البحث عن قوالب جديدة للتفكير يستتبع بالضرورة افتراض مجموعة من الخطوات النظرية تتأرجح بين المماهاة و الاختلاف و التماثل و التجاوز ، التموقع و كذا نحت أبعاد زمانية أخرى تجعل من لحظة الحاضر مجرد مصطلح مفهومي ، يتوخى منه إيجاد ركائز مفترضة للعبة وجودية لا توجد أصلا إلا في عقولنا .
كل شيء يستحق الانتباه ، حتى طريقتنا في الأكل لأن الذات محكومة بمنظومة سلوكية ترتبط بحمولة معرفية معينة . و في نفس الآن ، فإنه لا شيء يمكن أن يبتغي لذاته قيمة تحديدية ، مادامت الإخفاقات و التلاشيات و كذا الانهيارات تبقى التأسيس الوجودي لزمان ذاتي قدر ما تتوخى منه هو : موتنا .
أي لعبة فكرية يمكنها إذن إيجاد سبل لهذا الاختلاف / التأسيس ، بمعنى السلب الذي يتشكل داخل منظومة لها قوام الزمان و المكان . وحده الفكر المتسائل يمكنه الكشف عن كل ما يؤسس الوهمي ، ذلك الذي يجعل من المظلة الوجودية شجرة لأحلامنا . و السؤال ليس حصيلة معرفية لملاحظات قبلية و لا موعظة نظرية نتدرب عليها مثلما نمارس رياضية يومية ، و لا حتى تنميقا مفهوميا واعيا أو لاواعيا لأزمة وجودية – مادام أن الإخفاق وحده مؤشرنا إلى جدلية التحقق و الانهيار – السؤال هو جسدنا العاري ، تحدده كيمياء الولادة و الموت . بدون السؤال سيظل الوجود لعبة قذرة تسقط على رؤوسنا فتجعل من أجسادنا بقايا لمقدمات تعلن منذ الوهلة الأولى ، على أن الرحلة ستكون هذه المرة يائسة .
تصنف المؤسسة التعليمية كل فكر يلهث وراء موته بالعدمية ، و تحدد كل اشتغال نظري لا يجد لذاته قواعد الإرساء بالفلسفة ، أي تلك الأعمدة المفاهيمية التي تنصب المشانق في كل مكان حتى تعطي للحياة دورتها الكاملة . العقول الكبيرة تخشى على نفسها تيبس الشرايين ، فيحولها ذلك إلى مجرد شحنة انفعالية لممكنات لم تجد بعد لها مسلكا نحو الآخرية الممتلئة التي حولت العدم من زمن ملغى باستمرار إلى موقف يجعل العالم بأكمله بين قوسين في أفق تحقيق الأولانية الأنطولوجية للذات .
بالنسبة للمؤسسة ، الفلسفة قيمة فكرية لاغية لأنها تبحث في الأسس و بالتالي ستصل من خلال ذلك إلى استنبات قيم المغايرة التي تؤمن بالانهيار . تتأسس حقيقة العالم الأبدية من وجهه نظر المؤسسة على جعل هذا العالم قائما حتى و إن كان على رجل واحدة مادام أن الطريق إلى أنفسنا لا يكون دائما مضمون النتائج .
يجعل الفيلسوف من المقدمات نتائج لحصيلة فكرية تتأسس على مستوى درجة لا تتحمل أي مؤشر . بين هذا و ذاك تقوم الفلسفة بواجب إيجاد مراعاة يمكن حتما من خلالها إعطاء السؤال هذه القدرة الهائلة على الامتلاء . من خلال ذلك ، كيف يمكن إذن الجمع بين إستراتيجية نظرية قائمة على الاحتمال و التجاوز إلى الممكن ثم إيجاد الفعل الآدمي الذي بإمكانه صياغة معادلة تبدو للكثيرين شذوذا اجتماعيا . التضخم اللغوي لا يعطي بالضرورة فعلا مبدعا . صحيح أن اللغة تتمثل بقوة الحمولة المتعددة للعالم و الآخر ، و بالتالي تقوم على إستراتيجية الإرجاء التي تجعل من بنية السؤال مسارا تأسيسيا .
كيف يمكن أن نؤسس اختلافنا داخل بنية فكرية مؤسسة على الواحدية المطلقة ؟ هل العقل وحده بإمكانه خلخلة الصياغة النمطية لمجموعة تعتقد أن ذاتها لا يمكن أن تشكل حيزا للفراغ ؟ أم أن ظل الجسد في انفلاتاته الدائمة يشكل الإرساء الذي يرسم أفق كينونتنا الناغلة و القابعة بين دواليب منظومات القيمة و الأحكام الماقبلية .
الفلسفة لها القدرة على تكثيف اللماذات التي تحول انسيابنا الوجودي إلى تأرجحات زمانية تعانق في كل لحظة اللامتناهي أو الممكن . صحيح ، أن جدلية السؤال و الجواب قبل أن تحول حياتنا إلى موت لمجموعة من التحققات - تلغي الجسد أولا و أخيرا – ترسم آثارا للتعديم . و العدم هنا ليس موتا فيزيقيا و لكنه الحيز الزماني الذي يمكن أن يأخذه السؤال بعد لحظة اختلال في مفهوم الواقع المتعارف عليه عند ذاك نؤمن بوجود يقوم على الاستيهام و الإحالة .
لا يمكن إذن لأية إستراتيجية مفهومية تتوخى بحق الاشتغال على جماجم أتعبها تأريخ النهائي و المطلق ، دون هذه المتانة الفكرية التي تجعل من المفهوم هندسة للمتحول و الذي قد ينطوي على واقع أخذ منا كل شيء إلا الجسد المؤجل . لعبة المفاهيم هاته لا تفترض ترويضا للمتشتت حتى في أقصى احتمالاته و لكنه في الأساس تموقع للجسد . ينبثق عن ذلك المعادلة التالية : المفهوم صياغة زمانية للجسد ، في حين أن الجسد و هو يأخذ بعدا مفهوميا قد يلغي الآخرية من أجل تحقيق الأولية .
لقد أثبتت التجربة الفلسفية ليس فقط قدرة على تفكيك ملامح التراجيديا الفردية في علاقتها بـ : العالم و الزمان و الموت ، بل أكدت على المستوى المعرفي ، أن السياق الوجودي يحتم فعلا استنبات مجموعة من الشروط الفكرية بإمكانها التقاط معطى الفراغات الذي يصيغ أولا و أخيرا حقيقة الذات الإنسانية من خلال نزوعها اللانهائي نحو تحقق الموت .
في إطار لعبة التجاوز هاته و تجاوز التجاوز ، تبدأ الفلسفة بالجسد و تنتهي بالموت . بين هذا و ذاك مسافة زمانية تصاغ فيها الأسئلة و القضايا الكبرى التي تشكل بناءاتها المفاهمية مقدمة حتمية لأي تجربة مجتمعية تتوخى حقا رد الاعتبار للإنسان و جعله محور أي تفكير في المستقبل . ليس المهم إعطاء إجابات حاسمة و لكن القدرة على طرح الأسئلة و وضع شروط للتفكير يمكنها خلق مجموعة من المسارات الجديدة .
قدر الفلسفة هو جعلها من اللحظية معطى تراجيديا ، بمعنى أن القائم يستتبع حتما و بالضرورة ، انفلاتا للجسد ، و بالتالي فكل صياغة أو تأطير وضع نهائي ، يعتبر سلبا و انتفاء لهذه الخاصية المبدعة التي تميز الموقف الفلسفي ، مادام أن الفلسفة تتجاوز كل الممكنات و تنحت لنفسها سبيلا ، أم أن ظل الجسد في انفلاتاته الدائمة يشكل الإرساء الذي يرسم أفق كينونتنا الناغلة و القابعة بين دواليب منظومات القيمة و الأحكام الماقبلية . و هو جسد تبدو هويته غير واضحة ، لأن معالم الاشتغال و التحرك عنده تتعدد و تتداخل ، انطلاقا من منطق تكثفه أساسا الجدلية الكبيرة : السؤال / الموت و المحكومة بقاعدة تقوم على الحدود التالية : حينما نتساءل فإننا نستحضر الموت ، ليس كلعبة للصمت و لكن كأفق للتأسيس . سنتجاوز هنا المناخ اللغوي للبيولوجيا و الفيزيقا و الشعائر و الطقوس و القدر و المصير . من أجل تمثل قيمة الفراغات الوجودية باعتبارها إمكانات مضمرة ، حيث نطرح على ضوء ذلك التساؤلات التالية : أين توجد حقيقة العالم في الموجود أو اللاموجود أو فيهما معا ؟ و هل الموجود قائم لأن السؤال جعل من الموت هامشا للاختلاف ؟ أم لأن اللاموجود غير قادر على التموضع دون سؤال يدوي بين ثنايا القائم ؟ .
كل ذات هي العالم ، و العلائق المؤسسة لانسياب مسار الأشياء تخلق وهما كبيرا اسمه مبدأ الواقع . بمعنى آخر حينما أدخل في مجموعة من التصادمات " ليست بالضرورة عنيفة " مع الآخرية .
و انطلاقا من مبدأي الاتفاق و الاختلاف . فإن الدوائر المتاحة للذات في الهناك ، تعطي لمبدأ الواقع فهما و حيزا نسبيا تختلف دلالته من موقع لآخر . بل إن أقصى نتيجة لذلك هو تفكيك رهان الوحدة و الفهم و اللغة و المرجعية و الإدراك ، آليات من بين أخرى تتوخى بالأساس الحصر و الضبط و التقنين .
موقع الفلسفة من كل ذلك هو أنها تؤسس لأفق لغوي آخر مغاير ، و ترسم لمسار جديد ، يبحث عن آليات التداخل و الترابط الصميمي بين الذات و السؤال و الموت . لقد أعلنا سابقا أن فراغات الوجود تبقى ملتبسة داخل التقليد اللغوي الذي يفكر بمنطق التماثل . في حين أنه مع الانهيار و التجاوز ، فإنه لا شرط للذات إلا بالسؤال . و بينما يتحول الموت إلى تحقق متعدد و لانهائي للجسد مع التقليد السابق كذلك ، يتم استحضار الموت باعتباره إما خللا وجوديا أو شرا ميتافيزيقا ، و إما كمسار أولاني يلتقط به كل جسد جسده بعد مجموعة من الاحتمالات المصاحبة لهذا الجسد و التي تبعده بشكل أو بآخر عن التموضع .
الفلسفة سؤال الذات من أجل الموت . تجربة الوجود ، يمكن أن تختزل بأكملها في درجة تماس بين هذه الممكنات و بالتالي إذا فككنا هذه العلاقة من زاوية أخرى فإننا سنضع أيدينا على الجذر الخاطئ للوجود . ذلك أنه حينما ينتفي سؤال الفلسفة فإن موت الذات يتحول إلى مصير . تماهي الفلسفة بالفراغات يكثف الاحتمالات و الممكنات ، و يأخذ الوجود حيز العدم الذي تحول بدوره من مجرد قيمة نافية و سالبة إلى تمركز مطلق للجسد .
أين يتموضع هذا الجسد بالفلسفة ؟ لاشك أن جل الثقافات الإنسانية تتكلم عن الجسد بنوع من الارتياب إن صح التعبير و تربطه بكل أشكال السوء و الرذيلة .
نخشى من العري لأنه ينهض على قيمة التأسيس . الفلسفة بدورها ظلت موضع إقصاء طيلة تاريخها . ذلك أنه لا يمكن لأي متفلسف التحدث إلى الجماعة ، دون أن يزعج منظومتها . نواة الفلسفة هو السؤال ، حيث يشكل العراء ماهيته . بالسؤال نكتشف أن لاشيء يجمعنا بالوجود إلا الصمت . وحدها اللغة تدحض اليقينات و تحطم التأسيسات و تتجاوز البديهيات . الفلسفة لغة بامتياز ، و الفيلسوف يخصب اللغة إلى أقصى دلالاتها . لذلك ليس صدفة أن ترتبط اللغة مع الحرية بشكل حميمي ، و بالتالي ازدهار الفكر الفلسفي و الممارسة الفلسفية داخل المجموعات الإنسانية الحرة . كما أنه كلما ازدادت مساحة حرية الذات الإنسانية ، إلا و أصبح تمثلها للمحيط أكثر جرأة و شجاعة . الجسد الحر يداعب الوجود بلغة مفصولة عن السياق التداولي العام . لأن هذه الأخيرة تبقى مرتبطة و ملتصقة بمحددات و ثوابت تدرك العالم انطلاقا من المعطيات التي يقدمها هذا العالم عن نفسه . و حدودها و مركباتها تظل في غالب الأحيان نسبية و قاصرة عن ملامسة الماهيات الحقيقية . اللغة اليومية تعكس في غالب الأحيان طريقة التفكير السائدة . و أعتقد بأن كل مجموعة إنسانية ، غالبا ما توظف لغة تستمد مفاهيمها من تجربة تقوم على الإقصاء و الحصر لممكنات الوجود اللانهائية . إن ما يعطي مبررا لواقع ما هو المنظومة التي تتوزعها ثنائية الإيجاب و السلب ، القبول و الرفض .
يتجاوز الجسد مع الفلسفة كل التواءات الوجود ، لأن حمولة السؤال بتحطيمها للحظي ، يلغي بناءات الآخرية و التي تستثمر مسألتين أساسيتين من أجل تعضيد بنية الوجود : اللغة الواصفة ، و المنظومة المجتمعية . و أكثر ما يفترضه ذلك هو البداهة و الوضوح و التماثل و التمثل و الاتفاق و الفهم . قيم و معادلات ، نلاحظ بأنها تغيب في شروطها التفكيرية العامة شيء اسمه المحتمل الفلسفي و الذي يراهن بدوره على امتلاء الجسد . الآخر يلغي الجسد بقوة لأنه يلاحق كل فراغات الذات ، و هي الدوائر التي يمكن من خلالها صياغة الوجود على قاعدة الجسد / الموت .
لا شك أنه في ورطة تفكيك الوجود ، غالبا ما نؤسس المكون المعاكس انطلاقا من مفاهيم تأخذ مشروعيتها الدلالية من اللغة الواصفة و من البنيات النظرية التي تجد جذورها في منظومة الإقصاء و السلب . بمعنى آخر ، إننا نتوخى إعطاء الوجود منحاه الأولاني ، إلا أنه بمفاهيم الوحدة و النموذج . نحس و كأننا نعيد الكرة و بالتالي نسقط في نفس الخطاب المتكرر . الحل الإجرائي لذلك هو الاتفاق على تجربة مفهومية جديدة ، تشتغل وفق منطق الارتياب و التجاوز . و هكذا فحينما نتحدث عن الجسد أو الموت أو السؤال أو الامتلاء أو الفراغ . إننا ننزعها من إطارها النظري المتداول في التقدير و الصياغة . المفاهيم التقليدية و المرتبطة أساسا بالسياقات الاجتماعية القائمة على التنميط و النمذجة ، تظل قاصرة إن لم نقل عاجزة عن استنبات الآفاق الفكرية الجديدة التي تلحقنا بالصيرورة الكبيرة للوجود . المفهوم كعائق يعكس ، في أبعاده الابستيمولوجية ، أزمة فكر و ذوات تلتصق بالقائم دون القدرة على استشراف المابعدي . فيتحول التاريخ إلى لحظة مكتملة و الذات تصبح تسويقا لنماذج جاهزة مطلقة على مستوى التأسيس .
الفيلسوف يُعدم / ينتحر / يهمش اجتماعيا أو يسجن ، لعبة الجسد هنا تأخذ قيمتها الطبيعية . الموت تمحور حول الجسد و العزلة تكثيف للجسد ، و بين الموت و العزلة تنكشف الأسئلة الكبرى التي تلغي كل القيم و المواضعات التي تفترضها مجموعة إنسانية . يأخذ الجسد مع الفلسفة منحيين ، قد يكون في لحظة ما ، الدائرة الوحيدة للانزواء ومن ثم الدفاع و استباحة الأفكار المألوفة ، و من جهة ثانية فإنه يمثل المصدر الأساسي و الجوهري لكل موقف فلسفي . حينما ينفلت جسد الفيلسوف منه ، فإنه يتحول إلى مجرد مؤرخ أو مدرس يجتر الأفكار و يكررها و تصبح معه الفلسفة قيمة قبلية .
الاتصال الأول بالعالم يتأتى عن طريق الجسد ، لحظات الولادة و الموت ترسم المسار الأنطولوجي . لكن ما هو المقياس الذي يعطينا إمكانية الفصل بين الممكن الفلسفي و غيره ؟ نظرا لأن كل البشر قد يخضعون لنفس السلطة البيولوجية . اختلاف الفعل الفلسفي و مغايرته للأفعال الفيزيقية الأخرى ، يتأتى بالأساس من طبيعة الحيز الذي يأخذه الجسد ، ليس ككتلة مادية لها مجموعة من الخصائص المادية . و لكننا نقصد هنا ، طبيعة التوظيف الجديد للمسار الأنطولوجي من أجل تحويل قيم الهناك أي الآخرية بكل تلاوينها إلى وجود أولاني للذات . إنها ليست قضية وعي وجودي ، أو مجرد شعور يتأرجح بين مجموعة من الأحاسيس . وجود الذات يتجاوز كل ذلك ، فهي قضية موقف و مصير بل و قطيعة كبرى مع وجود الولادة البيولوجية . وحده الفيلسوف يتماهى بالجسد إلى أقصى تجلياته ، إيمانا منه بأن مصير الفكر الحر يجد حمولته المبدعة في الجسد المختلف مع ذاته و القابع في زمان الفراغات . لا فلسفة بدون جسد و بالأخص المنفلت منه .
حينما نتجاوز السؤال كقيمة إبستيمولوجية ، فإننا نصل إلى حلقة من الصعب الحسم في إحداثياتها المكانية و شروطها الزمانية . يتعلق الأمر بطبيعة المساحة التي يمكن أن تأخذها علاقة الجسد بالسؤال ثم ارتباط الفلسفة بهذه التماثلات . يتأسس الجسد بالسؤال في حمولته المطلقة و في نفس الآن ، فإن الجسد يستحضر و قائعيته الناغلة من خلال متواليات السؤال . الوصول إذن إلى العلاقة التالية : " السؤال جسد غائب ، و الجسد سؤال تم تحيينه " . بقدر ما تدفعنا إلى الكشف عن حدود و ممكنات و كذا آليات هذا الاشتغال الأنطولوجي الفذ ، و الذي سيجد حتما في الفلسفة مدارا أوليا ، فإنه يلغي في أحيان كثيرة – مسألة مقصودة – لحظة القبض على الوجود بما هو موجود .
السؤال وجود مؤجل . و الفلسفة لها القدرة المعرفية و النظرية على تحويل هذا المؤجل المفارق إلى إمكانية نافية ، ضدا على البداهة و الإثبات و الوضوح . كقيم فكرية تجد مشروعيتها في المجتمع القائم على مفاهيم اللغة الواصفة ، تجد الفلسفة ذاتها في وضعية الباحث الدائم و باستمرار عن الجسد ، لأنه الإمكانية الوحيدة للسؤال . ليس فقط وجودنا غير مدرك و ما يؤكد ذلك هو التاريخ ، و لكنه بالضرورة يقوم على مجموعة من الإكراهات تتوخى لذاتها شكل مسوغات و مبررات ، تفترض لديمومتها تحول الجسد إلى مجرد آخرية . وجود أولاني للجسد . يجعل من الزمان الذاتي تأسيسا و خاصة " تنويعا " لماهية الموت .
تعالق الفلسفة بالسؤال يقود إلى تعديم للتعددية الفالتة من الذات ، امتياز للجسد و خلق جديد للغة ، و تحول للعالم من سقفه اللغوي – العالم كائن لغوي بامتياز – إلى تجربة مباشرة للتحقق.
في التقليد القديم و ارتباطا بالمنظومات المفهومية المطلقة و الواحدية ، لا يمكن التحدث عن الموت دون استحضار تجربة عبثية العالم و لاجدواه . الموت نهاية حتمية ، قدر بيولوجي يضع الذات في حرج من أمرها : كيف يمكن تحويل العالم إلى مجال للاشتهاء ؟ و في نفس الوقت الإسراع به نحو اندثاره . جدلية التحقق و الانفلات ، مع الفهم الميتافيزيقي لها ، تعطي للموت أفقا سلطويا بالمفهوم المادي و الرمزي . حتمية الموت داخل المسار الوجودي ، تجعل منها قضية يصعب في كثير من الأحيان وضع الأصبع على حدودها .
التفكير الفلسفي يحل الإشكال من خلال إعادة تشكيل العلاقة الأنطولوجية بين الجسد والسؤال . ذلك أن المنفلت و الذي يأخذ صفة موت في التفكير اللافلسفي ، يرتبط بشكل أو بآخر بل في صميميته بمجموع السياقات التي تختلف عن ذاتها و تعطي لمفهوم الهوية قيمة تعددية . إذن سؤال الجسد بمنطق ارتيابي فلسفي ، و بتجاوزه الدائم للحظي المؤسس – على وهمية ذلك – لكل إمكاناته يكشف عن الموت لكن كإبداع و خلق . الموت ليست نهاية و لا عدما و لا قطيعة مع الوجود . إنه سياق للذات تعطي من خلاله لتجربتي المكان و الزمان حمولة مفهومية تقطع مع التصور الفيزيائي جاعلة من الآخرية المتعددة في الهناك مجرد مسوغ نسبي للوجود الخطأ . الموت يعطي للتعدد مطلق دلالته ، و ذلك بموضعته للذات في مسار وجودي أولاني . الانفلاتات السابقة هي في الأصل وازع انطولوجي للتحقق ، إلا انه يحدث الإخفاق . موت الفلسفة يقوي كثيرا من أطروحة الموت البيولوجي ، و بالعكس من ذلك فإن سؤال الفلسفة يجعل من الموت ديناميكية للوجود .
حينما نتحدث عن علاقة الفلسفة بذاتها ، فإننا نفترض مسألتين أساسيتين : إحداهما تعطي إمكانية منفتحة بشكل مطلق ، على ماهية الفلسفة التي يمكن أن تعود إلى السؤال و الجسد و الموت أي الثالوث المفاهيمي الذي بإمكانه موضعة الذات كحقيقة أولانية ، يتعلق الأمر بالفلسفة كتاريخ ، و تجربة عينية تلتصق بانفتاحات الجسد في تعالقاته المتعددة . من الناحية المعرفية يشتغل الفيلسوف داخل هذا الموقع و هو لا يعبر إلا عن براءة السؤال . الفلسفة / التاريخ ، تشتغل على مساحة الوجود بأرضية مفاهيمية تتماسك وفق منطق للتعديم على المستوى الأنطولوجي . و بالتالي فإن آلة المفهوم تأخذ في هذا السياق ، أقصى درجات الإبداعية و الإنتاجية . عملية لا تتم بشكل عشوائي ، و تبعا لانسياب عبثي . بل الأمر في حقيقة الأمر يسعى إلى التماثل بشكل واع أو بغير وعي مع مسارات الذات في البحث عن الأولوية . المفاهيم هنا لا تحل في ذاتها بشكل مطلق . هناك دائما رخاوة في السيلان و الانسياب . و المفهوم لا يقتضي في تعريفه مجموع حمولته النظرية . إنه يشتغل داخل الفلسفة بانفتاحية كاملة .
المسألة الأخرى ترتبط أساسا بمسار ثان للفلسفة أي حينما تتحول إلى عملية تأريخية ، حيث تتحدث الفلسفة عن ذاتها بمنطق الاكتمال . الشرط المعرفي لذلك يأخذ وجهين ، تحولها المؤسسة من جهة إلى شعبة و قسم للتدريس . فتفقد الفلسفة الأفق الفكري ، الذي يجعل منها علما كونيا للذات و الوجود . و يتحول الفيلسوف مع هذا السياق الجديد إلى ملقن للمعارف أكثر منه " محارب " عتيد . و من جهة ثانية فإن الفلسفة و هي تؤرخ لمفاهيمها ، تغيب في لحظات كثيرة منطق الاختلاف واللاثماتل ، و الذي يراهن بدوره على الماهيات المحتملة سبيل الذات الوحيد للانكشاف على الوجود / الجسد .
ـــــــــ
ورقة عن الوجود
اللوحة : إسماعيل فتاح الترك
كل شيء يستحق الانتباه ، حتى طريقتنا في الأكل لأن الذات محكومة بمنظومة سلوكية ترتبط بحمولة معرفية معينة . و في نفس الآن ، فإنه لا شيء يمكن أن يبتغي لذاته قيمة تحديدية ، مادامت الإخفاقات و التلاشيات و كذا الانهيارات تبقى التأسيس الوجودي لزمان ذاتي قدر ما تتوخى منه هو : موتنا .
أي لعبة فكرية يمكنها إذن إيجاد سبل لهذا الاختلاف / التأسيس ، بمعنى السلب الذي يتشكل داخل منظومة لها قوام الزمان و المكان . وحده الفكر المتسائل يمكنه الكشف عن كل ما يؤسس الوهمي ، ذلك الذي يجعل من المظلة الوجودية شجرة لأحلامنا . و السؤال ليس حصيلة معرفية لملاحظات قبلية و لا موعظة نظرية نتدرب عليها مثلما نمارس رياضية يومية ، و لا حتى تنميقا مفهوميا واعيا أو لاواعيا لأزمة وجودية – مادام أن الإخفاق وحده مؤشرنا إلى جدلية التحقق و الانهيار – السؤال هو جسدنا العاري ، تحدده كيمياء الولادة و الموت . بدون السؤال سيظل الوجود لعبة قذرة تسقط على رؤوسنا فتجعل من أجسادنا بقايا لمقدمات تعلن منذ الوهلة الأولى ، على أن الرحلة ستكون هذه المرة يائسة .
تصنف المؤسسة التعليمية كل فكر يلهث وراء موته بالعدمية ، و تحدد كل اشتغال نظري لا يجد لذاته قواعد الإرساء بالفلسفة ، أي تلك الأعمدة المفاهيمية التي تنصب المشانق في كل مكان حتى تعطي للحياة دورتها الكاملة . العقول الكبيرة تخشى على نفسها تيبس الشرايين ، فيحولها ذلك إلى مجرد شحنة انفعالية لممكنات لم تجد بعد لها مسلكا نحو الآخرية الممتلئة التي حولت العدم من زمن ملغى باستمرار إلى موقف يجعل العالم بأكمله بين قوسين في أفق تحقيق الأولانية الأنطولوجية للذات .
بالنسبة للمؤسسة ، الفلسفة قيمة فكرية لاغية لأنها تبحث في الأسس و بالتالي ستصل من خلال ذلك إلى استنبات قيم المغايرة التي تؤمن بالانهيار . تتأسس حقيقة العالم الأبدية من وجهه نظر المؤسسة على جعل هذا العالم قائما حتى و إن كان على رجل واحدة مادام أن الطريق إلى أنفسنا لا يكون دائما مضمون النتائج .
يجعل الفيلسوف من المقدمات نتائج لحصيلة فكرية تتأسس على مستوى درجة لا تتحمل أي مؤشر . بين هذا و ذاك تقوم الفلسفة بواجب إيجاد مراعاة يمكن حتما من خلالها إعطاء السؤال هذه القدرة الهائلة على الامتلاء . من خلال ذلك ، كيف يمكن إذن الجمع بين إستراتيجية نظرية قائمة على الاحتمال و التجاوز إلى الممكن ثم إيجاد الفعل الآدمي الذي بإمكانه صياغة معادلة تبدو للكثيرين شذوذا اجتماعيا . التضخم اللغوي لا يعطي بالضرورة فعلا مبدعا . صحيح أن اللغة تتمثل بقوة الحمولة المتعددة للعالم و الآخر ، و بالتالي تقوم على إستراتيجية الإرجاء التي تجعل من بنية السؤال مسارا تأسيسيا .
كيف يمكن أن نؤسس اختلافنا داخل بنية فكرية مؤسسة على الواحدية المطلقة ؟ هل العقل وحده بإمكانه خلخلة الصياغة النمطية لمجموعة تعتقد أن ذاتها لا يمكن أن تشكل حيزا للفراغ ؟ أم أن ظل الجسد في انفلاتاته الدائمة يشكل الإرساء الذي يرسم أفق كينونتنا الناغلة و القابعة بين دواليب منظومات القيمة و الأحكام الماقبلية .
الفلسفة لها القدرة على تكثيف اللماذات التي تحول انسيابنا الوجودي إلى تأرجحات زمانية تعانق في كل لحظة اللامتناهي أو الممكن . صحيح ، أن جدلية السؤال و الجواب قبل أن تحول حياتنا إلى موت لمجموعة من التحققات - تلغي الجسد أولا و أخيرا – ترسم آثارا للتعديم . و العدم هنا ليس موتا فيزيقيا و لكنه الحيز الزماني الذي يمكن أن يأخذه السؤال بعد لحظة اختلال في مفهوم الواقع المتعارف عليه عند ذاك نؤمن بوجود يقوم على الاستيهام و الإحالة .
لا يمكن إذن لأية إستراتيجية مفهومية تتوخى بحق الاشتغال على جماجم أتعبها تأريخ النهائي و المطلق ، دون هذه المتانة الفكرية التي تجعل من المفهوم هندسة للمتحول و الذي قد ينطوي على واقع أخذ منا كل شيء إلا الجسد المؤجل . لعبة المفاهيم هاته لا تفترض ترويضا للمتشتت حتى في أقصى احتمالاته و لكنه في الأساس تموقع للجسد . ينبثق عن ذلك المعادلة التالية : المفهوم صياغة زمانية للجسد ، في حين أن الجسد و هو يأخذ بعدا مفهوميا قد يلغي الآخرية من أجل تحقيق الأولية .
لقد أثبتت التجربة الفلسفية ليس فقط قدرة على تفكيك ملامح التراجيديا الفردية في علاقتها بـ : العالم و الزمان و الموت ، بل أكدت على المستوى المعرفي ، أن السياق الوجودي يحتم فعلا استنبات مجموعة من الشروط الفكرية بإمكانها التقاط معطى الفراغات الذي يصيغ أولا و أخيرا حقيقة الذات الإنسانية من خلال نزوعها اللانهائي نحو تحقق الموت .
في إطار لعبة التجاوز هاته و تجاوز التجاوز ، تبدأ الفلسفة بالجسد و تنتهي بالموت . بين هذا و ذاك مسافة زمانية تصاغ فيها الأسئلة و القضايا الكبرى التي تشكل بناءاتها المفاهمية مقدمة حتمية لأي تجربة مجتمعية تتوخى حقا رد الاعتبار للإنسان و جعله محور أي تفكير في المستقبل . ليس المهم إعطاء إجابات حاسمة و لكن القدرة على طرح الأسئلة و وضع شروط للتفكير يمكنها خلق مجموعة من المسارات الجديدة .
قدر الفلسفة هو جعلها من اللحظية معطى تراجيديا ، بمعنى أن القائم يستتبع حتما و بالضرورة ، انفلاتا للجسد ، و بالتالي فكل صياغة أو تأطير وضع نهائي ، يعتبر سلبا و انتفاء لهذه الخاصية المبدعة التي تميز الموقف الفلسفي ، مادام أن الفلسفة تتجاوز كل الممكنات و تنحت لنفسها سبيلا ، أم أن ظل الجسد في انفلاتاته الدائمة يشكل الإرساء الذي يرسم أفق كينونتنا الناغلة و القابعة بين دواليب منظومات القيمة و الأحكام الماقبلية . و هو جسد تبدو هويته غير واضحة ، لأن معالم الاشتغال و التحرك عنده تتعدد و تتداخل ، انطلاقا من منطق تكثفه أساسا الجدلية الكبيرة : السؤال / الموت و المحكومة بقاعدة تقوم على الحدود التالية : حينما نتساءل فإننا نستحضر الموت ، ليس كلعبة للصمت و لكن كأفق للتأسيس . سنتجاوز هنا المناخ اللغوي للبيولوجيا و الفيزيقا و الشعائر و الطقوس و القدر و المصير . من أجل تمثل قيمة الفراغات الوجودية باعتبارها إمكانات مضمرة ، حيث نطرح على ضوء ذلك التساؤلات التالية : أين توجد حقيقة العالم في الموجود أو اللاموجود أو فيهما معا ؟ و هل الموجود قائم لأن السؤال جعل من الموت هامشا للاختلاف ؟ أم لأن اللاموجود غير قادر على التموضع دون سؤال يدوي بين ثنايا القائم ؟ .
كل ذات هي العالم ، و العلائق المؤسسة لانسياب مسار الأشياء تخلق وهما كبيرا اسمه مبدأ الواقع . بمعنى آخر حينما أدخل في مجموعة من التصادمات " ليست بالضرورة عنيفة " مع الآخرية .
و انطلاقا من مبدأي الاتفاق و الاختلاف . فإن الدوائر المتاحة للذات في الهناك ، تعطي لمبدأ الواقع فهما و حيزا نسبيا تختلف دلالته من موقع لآخر . بل إن أقصى نتيجة لذلك هو تفكيك رهان الوحدة و الفهم و اللغة و المرجعية و الإدراك ، آليات من بين أخرى تتوخى بالأساس الحصر و الضبط و التقنين .
موقع الفلسفة من كل ذلك هو أنها تؤسس لأفق لغوي آخر مغاير ، و ترسم لمسار جديد ، يبحث عن آليات التداخل و الترابط الصميمي بين الذات و السؤال و الموت . لقد أعلنا سابقا أن فراغات الوجود تبقى ملتبسة داخل التقليد اللغوي الذي يفكر بمنطق التماثل . في حين أنه مع الانهيار و التجاوز ، فإنه لا شرط للذات إلا بالسؤال . و بينما يتحول الموت إلى تحقق متعدد و لانهائي للجسد مع التقليد السابق كذلك ، يتم استحضار الموت باعتباره إما خللا وجوديا أو شرا ميتافيزيقا ، و إما كمسار أولاني يلتقط به كل جسد جسده بعد مجموعة من الاحتمالات المصاحبة لهذا الجسد و التي تبعده بشكل أو بآخر عن التموضع .
الفلسفة سؤال الذات من أجل الموت . تجربة الوجود ، يمكن أن تختزل بأكملها في درجة تماس بين هذه الممكنات و بالتالي إذا فككنا هذه العلاقة من زاوية أخرى فإننا سنضع أيدينا على الجذر الخاطئ للوجود . ذلك أنه حينما ينتفي سؤال الفلسفة فإن موت الذات يتحول إلى مصير . تماهي الفلسفة بالفراغات يكثف الاحتمالات و الممكنات ، و يأخذ الوجود حيز العدم الذي تحول بدوره من مجرد قيمة نافية و سالبة إلى تمركز مطلق للجسد .
أين يتموضع هذا الجسد بالفلسفة ؟ لاشك أن جل الثقافات الإنسانية تتكلم عن الجسد بنوع من الارتياب إن صح التعبير و تربطه بكل أشكال السوء و الرذيلة .
نخشى من العري لأنه ينهض على قيمة التأسيس . الفلسفة بدورها ظلت موضع إقصاء طيلة تاريخها . ذلك أنه لا يمكن لأي متفلسف التحدث إلى الجماعة ، دون أن يزعج منظومتها . نواة الفلسفة هو السؤال ، حيث يشكل العراء ماهيته . بالسؤال نكتشف أن لاشيء يجمعنا بالوجود إلا الصمت . وحدها اللغة تدحض اليقينات و تحطم التأسيسات و تتجاوز البديهيات . الفلسفة لغة بامتياز ، و الفيلسوف يخصب اللغة إلى أقصى دلالاتها . لذلك ليس صدفة أن ترتبط اللغة مع الحرية بشكل حميمي ، و بالتالي ازدهار الفكر الفلسفي و الممارسة الفلسفية داخل المجموعات الإنسانية الحرة . كما أنه كلما ازدادت مساحة حرية الذات الإنسانية ، إلا و أصبح تمثلها للمحيط أكثر جرأة و شجاعة . الجسد الحر يداعب الوجود بلغة مفصولة عن السياق التداولي العام . لأن هذه الأخيرة تبقى مرتبطة و ملتصقة بمحددات و ثوابت تدرك العالم انطلاقا من المعطيات التي يقدمها هذا العالم عن نفسه . و حدودها و مركباتها تظل في غالب الأحيان نسبية و قاصرة عن ملامسة الماهيات الحقيقية . اللغة اليومية تعكس في غالب الأحيان طريقة التفكير السائدة . و أعتقد بأن كل مجموعة إنسانية ، غالبا ما توظف لغة تستمد مفاهيمها من تجربة تقوم على الإقصاء و الحصر لممكنات الوجود اللانهائية . إن ما يعطي مبررا لواقع ما هو المنظومة التي تتوزعها ثنائية الإيجاب و السلب ، القبول و الرفض .
يتجاوز الجسد مع الفلسفة كل التواءات الوجود ، لأن حمولة السؤال بتحطيمها للحظي ، يلغي بناءات الآخرية و التي تستثمر مسألتين أساسيتين من أجل تعضيد بنية الوجود : اللغة الواصفة ، و المنظومة المجتمعية . و أكثر ما يفترضه ذلك هو البداهة و الوضوح و التماثل و التمثل و الاتفاق و الفهم . قيم و معادلات ، نلاحظ بأنها تغيب في شروطها التفكيرية العامة شيء اسمه المحتمل الفلسفي و الذي يراهن بدوره على امتلاء الجسد . الآخر يلغي الجسد بقوة لأنه يلاحق كل فراغات الذات ، و هي الدوائر التي يمكن من خلالها صياغة الوجود على قاعدة الجسد / الموت .
لا شك أنه في ورطة تفكيك الوجود ، غالبا ما نؤسس المكون المعاكس انطلاقا من مفاهيم تأخذ مشروعيتها الدلالية من اللغة الواصفة و من البنيات النظرية التي تجد جذورها في منظومة الإقصاء و السلب . بمعنى آخر ، إننا نتوخى إعطاء الوجود منحاه الأولاني ، إلا أنه بمفاهيم الوحدة و النموذج . نحس و كأننا نعيد الكرة و بالتالي نسقط في نفس الخطاب المتكرر . الحل الإجرائي لذلك هو الاتفاق على تجربة مفهومية جديدة ، تشتغل وفق منطق الارتياب و التجاوز . و هكذا فحينما نتحدث عن الجسد أو الموت أو السؤال أو الامتلاء أو الفراغ . إننا ننزعها من إطارها النظري المتداول في التقدير و الصياغة . المفاهيم التقليدية و المرتبطة أساسا بالسياقات الاجتماعية القائمة على التنميط و النمذجة ، تظل قاصرة إن لم نقل عاجزة عن استنبات الآفاق الفكرية الجديدة التي تلحقنا بالصيرورة الكبيرة للوجود . المفهوم كعائق يعكس ، في أبعاده الابستيمولوجية ، أزمة فكر و ذوات تلتصق بالقائم دون القدرة على استشراف المابعدي . فيتحول التاريخ إلى لحظة مكتملة و الذات تصبح تسويقا لنماذج جاهزة مطلقة على مستوى التأسيس .
الفيلسوف يُعدم / ينتحر / يهمش اجتماعيا أو يسجن ، لعبة الجسد هنا تأخذ قيمتها الطبيعية . الموت تمحور حول الجسد و العزلة تكثيف للجسد ، و بين الموت و العزلة تنكشف الأسئلة الكبرى التي تلغي كل القيم و المواضعات التي تفترضها مجموعة إنسانية . يأخذ الجسد مع الفلسفة منحيين ، قد يكون في لحظة ما ، الدائرة الوحيدة للانزواء ومن ثم الدفاع و استباحة الأفكار المألوفة ، و من جهة ثانية فإنه يمثل المصدر الأساسي و الجوهري لكل موقف فلسفي . حينما ينفلت جسد الفيلسوف منه ، فإنه يتحول إلى مجرد مؤرخ أو مدرس يجتر الأفكار و يكررها و تصبح معه الفلسفة قيمة قبلية .
الاتصال الأول بالعالم يتأتى عن طريق الجسد ، لحظات الولادة و الموت ترسم المسار الأنطولوجي . لكن ما هو المقياس الذي يعطينا إمكانية الفصل بين الممكن الفلسفي و غيره ؟ نظرا لأن كل البشر قد يخضعون لنفس السلطة البيولوجية . اختلاف الفعل الفلسفي و مغايرته للأفعال الفيزيقية الأخرى ، يتأتى بالأساس من طبيعة الحيز الذي يأخذه الجسد ، ليس ككتلة مادية لها مجموعة من الخصائص المادية . و لكننا نقصد هنا ، طبيعة التوظيف الجديد للمسار الأنطولوجي من أجل تحويل قيم الهناك أي الآخرية بكل تلاوينها إلى وجود أولاني للذات . إنها ليست قضية وعي وجودي ، أو مجرد شعور يتأرجح بين مجموعة من الأحاسيس . وجود الذات يتجاوز كل ذلك ، فهي قضية موقف و مصير بل و قطيعة كبرى مع وجود الولادة البيولوجية . وحده الفيلسوف يتماهى بالجسد إلى أقصى تجلياته ، إيمانا منه بأن مصير الفكر الحر يجد حمولته المبدعة في الجسد المختلف مع ذاته و القابع في زمان الفراغات . لا فلسفة بدون جسد و بالأخص المنفلت منه .
حينما نتجاوز السؤال كقيمة إبستيمولوجية ، فإننا نصل إلى حلقة من الصعب الحسم في إحداثياتها المكانية و شروطها الزمانية . يتعلق الأمر بطبيعة المساحة التي يمكن أن تأخذها علاقة الجسد بالسؤال ثم ارتباط الفلسفة بهذه التماثلات . يتأسس الجسد بالسؤال في حمولته المطلقة و في نفس الآن ، فإن الجسد يستحضر و قائعيته الناغلة من خلال متواليات السؤال . الوصول إذن إلى العلاقة التالية : " السؤال جسد غائب ، و الجسد سؤال تم تحيينه " . بقدر ما تدفعنا إلى الكشف عن حدود و ممكنات و كذا آليات هذا الاشتغال الأنطولوجي الفذ ، و الذي سيجد حتما في الفلسفة مدارا أوليا ، فإنه يلغي في أحيان كثيرة – مسألة مقصودة – لحظة القبض على الوجود بما هو موجود .
السؤال وجود مؤجل . و الفلسفة لها القدرة المعرفية و النظرية على تحويل هذا المؤجل المفارق إلى إمكانية نافية ، ضدا على البداهة و الإثبات و الوضوح . كقيم فكرية تجد مشروعيتها في المجتمع القائم على مفاهيم اللغة الواصفة ، تجد الفلسفة ذاتها في وضعية الباحث الدائم و باستمرار عن الجسد ، لأنه الإمكانية الوحيدة للسؤال . ليس فقط وجودنا غير مدرك و ما يؤكد ذلك هو التاريخ ، و لكنه بالضرورة يقوم على مجموعة من الإكراهات تتوخى لذاتها شكل مسوغات و مبررات ، تفترض لديمومتها تحول الجسد إلى مجرد آخرية . وجود أولاني للجسد . يجعل من الزمان الذاتي تأسيسا و خاصة " تنويعا " لماهية الموت .
تعالق الفلسفة بالسؤال يقود إلى تعديم للتعددية الفالتة من الذات ، امتياز للجسد و خلق جديد للغة ، و تحول للعالم من سقفه اللغوي – العالم كائن لغوي بامتياز – إلى تجربة مباشرة للتحقق.
في التقليد القديم و ارتباطا بالمنظومات المفهومية المطلقة و الواحدية ، لا يمكن التحدث عن الموت دون استحضار تجربة عبثية العالم و لاجدواه . الموت نهاية حتمية ، قدر بيولوجي يضع الذات في حرج من أمرها : كيف يمكن تحويل العالم إلى مجال للاشتهاء ؟ و في نفس الوقت الإسراع به نحو اندثاره . جدلية التحقق و الانفلات ، مع الفهم الميتافيزيقي لها ، تعطي للموت أفقا سلطويا بالمفهوم المادي و الرمزي . حتمية الموت داخل المسار الوجودي ، تجعل منها قضية يصعب في كثير من الأحيان وضع الأصبع على حدودها .
التفكير الفلسفي يحل الإشكال من خلال إعادة تشكيل العلاقة الأنطولوجية بين الجسد والسؤال . ذلك أن المنفلت و الذي يأخذ صفة موت في التفكير اللافلسفي ، يرتبط بشكل أو بآخر بل في صميميته بمجموع السياقات التي تختلف عن ذاتها و تعطي لمفهوم الهوية قيمة تعددية . إذن سؤال الجسد بمنطق ارتيابي فلسفي ، و بتجاوزه الدائم للحظي المؤسس – على وهمية ذلك – لكل إمكاناته يكشف عن الموت لكن كإبداع و خلق . الموت ليست نهاية و لا عدما و لا قطيعة مع الوجود . إنه سياق للذات تعطي من خلاله لتجربتي المكان و الزمان حمولة مفهومية تقطع مع التصور الفيزيائي جاعلة من الآخرية المتعددة في الهناك مجرد مسوغ نسبي للوجود الخطأ . الموت يعطي للتعدد مطلق دلالته ، و ذلك بموضعته للذات في مسار وجودي أولاني . الانفلاتات السابقة هي في الأصل وازع انطولوجي للتحقق ، إلا انه يحدث الإخفاق . موت الفلسفة يقوي كثيرا من أطروحة الموت البيولوجي ، و بالعكس من ذلك فإن سؤال الفلسفة يجعل من الموت ديناميكية للوجود .
حينما نتحدث عن علاقة الفلسفة بذاتها ، فإننا نفترض مسألتين أساسيتين : إحداهما تعطي إمكانية منفتحة بشكل مطلق ، على ماهية الفلسفة التي يمكن أن تعود إلى السؤال و الجسد و الموت أي الثالوث المفاهيمي الذي بإمكانه موضعة الذات كحقيقة أولانية ، يتعلق الأمر بالفلسفة كتاريخ ، و تجربة عينية تلتصق بانفتاحات الجسد في تعالقاته المتعددة . من الناحية المعرفية يشتغل الفيلسوف داخل هذا الموقع و هو لا يعبر إلا عن براءة السؤال . الفلسفة / التاريخ ، تشتغل على مساحة الوجود بأرضية مفاهيمية تتماسك وفق منطق للتعديم على المستوى الأنطولوجي . و بالتالي فإن آلة المفهوم تأخذ في هذا السياق ، أقصى درجات الإبداعية و الإنتاجية . عملية لا تتم بشكل عشوائي ، و تبعا لانسياب عبثي . بل الأمر في حقيقة الأمر يسعى إلى التماثل بشكل واع أو بغير وعي مع مسارات الذات في البحث عن الأولوية . المفاهيم هنا لا تحل في ذاتها بشكل مطلق . هناك دائما رخاوة في السيلان و الانسياب . و المفهوم لا يقتضي في تعريفه مجموع حمولته النظرية . إنه يشتغل داخل الفلسفة بانفتاحية كاملة .
المسألة الأخرى ترتبط أساسا بمسار ثان للفلسفة أي حينما تتحول إلى عملية تأريخية ، حيث تتحدث الفلسفة عن ذاتها بمنطق الاكتمال . الشرط المعرفي لذلك يأخذ وجهين ، تحولها المؤسسة من جهة إلى شعبة و قسم للتدريس . فتفقد الفلسفة الأفق الفكري ، الذي يجعل منها علما كونيا للذات و الوجود . و يتحول الفيلسوف مع هذا السياق الجديد إلى ملقن للمعارف أكثر منه " محارب " عتيد . و من جهة ثانية فإن الفلسفة و هي تؤرخ لمفاهيمها ، تغيب في لحظات كثيرة منطق الاختلاف واللاثماتل ، و الذي يراهن بدوره على الماهيات المحتملة سبيل الذات الوحيد للانكشاف على الوجود / الجسد .
ـــــــــ
ورقة عن الوجود
اللوحة : إسماعيل فتاح الترك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق