يوليو 07، 2009

متسولون أغنياء




ذل السؤال استحال على أيديهم فناً يتسابقون في تطويره لكسب المزيد من الشفقة والعطف وبالتالي النقود .. والدي متوفى أو عاجز .. أربي أيتاماً .. أريد ثمن الخبز .. أريد ثمن تذكرة السفر لأعود إلى بلدي .. من منا لا يسمع هذه العبارات أو إحداها مرة في اليوم على الأقل ، من منا لم يلحقوا به ، لم يحرجوه أحياناً ، لم يضايقوه ؟

ظاهرة تفشت في المجتمع المصري و لا نبالغ عندما نقول أنها أصبحت مهنة مربحة للغاية يلجأ إليها الكثير لتحسين المستوى الاجتماعي لا لأنه في حالة احتياج مادي حقيقي ، وإنما لأنه يبحث عن مستوى أعلى من تغطية احتياجه .

إنه " التسول " الوباء الاجتماعي الذي ساد في المجتمع المصري في الآونة الأخيرة وأصبح عملاً لقطاعات عريضة من أبناء هذا المجتمع ولم تتمكن الدولة من إحكام السيطرة على هذه الظاهرة وكل ما تقوم به من أعمال لمواجهة هذا الواقع الأليم مجرد مسكنات لأمراض لم تحاول بتر أسبابها للقضاء على المرض نهائياً مع علمها بالقائمين عليها والقدرة على التغلب عليهم .
التسول مشروع اقتصادي مربح لبعض فئات المجتمع من التي تستغل من هم أقل منهم و تعلم طرق التحايل على القانون جيداً وهذا القطاع يديره البلطجية الذين يعلمون سبل الاستغلال الجيد لفئة أخرى يغفل عنها المجتمع وهؤلاء على معرفة جيدة بإمكانية توظيف هذه الفئة وهم أطفال الشوارع المستغلين في كل الوظائف التي تسبب ضررا للمجتمع مثل " التسول ، ترويج المخدرات ، السرقة ، الاعتداء الجنسي " وكلها أمراض تسبب الآلام للمجتمع المصري الذي يحاول التبرير للظاهرة عادةً ولا يضع يده على نقاط القوة والضعف فيها ولن نشير إلى ما يحدث تحت رعاية رجال الأمن من ظواهر يتم التستر عليها مقابل نسبة معينة يحصل عليها رجل الأمن حتى يغمض عينه عنها. كما يلمح البعض .

في السنوات الماضية كان التسول مقصوراً على حالات منعزلة في مناطق محدودة من المدن الكبرى وكان أقل انتشاراً في الريف المصري وذلك لما كان سائداً هناك من تعفف لدى البسطاء والفقراء ، بمعنى أوضح فإن الجميع يساعد المحتاج دون أن يطلب المساعدة والقلوب تؤثر الرحمة به وبحالته دون أي إيضاح للآخرين أنهم يمنون عليه كانت المشاعر والأحاسيس عالية للغاية ، أما المدن الكبرى فكان وضعها مختلفاً قليلاً ، كان التسول موجودا ولكن بشكل طفيف لم يصل لما نعاني منه الآن وكانت طرقه مختلفة عن الوقت الحاضر وكان يصاحبه الخجل من الفعل نفسه والحياء و ذلك لأن ظروف المدينة لا تمكن أفرادها من معرفة من الفقير ومن الغني لصعوبة تحديد ذلك في مجتمعها، والوضع الآن سيء للغاية لأن التسول موجود في القرى والمدن بنسبة مرتفعة . والمتغيرات التي طرأت على المجتمع ساهمت في ظهور الانحلال الأخلاقي وتراجع الأخلاق وتقدم للمادة والمستوى الاقتصادي بشكل واضح والآن نجد المتسول يطلب بلغة بها نسبة تبجح غير عادية وكأنه يلزمك بمساعدته عبر تراجع للتعفف الآن واضح وجلي .

تعددت الفئات التي تمتهن التسول وتباينت أعمار المتسولين بشكل واضح حتى أصبحت مهنة لفئات عريضة منها أطفال الشوارع الذين يجبرون عليه من فئة أخرى وهي كبار البلطجية بالمناطق المختلفة ، والعصابات النسائية المتخصصة في ذلك والقائمين بتوزيع أنفسهم على المناطق وأذكر أن في مصر عصابات تسول من أغنى العصابات لأنها لا تكلف نفسها شيئاً وهذه الفئات صاحبة شعارات ومرددة عبارات وألفاظ تدمي القلوب و لا تهتم بما تصيب به الجماهير من أذى نفسي وإن كان مصطنعاً في بعض الحالات أحياناً ، وهناك الفئة العالية التخصص وهي متسولو وسائل النقل والمواصلات على مستوى المحافظات وأهمهم متسولو المترو ، الوسيلة الجديدة والتي نشط فيها التسول على أعلى درجة وبالنسبة لتقسيم المناطق يتم بشكل منظم وكأنه هيكل تنظيمي لمؤسسة متكاملة و لا يشوبه العشوائية في التخطيط ولا التجاوز وكل منطقة تلتزم بنطاقها دون التعدي على المناطق الأخرى المتخصصة في نفس المجال ولو حدث التجاوز بشكل أو آخر يتم التعامل بين المسئولين أي رئيس التنظيم أو " المعلم ". وهناك فئة جديدة تمتاز بالتبجح الغير عادي تتسول بأسلوب جريء تستوقفك عنوة وتؤكد أن أموالها نفذت وبحاجة إلى أموال حتى تتمكن من العودة وهي فئة مصابة بقلة الذكاء لأننا نستطيع اكتشافها فهي لا تغير المكان ولا الأسلوب . وهناك فئة المدعين ، هذه أكثر الفئات انتشارا في المواصلات العامة خاصة مترو الأنفاق الذي تبغضه كوسيلة نقل لكثرة التسول فيه وكأنك تركب هذه الوسيلة لتشاهد فيلما مؤلما عن الفقر والفقراء وفئة الموظفين خاصة عمال النظافة بالقاهرة والجيزة ، فهل تدني الأجر يجعلهم يتسولون بشكل علني وصريح وهذه الفئة حلها في أيدي كبار المسئولين عن طريق رفع الأجور أو توقيع أقصى عقوبة على من يتم الإبلاغ عنه . أما متسولي الأحياء الراقية وهم أكثر الفئات حظاً ولهم معاملة خاصة من طبقات المجتمع الراقي التي تساعد هؤلاء بشكل يشوبه الفخر أكثر من المساعدة ويعلم متسولو هذه المناطق أنماط التعامل معهم والقدرة على جذب هؤلاء والحصول على العطف منهم ، وهناك فئة تعمل في مواسم معينة وفترات يتوقع أنها مربحة للغاية .

دعا الإسلام إلى التعفف وأكد على مكانة الفقراء الذين يرفضون التسول حفاظاً على أنفسهم وتعففاً حتى لو اضطروا لأي شيء المهم أنهم يرفضون النظرة الدنيا من الآخرين ، و أكد علماء الدين ورجال الفقه أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية اقتضت التنفير الشديد من التسول ، أما إذا كان الإنسان في حالة احتياج حقيقي و لا يجد حلاً أخر فلا لوم عليه ، وإنما اللوم على من رفض مساعدته ، أما من يؤثر التسول وهو بإمكانه أن يستغنى فحكمه هو الكراهية الشديدة حيث أكدت الآيات على التنفير والتحذير من ذلك فالتلاعب والكذب والتضليل واستعمال الأطفال وما يشبه ذلك أعمال محرمة ولاشك في تحريمها، وأكد رجال الدين أيضاً أن التسول بادعاء عاهات كاذبة نوع من التلاعب بعواطف الأفراد للحصول على المال وأسباب هذا التلاعب عديدة ومتنوعة منها ما هو تربوي والذي يكمن في كون هؤلاء لا يكترثون لكرامتهم ويقبلون امتهان هذه المهنة البائسة ، أما عن السبب الاجتماعي الذي يكمن في البيئة التي خرج منها هؤلاء والذين لا يجدون قوة و لا عزما على الاستقلالية والإنتاج بالإضافة إلى عجز المجتمع عن كفالة المحتاجين ومد يد العون للعاجزين ، أما الأسباب الاقتصادية فتتجلى في انتشار الفقر وسوء التدبير و الارتقاء بالتسول إلى مستوى التفنن والاحتراف .

يؤكد بعض الأطباء أن المتسول ليس مريضاً نفسياً وأنه لا علاقة بين المرض والتسول ، أما الظاهرة ترجع لأسباب عديدة من بينها الفقر والبطالة وتفاقم ظاهرة أولاد الشوارع التي تعد قنبلة موقوتة اقترب انفجارها .
ويؤكدون أن الحقد الاجتماعي يلعب دوراً فيها، فالمتسول يعتقد خطأ أنه يأخذ حقه من المواطنين الذين سلبوه حقه في الحياة الكريمة وان ما يقوم به أفضل الطرق بدلاً من اللجوء للسرقة أو النصب . وواصلوا الحديث عن أساليب التسول المبتكرة التي يسعى إليها أملاً في العيش وأنه تسول " تيك أوي " خال من الإبداع . أما تجاوب الأشخاص مع المتسولين بشكل عفوي فهو نتاج ثقافة مجتمعية وثقافة دينية وخجل من رد السائل و هذا التجاوب معهم يحرم المجتمع من طاقة منتجة .

ما دعاني حقيقة للكتابة عن هذه الآفة الخطيرة على المجتمع المصري أو المجتمع المسلم عموما ، هو هذه المواقف المتكررة بالطبع التي أتعرض لها بجانب هذا الموقف الأخير : " جاء إلى مكان عملي بمستشفى خيري تملكها العائلة و أقوم أنا بإدارتها و طلب المال لعلاج ابنته المريضة بالسل و عندما عرضت عليه الإتيان بها إلى هنا ــ المستشفى ــ و إنني على أتم الاستعداد بمعالجتها بدون دفع مصاريف من جانبه .. رفض .. و عندما قلت له انه كاذب .. انهمر في البكاء ــ أسلوب جديد للاستعطاف ــ وقال أن ابنته بالفعل مريضه ولكنه مرض عقلي و انه لا يمكنه الخروج بها إلى الشارع .. و عندما قلتها له مرة ثانية انه كاذب و لكن هذه المرة عرضت عليه العمل فراش بالمستشفى بمقابل مادي 500 جنيه رفض .. و بدأت تنهال عليّ لعناته و سبابه .. المهم انه خرج و هو يقول 500 جنيه دول أجيبهم في يومين " .

المتسول من الناحية القانونية ليس له موارد عمل أو كان يستطيع الحصول على موارد عمل واستجدى لمنفعته الخاصة الإحسان العام في أي مكان ، صراحة أو تحت ستار أعمال تجارية، وهو ما دفع واضع القانون إلى توقيع عقوبة الحبس ، التي تقع بين شهر على الأقل وسنة على الأكثر، لمن يمارسه دون وجه حق وحدد القانون المخالفين والعقوبة المقررة عليهم في نصوصه وهي : " يعاقب من وجد متسولاً في الطريق العام أو الأماكن العامة، حال كونه صحيح البنية ويبلغ 18عاماً فأكثر، بالحبس لمدة لا تتجاوز شهرين. ويعاقب من وجد متسولاً في الطريق العام ، حالة كونه غير صحيح النية ، وغير قادر على العمل ويبلغ 18 عاماً فأكثر في مدينة نظمت بها ملاجئ ، بالحبس مدة لا تتجاوز شهراً " .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق