يوليو 16، 2009

الفكر السريانيّ وأثره في الفكر العربيّ الإسلاميّ

اللوحة : دافنشي

بقلم: الأب سهيل قاشا

مقدّمة
لا شكّ أنّ اللغة العربيّة والسريانيّة شقيقتان من أرومة واحدة تتحدّان معنى ونحواً وإن اختلفتا في بعض الأحيان.
من هذا المنطلق نستطيع أن ننطلق ونقول أنّ الفكر العربيّ والفكر السريانيّ اتّحدا وتفاعلا سويّة وقدّما للإنسانيّة تراثاً موحّداً حملت رايته الدولة العباسيّة وقدّمته للعالم أجمع على أنّه حصيلة انصهار التراثين في بوتقة الفكر.
أخذت حضارتنا العربيّة في تاريخها المديد وجوهاً عدّة برزت من خلالها على العالم. وقد رمقها كلّ ناظر من وجهةٍ خاصّة، وشغف بمظهر واحد، وتخيّلها كما بانت لعينيه وغاب عن باله أنّ هذا الوجه لا يقدم إلاّ عنصراً فرداً من عناصر الحضارة العربيّة المختلفة، وأنّ الإلمام بالعناصر الأخرى يقتضي أن يزيح ولو برهة عن وجهة نظره هذه، كرائد المتحف يتطلّع إلى جوهرة كريمة داخل خزانة زجاجيّة يدور حولها ليكلّم عينيّة بكلّ قسماتها، فلا تفوته فيها نظرة. أمّا إذا بقي مكانه لن يرى إلاّ جزءاً منها يسيراً، رغم كونه وجهاً صحيحاً لها. فهلمّ بنا نتنقّل من الأمكنة التي اعتدنا الوقوف فيها إلى أمكنة أخرى، فعسى أنّ الدوران حول جوهرة حضارتنا العربيّة يسمح لنا بالتطلّع إليها من كلّ جهاتها لندرك مدى أبعادها ونعي سعة غناها.
الحضارة مواد بناء. هي أولاّ معطيات حضاريّة ترثها الشعوب عمّا سلفها فتبني بها صرحها الحضاريّ، فتاريخ كلّ حضارة يشمل إجمالاً نشأة الحضارة ثمّ اكتمالها فانحطاطها. هذا الشعب الناهض يأخذ، في المرحلة الأولى التركة الحضاريّة لشعبٍ تقدّمه ثمّ يطبعها بطابعه الخاصّ وينمّيها بما يبتكر وفقاً لنفسيّته الخاصّة. وبعد أن يكمّلها يعيش فيها يحييها؛ وكما الناس هكذا الحضارات: تدخل طور الشيخوخة، فالانحلال، حتى يتاح لها من ينفخ فيها روحاً جديدة فيها من الجديد ما ينسجم مع تجددات الإنسان الحيّ المتطوّر. وفيها من القديم ما يحسم روح تلك الحضارة التي أبدعتها نفسيّة الشعب الأصيلة.
هذه هي المراحل الأساسيّة التي تمرّ بها الحضارة. ففي نشأتها تأخذ عمّا سبقها وترتبط به. ولا ضير على حضارة إذا ارتبطت بالتراث العام، فالإنسان يستفيد ممّا أنتجته العصور الغابرة.
تعالوا نستقص ما أخذ العرب من السريان، ونرى كيف تمّت عمليّة الصهر والابتكار؛ ولكي تبقى هذه الصورة قريبة من الواقع نتطلّع إلى الثقافة العربيّة السريانيّة كما تبدو لأعيننا في القرن الرابع الهجريّ أي العاشر الميلاديّ أوج ما بلغته الحضارة العربيّة في الأفق العالميّ.
للشعب العربيّ ميزة استيعابٍ نادرة ومحبّة استطلاع فريدة. فهو لم يترك فنّاً إلاّ زاوله ولم يلتق بأدب إلاّ وتطرّق إليه. فقد أخذ عن الشعوب السالفة أرفع ما أبدعت وما كان يتلاءم وروحه العربيّة وحاجاته الاجتماعيّة، وبعد أن صهرها في بوتقة نفسه العربيّة أخرجها إلى العالم حضارةً أصيلة تعبّر أجلى تعبير عمّا يخالج روحه من النزعات الشرقيّة .
حكى لنا المؤلّفون العرب كابن أبي أصيبعة ، والقفطي ، وابن النديم والبيهقي ، وابن جلجل وغيرهم . قصّة غزو العرب للأدب السريانيّ والمؤلّفات التي ترجمت عن السريانيّة إلى العربيّة في أرجاء الدولة العباسيّة والاندلس.
إنّنا لن نتوقّف عند ما حمله إلينا هؤلاء المؤلّفون العرب إذ لا يجهله أحد، بل نريد، في هذه العجالة، أن ننوّه ببعض الكتب السريانيّة المعرّبة التي عثرنا عليها في أبحاثنا، ممّا لم يذكرها من تقدّمنا أو لم يعبأ به لخروجه عن نطاق إشغاله. ثمّ نورد أسماء كتّاب السريان الذين ساهموا بأقلامهم في إقامة الصرح الحضاريّ العربيّ، وهو وليد الجامع والكنيسة معاً. كما نتطرّق على النواحي الحضاريّة الأخرى التي اشترك بها السريان والعرب في إبرازها .
السريان يتعلّمون العربيّة
أقبل السريان، بعد الفتح الإسلاميّ على تعلّم اللغة العربيّة ودراسة آدابها، وأخذوا يصوغون أفكارهم وعلومهم وآدابهم بما ينسجم وتقاليد الدولة العربيّة، فأصبحت اللغة الحضاريّة السائدة في بلادنا هي العربيّة ولذلك فإنّ الشعوب غير العربيّة فقدت ذاتيّتها اللغويّة .
وبعد أن قطع السريان مرحلة كبيرة في تعلم العربيّة، استطاعوا إضافة علومهم وأفكارهم إلى ما عند العرب، فتكوّنت من ذلك مزيج من الحضارة أصبحت في ذاتها تختلف عن غيرها من الحضارات السابقة مصبوغة بالطابع العربيّ والأسلوب السريانيّ، التي أخذت تنمو وتزدهر منذ العصور الإسلاميّة الأولى، وأتت ثمارها في العصر العباسيّ الأول حيث أصبحت بغداد حاضرة الدولة العباسيّة فتهافت عليها رجال العلم والثقافة والأدب والاقتصاد والمال، لما كانت تتمتّع به من المركز الثقافيّ والعلميّ والسياسيّ والاقتصاديّ، فنبغ أعداد كبيرة من الشعراء والأدباء والعلماء والفلاسفة وكان أبرزهم في هذه الميادين النصارى العرب والسريان . وأهمّ ما برزوا فيه الترجمة من السريانيّة واليونانيّة والفارسيّة والهنديّة والعبريّة إلى اللغة العربيّة. وبذلك عملوا على بعث التراث العربيّ والسريانيّ وذلك بالعناية بالترجمة والتصنيف والتأليف.
انطلاقة حملات الترجمة إلى العربيّة
انصبّ اهتمام السريان أولاً على تعريب الفكر اللاهوتيّ لآباء الكنيسة ثم ترجمة الكتب الفلسفيّة والطبيّة والفلكيّة والأدبيّة وللنساطرة واليعاقبة فلهم الفضل الأكبر بخلق هذا التيار.
أوّل الكتبة السريان الذين عربت مؤلّفاتهم هو مار أفرام السريانيّ فلنا منه في مخطوطات القرن التاسع الميلاديّ عدّة كتب. وما أن انقضى القرن العاشر حتى كان القسم الأكبر من إنتاجه الأدبيّ بين أيدي النصارى العرب يحتلّ المقام الأول في الصوامع والديارات، إلى جانب مؤلّفات يوحنّا سابا المعروف عند العرب بالشيخ الروحانيّ وقد نسك في بيت دلياطا، ومؤلّفات مار اسحق السريانيّ، وكتب يعقوب السروجيّ؛ هؤلاء الأربعة هم الكتبة السريان الكبار الذين انتشرت كتبهم أوسع انتشار بين أيدي النصارى العرب والسريان عموماً والرهبان خصوصاً.
وتجدر الإشارة إلى كتّاب آخرين نقلت مؤلّفاتهم السريانيّة إلى العربيّة نظير يوحنّا الرهاوي وإبراهيم النفتري وقرياقوس النصيبيني وسهدون الأسقف وزيد ابن شمعون طيبوته وفيلوكسينوس المنبجي وبولس متروبوليط نصيبين طبيب الساسانيّين ويعرف أيضاً ببولس البصريّ مطران نصيبين، ويعقوب البرادعي وماروثا التكريتي ويعقوب الرهاوي وداود ابن فولس وهو من القرن الثامن الميلاديّ.
إنّنا نضرب صفحاً عن مؤلّفات سير الأولياء والنساك التي ظهرت في السريانيّة ومنها انتقلت إلى العربيّة فإنّها أكثر من أن تُحصى. كما أنّنا نمرّ مرّ الكرام على تلك الرتب الطقسيّة المختلفة التي يتقرّب بها المصلّون النصارى من الله وقد عرّبت كلّها من السريانيّة التي كتبت فيها؛ وعلم القوانين الذي نشأ عند النصارى السريان والعرب ممّا سنّه الأقدمون في مجامعهم المسكونيّة أو المحليّة وقرّره القدّيسون والحكّام قبل الفتح الإسلاميّ وممّا زيد عليه بعد الفتح حسبما اقتضت الحاجة إلى إقراره ونشره بين المؤلّفين.
كلّ هذا التراث القديم انتقل إلى أيدي العرب فعملوا فيه الفكر واستلهموه وراحوا يكتبون بهديه صفحات رائعة خلدت ذكره. وهكذا نشأت إلى جانب المكتبة المعرّبة، مكتبة ثانية خلقها الكتبة السريان وهي تمثّل أبهى تمثيل الأدب السريانيّ العربيّ الأصيل .
آل بختيشوع وعلم الطب
أمّا المؤلّفون النساطرة فعددهم وفير ومقامهم رفيع. أوّلهم الأسرة الراسخة في علم الطبّ والفلسفة آل بختيشوع من جنديسابور، وقد تناقلت العلم من جيل إلى جيل على مدى ثلاثة قرون تقريباً في عهد العباسيّين مؤسّسها جوارجيوس ابن جبرائيل وابنه بختيشوع وحفيده جبرائيل وابن حفيده بختيشوع وحفيد حفيده يوحنّا... ومن أنسباء هذه الأسرة جبرائيل بن عبيد الله وابنه أبو سعيد عبيد الله. هؤلاء كلّهم خدموا الطبّ والفلسفة والمنطق والديانة المسيحيّة بما عرّبوا وألّفوا. نقل إلينا أخبارهم ابن أبي أصيبعة ، وأبو الفرج ابن العبري والقفطي من القدماء، وشيخو وسليمان صائغ ويوسف غنيمة من المتأخرين؛ وماكس مايرهوف وبرغشتراسر ، وبروكلمان ودائرة المعارف الإسلاميّة عند المستشرقين.
فإن كان ولا بدّ من وقفة، فإنّها تصحّ الكلام عن دور هؤلاء النساطرة في نشر الثقافة إلى الفرس قبل الفتح العربيّ، وإلى العرب بعده، فقد أنشأوا مدرسة طبيّة في الرها، وبعد خرابها انتشر النساطرة في بلاد فارس ونالوا نفوذاً سياسياً فيها، وأسّسوا في جنديسابور من أعمال خوزستان كلية طبيّة جديدة . وقد روي أنّ الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب تعلم قبيل الإسلام في مدرسة جنديسابور .
مدارس في العهدين الأموي والعباسي
يقول المستشرق ديورانت ، كان بنو أميّة حكماء إذ تركوا المدارس الكبرى المسيحيّة أو الصابئة أو الفارسيّة قائمة خاصّة في حران ونصيبين وجنديسابور وغيرها ولم يمسوها بأذى، وقد احتفظت هذه المدارس بأمّهات الكتب الفلسفيّة والعلميّة ومعظمها في ترجمته السريانيّة، وما لبث أن ظهرت ترجماتها إلى العربيّة على أيدي النساطرة.
بقيت هذه المدارس تؤدّي عملها في العصور الإسلاميّة، وزاد إتّصالها بالمسلمين في العصر العباسيّ، وذلك منذ عهد المنصور حيث تعذّر على أطبائه علاج معدته، فدلّوه على جوارجيوس بن بختيشوع رئيس أطباء مدرسة جنديسابور، وتعاقب غيره من خيرة أطباء مدرسة جنديسابور على الانصراف لعلاج خلفاء بني العباس، وكانوا جميعاً نصارى.
أمّا في العراق فقد أنشأ السريان فيه خمسين مدرسة وكانت تدرّس فيها العربيّة وآدابها إلى جانب السريانيّة واليونانيّة والفارسيّة، وكانت تُقام في الكنائس البيع والديارات . وقد درّس فيها أيضاً العلوم العقليّة واللغويّة والطبّ والمنطق والفلسفة واللاهوت . وقد ألحق بها خزائن الكتب والمكتبات وكتب الأقدمين تحدثنا عنها بإسهاب طويل.
قلنا، إنّ الرهبان أقاموا المدارس في الأديرة، فكانت في دير مار فتيون مدرسة كبيرة، وقال المؤرّخ ماري بن سليمان: لما بنى المنصور مدينته، ونزلها الناس، هدم سبريشوع الجاثليق وجدّد بناء بيت الإشهاد ونصب أسكولاً (مدرسة) وجمع المتعلّمين بها ، وكان في الكرخ مدرسة أخرى، فذكر ابن القفطي(646هـ/ 1248) : إنّ ابن بطلان الطبيب البغداديّ قرأ الطبّ على علماء زمانه من نصارى الكرخ .
وذكر ابن العبري (685هـ/ 1286م) : إنّ الطبيب البغداديّ يحيى بن عيسى بن جزلة درس الطبّ لدى نصارى الكرخ الذين كانوا في أيامه.
وكانت في محلّة دار الروم ، ودرب القراطيس وبيعة الكرخ ، ودرب دينار، وسوق الثلاثاء ، مدارس واسعة تضمّ بين جدرانها مئات من الطلاّب. وأكبر هذه المدارس مدرسة مار ماري التي كانت تقع بعيداً عن بغداد في دير قني . وقد نبغ فيها أعظم مشاهير علماء السريان والنصارى العرب، إذ يبدو أنّ هذه المدارس كانت دينيّة خاصّة بالنصارى وتدرّس فيها بالإضافة إلى العلوم الدينيّة اللغة السريانيّة وآدابها واليونانيّة، لذا أصبحت من مراكز بعث التراث السريانيّ والعربيّ والحفاظ عليه والعمل على نشره في أرجاء العالم.
وكما اشتهرت بغداد بمدارسها، اشتهرت الموصل هي الأخرى بهذا المضمار، منها مدرسة دير مار جبرائيل المعروف بالدير الأعلى على نهر دجلة في جوار الطابية العليا (بأشطابية) ، ومدرسة دير مار ميخائيل الواقع شمالي الموصل، ومدرسة النبي يونان (النبي يونس) في نينوى، ومدرسة مار إيليا الحيري في غربي الموصل . وكانت تدرّس في هذه المدارس مختلف العلوم والفلسفة واللاهوت واللغات.
ومن المدارس الأخرى التي أسّسها السريان في العراق وبالأحرى النساطرة مدرسة قسطفون . كما اشتهرت مدرسة قنسرين على الفرات بتعليم فلسفة اليونان وأبرز تلامذتها سويريوس الذي نقل علوم الفلسفة واللاهوت إلى السريانيّة وبرز من تلامذته يعقوب الرهاوي واضع علم النحو السريانيّ، وجيورجيوس المعروف بأسقف العرب فقد ترجم بعض كتب أرسطو .
وكان لهذه المدارس أثر كبير في نشر الثقافة، وبما أنجبته تلك المدارس من العلماء والأدباء والمؤلّفين السريان يعاقبة ونساطرة، وكان أبرزهم في العصر العباسيّ يوحنّا بن ماسويه رئيس أعظم مدرسة في بغداد، وحنين بن اسحق شيخ تراجمة عصره ورئيس الفلاسفة والأطبّاء .
كما وكانت هذه المدارس لا تقوم فقط بمهمّة التعليم لمختلف صنوف العلم والمعرفة وإنّما كانت دوراً للترجمة والتأليف فتعتبر الفترة الواقعة بين ظهور الفرق المسيحيّة، وبين الفتح الإسلاميّ للعراق عنيفة وغنيّة بالترجمة من اليونانيّة إلى السريانيّة ومنها إلى العربيّة لتأييد معتقداتها، وكانت الترجمة منصبّة على علم اللاهوت والدراسات الدينيّة، وبعد الفتح الإسلاميّ استمرّت الترجمة على العلوم الطبيّة والفلسفيّة والكيمياء والفلك وذلك منذ القرن الأول الهجري، فإنّ خالد بن يزيد الأول (85هـ) كان أول المحبّين لعلوم اليونان، فأمر بترجمة الكتب في علم الهيئة والطبّ والكيمياء حتى يروى أنّه وجد الحجر الفلسفيّ الذي يصنع به الذهب الاصطناعيّ .
المترجمون بالعشرات
إن من أشهر المترجمين في العصر الأمويّ يعقوب الرهاوي الذي ترجم كثيراً من كتب الإلهيات اليونانيّة إلى العربيّة .
ودخلت علوم اليونان وفلسفتهم إلى العرب عن طريق السريان في العصر العباسيّ منذ خلافة المنصور حيث كان شغوفاً بالطبّ والهندسة والفلك والنجوم، وهو أول من راسل ملك الروم يطلب منه كتب الحكمة، فبعث إليه بكتاب إقليدس وبعض كتب الطبيعيات
. وجمع حوله صفوة مختارة من العلماء في مختلف نواحي المعرفة وشجع على ترجمة العلوم من اللغات الأخرى. وقد نقل حنين بن اسحق (195-260هـ/ 809-873م) للمنصور بعض أبقراط وجالينوس في الطبّ، وترجم يحيى بن بطريق كتاب المجسطي، وترجم كلّ من جورجيس بن جبرائيل الطبيب، وعبد الله بن المقفّع كتب المنطق لأرسطوطاليس واعتنى يوحنّا بن ماسويه وسلام الأبرش وباسيل المطران بكتب الطبّ
.
وقد زادت عناية الرشيد واهتمامه بترجمة الكتب فأمر بترجمة جميع ما وقع في حوزتهم من الكتب اليونانيّة والسريانيّة، كما وسّع ديوان الترجمة الذي كان قد أنشأه المنصور لنقل العلوم إلى العربيّة وزاد عدد موظّفيها
. فولّى الخليفة تعريب الكتب إلى الطبيب يوحنّا بن ماسويه وعيّن له كتّاباً حذّاقاً يشتغلون بين يديه ويساعدونه في عمله
.
ولما تولّى المأمون الخلافة اهتمّ بالترجمة والتأليف وأخذ يضمن شروط الصلح مع ملوك الروم إرسال كتب الحكمة فكان أحد شروط الصلح بينه وبين ميخائيل الثالث أن يهب له (للمأمون) إحدى المكتبات الشهيرة في القسطنطينيّة وكان بين ذخائرها الثمينة كتاب بطليموس في الفلك، فأمر المأمون بنقله إلى العربيّة وسمّاه المجسطي
.
كما وأنشأ المأمون في بغداد بيت الحكمة وهو مجمع علميّ ومرصد فلكيّ ومكتبة عامّة وأقام فيه طائفة من المترجمين من السريان وأجرى
عليهم الأرزاق من بيت المال . وأرسل المأمون بعد ذلك بعثة علميّة لشراء كتب الحكمة من بلاد الروم مكوّنة من الحجّاج بن مطر، وابن بطريق، وسلّم صاحب دار الحكمة (ت 215هـ/830م) فأخذوا ممّا اختاره عدداً كبيراً وحمّلوه إلى بغداد مجموعة كبيرة من كتب الفلسفة والمنطق والموسيقى والفلك وغيرها
.
ازدهرت إذن الترجمة على أيدي السريان في الفترة الواقعة بن عاميّ 750-900م. فقد عكفوا على ترجمة أمّهات الكتب السريانيّة واليونانيّة والفهلويّة الفارسيّة والسنسكريتيّة الهنديّة إلى العربيّة، وكان على رأس أولئك المترجمين في بيت الحكمة حنين بن اسحق الطبيب النسطوريّ فقد ترجم إلى اللغة السريانيّة مائة رسالة من رسائل جالينوس، وإلى العربيّة تسعاً وثلاثين رسالة أخرى، وترجم أيضاً كتب المقولات الطبيعيّة والأخلاق الكبرى لأرسطو، وكتاب الجمهوريّة، وكتاب القوانين والسياسة لأفلاطون
، فكان المأمون يعطيه ذهباً زنة ما ينقله من الكتب . وقام ابنه اسحق في أعمال الترجمة أيضاً فنقل إلى العربيّة من كتب أرسطو الميتافيزيقيا والنفس وفي توالد الحيوانات وفسادها، كما نقل إليها شروح الإسكندر الأفروديسي وهو كتاب كان له أثر كبير في الفلسفة الإسلاميّة . وكان يعمل معه نقلة مجيدين أمثال اسطفان بن باسيل، وموسى بن خالد، ويحيى بن هارون، وحبيش بن الأعسم، وعيسى بن يحيى بن ابراهيم . وكان قسطا بن لوقا يشرف على الترجمة من اللغات اليونانيّة والسريانيّة إلى العربيّة. وقد أقام المأمون يوحنا بن البطريق الترجمان أميناً على ترجمة الكتب الفلسفيّة من اليونانيّة والسريانيّة إلى العربيّة، وتولّى كتب أرسطو وبقراط
.
ولم يكن الخلفاء وحدهم يهتمّون بالترجمة والنقل إلى العربيّة بل نافسهم الوزراء والأمراء والأغنياء، وأخذوا ينفقون الأموال الطائلة عليها، فيقول ابن الطقطقي
: إن البرامكة شجعوا تعريب صحف الأعاجم حتى قيل أن البرامكة كانت تعطي المعرّب زنة الكتاب المعرّب ذهباً. وبالغ الفتح بن خاقان في إنفاق الأموال على الترجمة والتأليف. وكان عبد الملك بن الزيات لا يقل عنه سخاء في هذا المجال .
العلوم اللاهوتيّة بالعربيّة
ولم يقتصر اهتمام السريان بالترجمة ولا سيّما ترجمة فلسفة اليونان بل تعدّاه إلى اللاهوت الذي كتبه آباء الكنيسة بالسريانيّة فعرّبوه ليكون جاهزاً وواضحاً أمام إخوانهم النصارى العرب وممّن اهتمّ بهذا المجال نكتفي بذكر أسمائهم:
أبي الحسن عيسى بن حكم المسيحيّ الدمشقيّ
، والراهب هارون بن عزور وأبي زكريا يحيى ابن البطريق ويوسف بن إبراهيم الحابس ابن داية ، وجاثليق النساطرة تيموتاوس الكبير الذي بالإضافة إلى ترجمته لكتاب أرسطو في الشعر له محاورة معروفة مع الخليفة المهدي حول العقائد النصرانيّة وموقف النصارى تجاه الإسلام. حول هذا الجاثليق نرى صديقه أبا نوح ابن الصلت الأنباري وكاتبه أبا الفضل علي ابن ربان النصرانيّ وخليفته على كرسي الجثلقة يشوع بن نون
وكلّهم من الكتبة المبدعين.
وأمّا حبيب ابن بهريز فكان أولاً أسقفاً على حران ثمّ انتقل إلى كرسي الموصل، وعاش في زمن المأمون، ولهذا الخليفة عرّب كتباً في المنطق والفلسفة واللاهوت، وللأسف حبيب ابن بهريز له عدّة نظريات قريبة من الإسلام
.
وفثيون ابن أيوب الترجمان الشامي نقل إلى العربيّة بعض الأسفار المقدّسة وعاش في بغداد في نصف القرن التاسع الميلاديّ، وكانت تربطه صداقة حميمة بعبد الله ابن كلاب، كما أخبر ابن النديم
.
وإذا كان الجاثليق يوحنا بن عيسى ابن الأعرج
لم يترك أثراً في كتب المؤلّفين المسلمين، رغم كونه كاتباً كنسياً مشهوراً في عالم الفقه، فإنّ أبا بشر متى بن يونس ينعم بشهرة نادرة. حكى عنه القفطي قال: "عالم بالمنطق وعلى كتبه وشروحه اعتماد أهل هذا الشأن في عصره". وقد شهد عنه ابن النديم فقال: "إليه انتهت رئاسة المنطقيّيين في عصره" . وهو من أكابر شرّاح الفلسفة الأرسطيّة . تعلّم في مدرسة مار ماري في دير قني حيث كانت تدرس علوم المنطق والنحو والشعر والهندسة والفلك والطبّ والفلسفة وعلوم الدين باللغة العربيّة إلى جانب اللغتين السريانيّة واليونانيّة
.
وفي القرن العاشر والحادي عشر قام بين النساطرة عدّة أساقفة الّفوا أو عرّبوا كتباً هامّة خلدت أسماءهم وهم جرجس مطروبوليط الموصل
وإسرائيل أسقف كشكر وإيليا الأول الجاثليق وخصوصاً إيليا مطران نصيبين
صديق أبي القاسم الحسين ابن علي المغربي وله معه مجالس مشهورة، ولمطران نصيبين مؤلّفات كثيرة في العقائد الدينيّة والتاريخ والأخلاقيات والفقه واللغة السريانيّة والعربيّة.
ولا نغفل عن ذكر الراهب قورياقوس ابن زكريا الحرّاني وجبرائيل ابن نوح وعيسى ابن علي النصرانيّ صاحب قاموس سريانيّ –عربي، وابي الحكيم يوسف ابن البحيري من ميافرقين وبشر ابن السري الدمشقي مفسّر الكتب المقدّسة
.
أمّا أبو الفرج عبد الله ابن الطيب
فكان من الرجال البارزين في عصره وبين قومه فهو الفيلسوف والطبيب والقسّ الذي شغل منصب كاتب الجاثليق أيام يوحنا بن نازوك وتوفي سنة 1043 إليك ما كتب عنه القفطي: "فيلسوف فاضل مطلع على كتب الأوائل وأقاويلهم، مجتهد في البحث والتفتيش ، قد أحيى من هذه العلوم (أي فلسفة أرسطوطاليس وطب جالينوس) ما دثر وأبان منها ما خفي… وشيخنا أبو الفرج عبد الله ابن الطيّب بقي عشرين سنة في تفسير ما بعد الطبيعة ومرض من الفكر فيه مرضه كاد يلفظ نفسه فيها…" فهذا الذي قدم شروحاً قيّمة لكتب أرسطوطاليس وفرفوريوس الصوري وجالينوس وأبقراط اهتمّ أيضاً بتفسير الكتب المقدّسة النصرانيّة بأجمعها، كما أنّ له عدّة كتب عقائديّة وأخلاقيّة وفقهيّة، قسم منها نشرة علماء أوربيون
، وقسم ما زال طيّ المخطوطات.
هؤلاء هم المؤلّفون النساطرة وقد كانوا من نخبة القوم علمياً واجتماعيّاً
عصر ذاك.
أما اليعاقبة فقد برز منهم بالحقبة ذاتها مفكّرون كبار يتقدّمهم أبو رائطة حبيب ابن خدمة التكريتي، المعاصر لأبي قرّة أسقف حرّان وطيموثاوس الكبير الجاثليق له عدّة رسائل دينيّة نشرها العالم جورج غراف مع ترجمة ألمانيّة
وقد اهتمّ بتربية نسبيّة نونّوس رئيس شمامسة نصيبيين الذي ألّف تفسيراً لإنجيل مار يوحنّا، ما عدا كتاباته باللغة السريانيّة ، أشهر منه كان عبد المسيح ابن ناعمة الحمصي معرّب المغالطات السفسطائيّة والسماع الطبيعيّ لأرسطو والكتاب المنحول (إيثولوجيا)
.
وبعد أن نذكر ذكراً عابراً موسى ابن الحجر، صاحب التفاسير الكتابيّة الخطب الدينيّة ومعاصره يوحنا الداراني
وله مقالة عن الشياطين وكتاب في الكهنوت، نصل إلى قمّة الفكر النصرانيّ أعني يحيى بن عدي التكريتي نزيل بغداد أعطى القفطي لائحة كتبه الفلسفيّة وأهمل كتبه اللاهوتيّة المسيحيّة . ومن تلاميذه الفيلسوف فرج بن جرجس ابن أفريم اليعقوبيّ، وأبو الخير الحسين ابن السوار، وأشهرهم أبو علي عيسى ابن اسحق ابن زرعة : "أحد المتقدّمين في علم المنطق والفلسفة" وتلميذه أبو نصر يحيى ابن جرير التكريتي (+1080) كان كثير الإطّلاع في العلوم وذا فضل في صناعة الطبّ. وله كتب في الطبّ وعلم النجوم ذكرها ابن أبي أصيبعة وكتاب المرشد وهو مختصر مفيد لأهمّ العقائد المسيحيّة .
تميّز في الطب
وما دمنا في صدد الطبّ فإنّ السريان اهتمّوا به وأشادوا قبل الإسلام المستشفيات في العراق وأقاموا المدارس الطبيّة واعتنوا بصناعة الأدوية.
ولما جاء الإسلام اهتمّ الخلفاء عامّة برعاية الطبّ والأطباء قبل غيره من العلوم. ففي العصر الأموي استخدم الخلفاء الأطباء السريان والمسيحيّين في بلاطاتهم وقصورهم، ومن هؤلاء ابن آثال وكان طبيباً لمعاوية بن أبي سفيان
، ويقول ابن أبي أصيبعة ( 168هـ ): إنّ الخليفة عمر بن عبد العزيز أمر بنشر كتاب الطبّ الشرعيّ الذي نقله إلى العربيّة متطبّب البصرة ماسرجويه في عهد الخليفة مروان بن الحكم، وقد وجده في خزائن الكتب بالشام
.
ومن أشهر أطباء السريان في العراق في العهد الأموي تثاذوق، وكان طبيباً فاضلاً وله نوادر في صناعة الطبّ، وكان مشهوراً عند الأمويّين بالطبّ، صحب الحجّاج الثقفي في العراق، وخدمه بصناعة الطبّ، وكان الحجّاج يعتمد عليه ويثق بمداواته
، ولتثاذوق من الكتب كناش كبير ألّفه لابنه، وكتاب إبدال الأدوية وكيفيّة صنعها وإذابتها، وشيء من تفسير أسماء الأدوية
.
وقد دأب خلفاء بني أميّة على رعاية الأطباء وتشجيع دراسة الطبّ، فأنشأوا لأجل ذلك المستشفيات لمعالجة المرضى من الناس، وأول مستشفى شاده الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 88هـ لمعالجة المجذومين
، كما اتّخذوا لأنفسهم الأطباء من المسيحيّين العرب والسريان للإشراف على علاجهم.
وفي العصر العبّاسي أكثر الخلفاء من إنشاء المستشفيات واختاروا لها الأماكن التي تمتاز بالهدوء والهواء النقيّ والماء الصافي
. وجعلوا فيها أماكن خاصّة للرجال وأخرى للنساء وخصّصوا لكلّ مرض قاعات خاصّة ووضعوا للإشراف عليها أطبّاء متخصّصين، ومن أشهر المستشفيات تلك مستشفى العميان الذي أنشأه المنصور ، ومستشفى الرشيد التي أنشأها سنة 170هـ ومستشفى علي ابن عيسى الوزير، وأخذ الخلفاء فيما بعد ينشئون المستشفيات بأسمائهم لعلاج العامّة، ويوقفون لها الأموال الطائلة، ويشرفون أحياناً بأنفسهم على رعايته ، فكان الأطباء والصيادلة خاضعين للامتحان ليحصلوا على إجازة التطبّب، وكان بكلّ مدينة مفتّش خاصّ للصيدليات وتحضير الأدوية
.
ومن أبرز الأسر المسيحيّة التي اشتهرت بالطبّ وبقي أحفادها يتوارثون معالجة خلفاء بني العبّاس هي أسرة بختيشوع التي سبق وأشرنا إليها وإلى خدماتها في مجاليّ الطبّ والترجمة
.
كما اشتهر الطبيب عيسى بن شهلا وهو تلميذ جورجيس بن جبرائيل
وكان من أطباء المنصور. ومن أطباء المهدي أو قريش ويعرف بعيسى الصيدلاني ولم يذكر في جملة الأطباء لأنّه كان ماهراً بصناعة الأدوية
.
ومن أطباء الهادي المتطبّب الطيفوري نقل له حنين عدّة كتب في الطبّ وكان أحظى الناس عند الهادي
. ومن الأطباء الكحالين جبرائيل الكحّال وقد اختصّ بخدمة الرشيد وكانت وظيفته في كلّ شهر ألف درهم . ووضعه المأمون رئيساً لبيت الحكمة. وله مقالة في الحميات أصبحت المعوّل عليها في دراسة الأمراض. ونقلت إلى اللاتينيّة والعبريّة . ويذكر ابن جلجل (348هـ/ 994م): إنّ له ثلاثون كتاباً منها كتاب البرهان وكتاب الكمال والتمام وكتاب في الفصد والحجامة وفي الأدوية والجذام والأغذية وفي علاج المعدة وفي طلب النسائيّ وتركيب الأدوية
.
واشتهر منهم ماسويه بن يوحنا وقد رأس مدرسة الطبّ في بغداد وله مترجمات ومؤلّفات، ويوحنا بن ماسويه الذي اشتهر بالطبّ والصيدلة واستخصّه المأمون لمهارته.
وكان سلمويه بن بنان طبيب المعتصم، وقد قرّبه إليه، وكان يردّ إلى الدواوين توقيعات المعتصم في السجلاّت وغيرها بخطّه، وكان كلّ ما يرد على الأمراء والقوّاد من خروج أمر وتوقيع من حضرة أمير المؤمنين فبخطّ سلمويه
. ولما مرض سلمويه بعث المعتصم ابنه لزيارته. ولمّا مات أمر بأن تحضر جنازته إلى القصر، وأن يُصلّى عليه بالشموع والبخور جرياً على عادة المسيحيّين، وامتنع المعتصم يوم موته عن أكل الطعام . وقال المعتصم سألحق به لأنّه كان يمسك حياتي ويدبّر جسمي وله عشر مقالات في طبّ العين وفي الأغذية وفي تدبير الناقهين وفي الأدوية
.
ومن الأطباء المشهورين أيضاً حنين بن اسحق
وابن أخته حبيش بن الأعسم وابنه اسحق الذي قال فيه ابن القفطي أنّه كان أبو يعقوب النصرانيّ في منزلة أبيه في الفضل وصحّة النقل من اللغة اليونانيّة والسريانيّة وكان فصيحاً يزيد على أبيه في ذلك
.
وألّف السريان كتباً طبيّة بالعربيّة وهم إبراهيم بن باكوس ويحيى بن عدي وعيسى بن زرعة والبيرودي والفضل بن جرير ويحيى بن جرير
، وقسطا بن لوقا وكان حاذقاً في الطبّ والفلسفة والتنجيم والهندسة والحساب وله تآليف في الطبّ منها الفرق بين النفس والروح وكتاب بين الحيوان والناطق والصامت وكتاب في غلبة الدم .
وقد لازم هؤلاء الأطباء الخلفاء في قصورهم ويجلسون إلى موائد طعامهم ويسامرونهم ويرافقونهم في أسفارهم وحروبهم .
علوم الفلك
ولقد اهتمّ السريان بعض الشيء بدراسة علم الفلك وعلم التنجيم لأنّها تصلح فيما يعمّ من الكسوفات وتغيير الازمنة والحرّ والبرد وغير ذلك ممّا يتعلّق بقرب الشمس وبعدها واتّصال القمر وبالكواكب ويتعلّق هذا العلم بالحساب وعلم الهيئة . ومن أوائل المنجّمين في أيام المهدي توفيل بن توما الرهاوي. وفي عهد المأمون حبش الحاسب المروزي وله ثلاثة أزياج، أولها المؤلّف على مذهب السندهند، والثاني الممتحن، والثالث الزيج الصغير المعروف بالشاه.
الموسيقا
ولم يقتصر السريان في تراثهم على الحياة العلميّة والفلسفيّة واللاهوتيّة إنّما تعدّاه إلى الموسيقى والغناء ويرجع ذلك إلى أنّ الموسيقى جزء من الطقوس الدينيّة، وكانو يطلقون عليها بالموسيقى الكنسيّة ، فقد استعملوا آلات الطرب في ألحانهم الدينيّة، ووضع أدباؤهم أناشيد البيع ونظموا الموشّحات الموزونة والمضبوطة القياس فضلاً عن الطقوس الأخرى التي تتلى صباحاً ومساءً في الكنائس ذات الأنغام الشجيّة والتي نسمّيها الليتورجيات على غرار النافورات والحسابات والقالات وغيرها.
ولم تقتصر استعمال الموسيقى للأغراض الدينيّة فقد استعملها نصارى الحيرة في أعراسهم ومجالسهم ومآدبهم وشملت فيما بعد نصارى جميع العراق، فاستعملوا الطبول والدفوف والصنج والجلاجل والأبواق والنواقيس واقتبسوا من البيزنطيّين الأرغن والبريط
والسنطور والقانون والقيثارة وأخذوا من الحجازيّين المزهر والمعزف والقصبة
الأدب
ولو أضفنا إلى هذه التركة العلميّة الغزيرة تراث السريان الأدبيّ لوجدنا غنى كبيراً ومكتبة ضخمة تحوي من لآلئ النظم الشعري والنثر الكتابيّ قلائداً منيرة إذ برز منهم الشعراء العظام كأفرام السريانيّ ويعقوب السروجيّ واسحق الرهاوي وغيرهم كثيرون. وقد قام الرهبان بالدرجة الأولى بهذا المجهود فقد تركوا هذه الكتب في مكتبات البيع والأديرة بالإضافة إلى الكتب التي ألّفوها وترجموها في سير الآباء والشهداء والرسائل والمساجلات الأدبيّة. وقد أحصى الأب يوحنّا شابو المستشرق الفرنسيّ كتب المسيحيّين سواء كانت دينيّة أو علميّة أو أدبيّة والتي كانت في البيع والأديرة حوالي نيفاً وثلاثة آلاف في سبع خزائن من مكتبات أوروبا . وقد امتازت هذه الكتب بنقوشها وزخارفها وخطوطها الرائعة .
خلاصة
نخلص إلى الاستنتاج ممّا تقدّم أن وجه الحضارة العربيّة الكامل لم ينجل بعد، فإذا كان التراث العربيّ ناصعاً فالملامح السريانيّة تنبئ غنىّ حضاريّ لا يستهان به. فالسريان وقد ترجموا أكبر قسم من الكتبة اليونانيّين والسريان والأقباط والملكيّين الذين تقدّموهم أضافوا على هذا التراث من وحي أقلامهم حتى أضحت مؤلّفاته من العناصر الأساسيّة التي ساعدت على خلق الحضارة العربيّة
. فهذه لا تبدو لعين الباحث كصورة تعلق على الحائط فتزيّنه وترمق بنظرة واحدة، إنّها لعمري أشبه بتمثال رائع يجتذب المتأمّل والباحث حتى يستجلي ملامحه من كلّ جهاته. فالتراث السريانيّ يكمل التراث العربيّ وكلاهما لا ينبذان حضارياً الشعوب الأخرى التي ساهمت بخلق الفكر العربيّ هذا الفكر الذي يرتفع حتى ينصبّ في خضمّ الحضارة الإنسانيّة الشاملة .
وأخيراً نرجو لهذا الفكر بتراثه العربيّ والسريانيّ أن ينتشر أصيلاً ليعطي ثماراً يانعة للأمّة العزيزة والوطن الحبيب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقال نقلاً عن دراسة منشورة في معهد القديس بولس للفلسفة واللاهوت – حريصا، لبنان – 1999، 2000

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق