمعنى أن الإبداع يناقض ما سلفه لمجرد المغايرة ، أما المغاير الجوهرية فهي مغايرة من حيث التجربة و أشكال التعبير فالكتابة الإبداعية الحداثية هي التي تمارس تهديم شامل لنظام الأفكار السائد و علاقاته ، أما عن المعاصرة كونها تحديد شكلي لاقتران الحداثة بالزمن فهو تعريف قاصر على الشاعر و ليس على بنية النص ، فالحداثة خصيصة تكمن في بنية النص بما يشير مثلا إلى حداثة الحلاج و النفري ، فعنصري المغايرة و المعاصرة لا يكتملان بدون التجريب لتوليد بنية حداثية عميقة ، و هنا تكمن محاولات التجريب المستمرة في قصيدة النثر باعتبارها بنية حداثية تجريبية جديدة و محاولة الوصول لإطار نظري تنبثق منه فكرة الحداثة يمكن القول أن الحداثة هي اللحظة التي تتمرد فيها الأنا الفاعلة للوعي على طرائقها المعتادة في الإدراك سواء أكان إدراك نفسها من حيث هي حضور متعين فاعل في الوجود أو إدراك علاقتها بموقعها من حيث هي حضور مستقل في الوجود .
يبقى أن نذكر أخيرا أن الرغبة في المغايرة كانت الدافع الحقيقي لنقل تجربة بودلير الثورية و استغلّت حركة مجلة شعر ذلك جيدا لتنتج إبداع عربي مغاير لكنه يحتاج لإعادة صياغة شاملة لمشروع قصيدة النثر العربية .

هناك تعليق واحد:

  1. نحتاج لتلك الصياغة الجديدة يا أحمد


    كليوباترا :)

    ردحذف