أبريل 12، 2010

جدلية النسبية

جدلية النسبية .. البيروني - ابن سينا .. آينشتاين - بوهر

لن أحاول في هذا البحث ردَّ الإنجازات التي يقدِّمها المفكرون المعاصرون إلى مجرَّد استقراءات يُجرُونها لفكر الأقدمين. ولن آخذ بمذهب من يتصور أن الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف، أو أن الأخلاف نَحَّوْا الأسلاف بإنجازاتهم المذهلة. فالبحث عن الحقيقة، والإخلاص لها، كانا – ولا زالا – المحدِّدين الرئيسيين للإنسان الحقيقي.
يشكِّل الهمُّ الوجودي العمادَ الرئيسي لبحثي. ويولد الهمُّ الوجودي مع قدوم الذات إلى العالم، ومنها يستمد تعريفه وكيانه. لقد عرفت الحياة، عبر تاريخها الطويل، نخبةً توزَّعَ أفرادُها في المكان وفي الزمان. وكان هذا الهمُّ الهاجسَ الأكبر لكلٍّ منهم؛ بل لعله كان الهاجس الوحيد. ويشكِّل المفكرون الأربعة – موضوع هذا البحث – رموزاً رئيسية في النخبة المذكورة.
إن أيَّ تقويم لسياق معرفي معين لا بدَّ أن يستند إلى قاعدة الإخلاص للحقيقة. تفرض هذه القاعدة إبرازَ كلِّ شخوص السياق. أما الإغفال أو التركيز فسيحرم كلاهما البحثَ من أية ركيزة تربطه بتلك القاعدة. اجتمع الأربعة الكبار على استشعار عفوي لنمط المعرفة المميِّزة لجنسنا، ألا وهو نمط المعرفة بالنَّمْذَجَة. ولقد أهَّلهم ذلك لدفع نماذجهم حتى حدود الكمال، على الرغم من التناقضات العميقة التي ميَّزت تلك النماذج.
نفرِّق هنا بين "النموذج الباطن" وبين "النموذج الظاهر". على أننا سنتطرَّق، أولاً، إلى مفهوم النموذج. لا يستطيع أيٌّ منَّا إلا أن يكون هو ذاته؛ إنه يعجز أن يكون أيَّ شيء آخر. إذا تحدثتُ عن الإلكترون أو عن الصديق أو عن السماء فإنما أتحدث عن النماذج الفيزيائية–النفسية لتلك الكينونات في ذهني، لا عن الكينونات الخارجية بحدِّ ذاتها. وحتى إذا أجريت حواراً مع الآخر فإنما أحاور، في واقع الأمر، نموذجَه في عقلي.
أدعو مجمل ما أتحسَّسُه وما أستبصرُه في داخلي لكلِّ ما يعنيه مصطلحُ الوجود، بشكل عام، أو مصطلح كينونة معينة، على نحو خاص – أدعو ذلك المُجمَل النموذج الباطن. إن المعرفة بالنمذجة هي معرفة ناقصة على الدوام مادام هناك انفصال بين أداة المعرفة وبين مادَّتها. من هنا كان لا بدَّ من حدوث إسقاط خارجي للنموذج الباطن. ويأخذ هذا الإسقاط هيئة النموذج الظاهر؛ وبعبارة أخرى: النموذج الظاهر هو "طيف" النموذج الباطن.
يشبه النموذج الظاهر الحدود الواضحة المعالم لكتلة هيولية. وبينما يتميَّز النموذج الباطن الذي هو الكتلة الهيولية بالشمولية والحيوية، يُختزَل النموذج الظاهر إلى صيغ يُعبَّر عنها بالمفردات اللغوية السائدة. وفي حين أستشعر كلَّ تفاصيل نماذجي الباطنة، لا بل وأذهب إلى حدِّ تصور عموميَّتها واضطرامها بالحياة، لا أجد مناصاً من اللجوء إلى لغة أو أكثر لصبِّ نماذجي الباطنة تلك. والنتيجة أن النماذج الظاهرة الناتجة تأتي صقيلة مُحكمة، لكنها لا تترجم النماذج الباطنة بأمانة. تبقى النماذج الباطنة عصيَّة على الترجمة الخارجية المطلقة، ما لم تتحول أداة المعرفة إلى التواحد مع مادتها.
كان اختراع الرياضيات أهم إنجاز في تاريخ ارتقاء عملية المعرفة بالنمذجة. فقد استطاعت الرياضيات تحقيق مقابلة أو أكثر بين مجموعة من نقاط الكتلة الهيولية للنموذج الباطن وبين عنصر أو أكثر من عناصر النموذج الظاهر. تتأكد مقولتُنا عن المعرفة بالنمذجة في إطار استخدام الرياضيات بالذات. يبدو النموذج الرياضي الظاهر مجموعة باردة، لا حياة فيها، من الرموز. إلا أن تعلُّم قواعد التعامل مع هذه الرموز يسهِّل تسهيلاً بيِّناً مهمةَ التفاعل مع النموذج الباطن؛ ويبقى هذا التفاعل مجرد تماس نظراً لما تقدَّم.
يتفتق النموذج الرياضي الظاهر، عند استبطاني إياه، عن معانٍ ومزايا كانت تبدو مفتقَدة عندما كان النموذج ذاته قابعاً بعيداً عني "هناك". تتجسد تلك المعاني والمزايا بما أستشعره، مثلاً، من خوف وتوجُّس لدى مواجهتي الأولى للنموذج، وبما يجتاحني من نشوة وفرح عند تمثُّلي مؤدَّى رموزه. إنني أحس أكثر وأكثر باقترابي من الكمال إن غدا النموذجُ الرياضي بدوره قريباً من الكمال. وأؤكد هنا على الفارق بين النموذج الظاهر وبين النموذج الباطن. فالعالم هو العالم الداخلي، وهو يتكون من جملة من النماذج الباطنة، عمادُها نموذج ذاتي الذي أتحسَّسه عبر شعوري بشعوري. أما النماذج الظاهرة فهي مجرد دلائل ورموز تفيد بتفاعلاتها المدفوعة من قِبَل النماذج الباطنة في استكمال هذه النماذج. كان لا بدَّ من اختراع اللغات لتشيد النماذج الظاهرة؛ واللغات كثيرة، منها اللغات المألوفة والرياضيات والموسيقى.
وتتأيد نظريتي عن المعرفة بالنمذجة بقول أينشتاين: "إن النظرية العلمية هي اختراع حرٌّ تبدعُه مخيلةُ الإنسان." وتُعرَّف الجبرية هنا بعزلة النموذج الباطن وتفرُّده.
***
قصدت من هذه المقدمة الطويلة إرساء قاعدة صلبة لبحثي. فعوضاً عن إلباس البحث ثوبَ التاريخ المقارن أستخدم مقولتي عن المعرفة بالنمذجة بهدف إجراء تحليل معمَّق لفكر كلٍّ من الأربعة الكبار وفق ما طرحه أثناء الجدل مع ندِّه. وحسبي من الجانب التاريخي أن أذكر أن جدل البيروني–ابن سينا جرى عبر رسائل متبادلة بينهما شارك فيها تلميذ ابن سينا أبو سعيد أحمد بن علي المعصومي. وتتضمن هذه الرسائل عشرة سؤالات تتعلق بكتاب أرسطو السماء والعالم وثماني سؤالات أخرى طرحها البيروني، وأجاب عنها جميعاً ابن سينا واحداً فواحداً. ثم اعترض البيروني على جوابات ابن سينا، مناقشاً من الجوابات العشرة الأولى ثمانية ومن الثمانية الثانية سبعة. أما جدل أينشتاين–بوهر فقد جرى على ثلاث مراحل: ارتبطت المرحلة الأولى بالمؤتمر الدولي للفيزيائيين الذي انعقد في كومو عام 1927 ومؤتمر سولفاي المنعقد عام 1930. تعود المرحلة الثانية إلى عام 1935 عندما تقدم أينشتاين ببحث عنوانه: "هل يُعتبَر التوصيف الكوانتي للحقيقة الفيزيائية كاملاً؟" ثم عاد أينشتاين وبوهر إلى الجدل في المرحلة الثالثة بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1949. وقد شارك كلٌّ من ماكس بورن وفون نويمان في المرحلتين الأولى والثانية من الجدل. أما المرحلة الثالثة فقد اجتذبت عدداً أكبر من الفيزيائيين، منهم بوهم وفوك وسواهما. من الطريف أن نذكر أن كلَّ المشاركين في الجدل انحازوا إلى طرف ابن سينا وبوهر؛ أما البيروني وأينشتاين فقد بقي كل منهما وحيداً يقارع الآخرين. على أية حال، لا بدَّ أن نذكر أن المواضيع المتباينة في الجدلين كانت – ولازالت وستبقى – مادة للنقاش والتأمل، ربما إلى الأبد – وإذا قبلنا بالنسبية، فإلى "الأبد المحدب"!
***
نتوقف، أولاً، عند نموذج النسبية العامة لأينشتاين: ينحني فضاء المكان والزمن بسبب المادة، فتتبع المادة بدورها المسالك المنحنية في فضاء المكان والزمن. تحفر الشمس، مثلاً، نفقاً بيضوياً هائلاً في فضاء المكان والزمن حولها، فتقع الأرض في شِراكه وتتحرك عبره دون أن تجد سبيلاً إلى الفرار. ويطرح أينشتاين نموذجاً رياضياً لهذه المفردات اللغوية المألوفة. وأول ما يلفت النظر في نموذج أينشتاين هي السمة السببية الحاسمة في حركة الدقائق المادية التي تبلغ حد القسرية. رأى البيروني بدوره أن الحركة الدائرية للفلك قد تكون بالقسر أو بالإرادة؛ ولكن الحركة الطبيعية للأجسام بالذات تكون مستقيمة. ويعني مصطلح "الطبيعية"، وفق أينشتاين، خلوَّ حيِّز معين من المادة؛ وإذ ذاك تنعم دقيقةٌ مادية مفردة بحركة مستقيمة لا انعراج فيها. لكن وجود كتل أخرى سيُخرِج الحركة عن استقامتها. إلا أن البيروني وأينشتاين يستبعدان حالة الحركة المستقيمة. ذلك أن أينشتاين يؤكد أن لا مكان بلا مادة ولا مادة بلا مكان.
بالمثل، يعتقد البيروني أن المكان لا يخلو من متمكِّن، ويضيف أن ليس شيء إلا وهو محسوس. ويريد أينشتاين والبيروني بناء عالم تتمايز أجزاؤه على نحو جليٍّ وواضح وتعرِّف، بتمايزها ذاك، العالمَ. وتتبادل هذه الأجزاء أو اللبنات الإشاراتِ والرسائلَ المثبتة لوجودها وفق أكبر سرعة كونية مسموح بها، ألا وهي سرعة الضوء. نبذ أينشتاين فكرة الأثير، وتصور فضاءً أشبه بالخلاء تخلقه المادة وتسبح فيه هو المتصل الزمني–المكاني الذي تحدثت النسبية عنه. أشار البيروني إلى حقيقة أن سرعة الضوء هي أكبر سرعة ممكنة، فذكر من قال إن "حركة الشعاع تقع بزمان سريع، لكنه ليس شيء أسرع منها فيحس السرعة به". وعن انعدام الأثير ووجود الخلاء قال البيروني: "إذا تقرر عندنا أن لا خلاء داخل العالم ولا خارجه، فلِمَ صارت الزجاجة، إذا مُصَّتْ وقُلبت على الماء، دخلها الماء متصاعداً إلى آخر الفصل؟" نذكِّر في هذا السياق أن ديكارت، مؤسِّس الفلسفة الحديثة، حسب أن ليس للضوء سرعة.
يحاول أينشتاين والبيروني تجاوز النموذج الباطن وجعل النموذج الظاهر مطابقاً له، وهذا على الرغم من الموقف المسبق لكلٍّ منهما والمتركز على أولوية النموذج الباطن وإمكانية التخليق المستقل له. ولربما أن كلاً من المفكِّرين تصور علاقة سببية، تبلغ حدَّ الكمال، بين النموذجين الباطن والظاهر، استجابة لاعتقاده بكمال العلاقات الفيزيائية بين مكوِّنات العالم. وما أدرانا، فلعل سرعة الضوء هي العنصر الفعال في إحداث تلك العلاقة؛ وبواسطتها يُنقَل النموذج الباطن إلى الخارج، فيتحول النموذج الظاهر إلى نسخة مطابقة للنموذج الباطن. ولو ذهب المفكران هذا المذهب لخلصا إلى مفارقة: ذلك أن مثل هذا التصور سيبقى، في كل الأحوال، مستغرقاً في النموذج الباطن، إن لم يكن لسبب، فلاستحواذ التصور على صاحبيه. ولأنهما ذهبا هذا المذهب فعلاً فقد خلصنا إلى مفارقة، وإن كانت مفارقة غير معلَنة.
ذهب أرسطو إلى أن الحركة الدائرية للفلك طبيعية له، وركَّز ابن سينا على مفهوم الموضع الطبيعي، وخلص إلى أن للفلك موضعاً طبيعياً لأن الفلك جسم. نفى ابن سينا في مداخلة طويلة أن يكون الموضع الطبيعي للجسم فوقه أو تحته، واستنتج أن موضعه الطبيعي حيث هو ساكن فيه. أضاف ابن سينا، في فقرة غيرة معلَّلة، ما اعتبره نقداً للبيروني في سياق اعتبار الأخير الحركةَ الدائرية حركةً قسرية. ولم يحسم ابن سينا هذا الأمر على نحو جلي.
***
كان بوهر من أوائل مؤسِّسي الميكانيكا الكوانتية quantum mechanics. ولقد عمَّم هذا العلم مفهومَ الموضع الطبيعي. ويرى أتباع المدرسة الكوانتية أنه لا توجد في العالم أسباب ونتائج وفق الصورة التقليدية للعالم. على العكس، يتجسد العالم، وفق هؤلاء، في حالٍ من مجمل من الأحوال؛ ولكلِّ حال احتمال محدد. إن الحال السائدة هي الحال الأكبر احتمالاً، ولعلها تقابل الموضع الطبيعي، كما فهمه ابن سينا. واقع الأمر أن لهذا المفهوم موقعاً في الميكانيكا الكوانتية. وتتحدد طاقات الأجسام لدى تفاعلها بعضها مع بعض بسويَّات معينة تبعاً لاشتراطات الميكانيكا الكوانتية. من ذلك، مثلاً، أن الإلكترون لا يدور حول نواة الذرة في مدار من مجموعة من المدارات، بل يُحتجَز في سويَّة طاقية من أصل جملة من السويَّات الطاقية. وضمن سويَّة معطاة لا يظهر الإلكترون في مكان محدد بسرعة معينة؛ فالسويَّة الطاقية المعطاة تُعرَّف بقيمة احتمالية، هي "غيمة" رياضية مجردة، تفيدنا بالتقاء الإلكترون حسب احتمال معتبَر. تُعتبَر السويَّات الطاقية الدنيا المواضعَ المفضلة للإلكترون. وما هو أدهى في الميكانيكا الكوانتية أنه تمتنع على الإلكترون حيازةُ أية كمية من الطاقة غير مساوية لطاقة إحدى السويَّات! وهكذا فإن الانتقال من سويَّة لأخرى مستحيل؛ وما على الإلكترون إلا "القفز" بين سويَّتين لدى تحوله بينهما. بكلمات أخرى فإن الإلكترون يُجبَر على "الاختفاء" في سويَّة ليعود إلى "الظهور" في السوية الأخرى. يدعو الكوانتيون التحول من حالة لأخرى على هذا الغرار قفزة كوانتية quantum leap. وفي رأي بعضهم أن الكون ولد بقفزة كوانتية، حيث تحوَّل من حال اللاوجود إلى حال الوجود.
تحدث ابن سينا، بدوره، عن القفزة الكوانتية في جوابه عن المسألة العاشرة: "استحالات الأشياء بعضها إلى بعض ليست كما مثلت من استحالة الماء إلى هواء، بأن نضع أجزاءه تتفرق في الهواء حتى يغيب عن الحس، بل ذلك لخلع هيولى الماء صورة المائية وملابستها صورة الهوائية."
ينص "مبدأ الطاقة الأقل" على أن كل جسم يجنح إلى التخلص من كل ما يستطيع من أحماله من الطاقة باحثاً عن سوية طاقية دنيا يستقر فيها. ولعمري إنه "الموضع الطبيعي" الذي تحدث عنه ابن سينا! نلاحظ هنا تقارب النموذجين الظاهريين لابن سينا وبوهر. وما أدرانا، فقد يكون النموذجان الباطنان بدورهما متقاربين.
على أن صياغةَ استنتاج في هذا السياق، مناظر لاستنتاجنا في حالة البيروني وأينشتاين، لازال في حاجة إلى قليل من الاستطراد. على أية حال، أؤكد أنني لا أردُّ أحدَّ النموذجين إلى الآخر، لكنني ألح على آلية موحَّدة في النمذجة، أي في عملية المعرفة، على الرغم من اختلاف الثقافات، ليس في المكان فقط، بل وفي الزمان أيضاً. كانت هذه الآلية – ولازالت – فعالة في معالجة معضلة الهمِّ الوجودي – ولو جزئياً – لدى النخبة التي أشرنا إليها.
***
إن العالم، وفق الميكانيكا الكوانتية، هيولي البنية، معدوم المعالم؛ فهكذا فسَّر بوهر أطروحات هذا العلم. فوفق بوهر، تبقى كلُّ مقولاتنا عن العالم عارية عن المعنى إن لم تترافق، على نحو جليٍّ لا غموض فيه، بتوصيف كامل وجهري لأدوات التجربة التي يفضي استخدامُها إلى صياغة تلك المقولات. وهكذا تحدِّد التجربة العالم؛ وبدونها يكاد العالم أن يعدم وجوده. وعلى الرغم من أن تمايز أدوات التجربة قد يوحي للوهلة الأولى أن بوهر ذهب مذهب أينشتاين والبيروني، لكن موضوع التجربة لدى بوهر مختلف تماماً، ذلك أنه تالٍ للأداة زمنياً. وقد أيَّد بوهر رأيه ببعض الأرقام التجريبية. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، يتمدَّد الفوتون الضوئي بعيداً عن العين ليشغل حيِّزاً عرضه متر؛ لكنه يصغر وينخفض قطره حتى واحد من ألف مليون من السنتمتر عندما يلج العين. كأننا بهذين الرقمين ينبريان لتأكيد أن الفوتون لم يكن محدَّداً، وأن تجربة الإبصار ساهمت في تخليقه، إن لم تكن قد خلقته بشكل كامل. يقول ابن سينا في ذلك: "لا محسوس خلا ما يدركه الناطق."
أكد ابن سينا استحالة كلٍّ من العناصر الأربعة إلى غيره في كتاب الإشارات. فبعد أن ذكر أمثلة عليه استخرج حُكماً، فقال: "فهذه الأربعة قابلة للاستحالة بعضها إلى بعض؛ فلها هيولى مشتركة." تصور ابن سينا أن التغير يتم بخلع الجسم صورتَه وملابسته صورةً أخرى عن طريق قبول الهيولى صورةً ثانية.
نلخِّص استنتاجنا بالقول إن بوهر وابن سينا قدَّما النموذج الظاهر على النموذج الباطن. فمادامت التجربةُ هي علَّة وجود العالم سيكون النموذج الباطن تابعاً لها بلا ريب. إن تخليق العالم بعيد التجربة هو المسؤول عن تشكيل النموذج الظاهر؛ بل لعل العالم المخلَّق على هذا النحو هو النموذج الظاهر بعينه. يلد النموذجُ الظاهر النموذجَ الباطن في إثر التجربة؛ ويأتي النموذج الباطن، وفق بوهر وابن سينا، مطابقاً للنموذج الظاهر.
فات بوهر وابن سينا في ذلك كونُ النموذج الباطن مرجعاً قبل أن يكون نموذجاً. فالنموذج الباطن هو مرجع للنموذج الباطن وللنموذج الظاهر على حدٍّ سواء. وإذا كان استنتاجُنا بشأن ابن سينا قد تأتَّى على خلفية تصور ابن سينا لهيولية العالم فقد تنبَّه إلى هذه المبالغة تلميذُه المعصومي. فعلى الرغم من انتصاره لمعلِّمه، نجده يخاطب البيروني في خضم الجدل قائلاً:
إذا كانت الصورة لا تقوم إلا بالهيولى، والهيولى لا تقوم إلا بلبس صورة ما، ولا يمكن قوام أحدهما إلا بقوام الآخر، فكيف حدثت الصورة ولا مادة، أو المادة ولا صورة؛ لأنه إذا كان وجودُ كلِّ واحد منهما متعلقاً بوجود الآخر استمر بهما العدم... فلِمَ لَمْ يوجد إلا واحد منهما، وقد رأيناهما موجودين. فإذن هما موجودان في الأزل.
ومثل المعصومي فعل فوك. فعلى الرغم من انتمائه لمدرسة بوهر نجده ينظر إلى الاحتمال كسِمَة مقرِّرة مميِّزة لبُنى العالم المنفصلة المتجسدة. فوفق فوك، إن نتيجة التجربة، أياً كانت، لا علاقة لها بالوعي المجرِّب، واحتمال أن تظهر هذه النتيجة أو تلك هو قضية موضوعية صرف، مستقلة تمام الاستقلال عن الوعي المذكور. هكذا يتغير معنى الاحتمال: فعوضاً عن النظر إليه كمقياس لدرجة المعرفة أو الجهل، يغدو الاحتمال خاصة جوهرية من خصائص العالم.
لا يعود المعصومي وفوك فيما تقدَّم إلى أولوية النموذج الباطن. إن بمقدورنا اختزال محاولتيهما في التعويل على اللغة وخصائصها وحسب. فالاحتمال الرياضي، بحدِّ ذاته، يختلف عما نقوله عنه. إننا نكتب الاحتمال بلغة الرياضيات، بينما نفسره ونتحدث عنه بالمفردات الطبيعية التي تشكل حيِّزاً منفصلاً بالنسبة للرياضيات، يمكن أن ندعوه بالميتارياضيات meta-mathematics. نُجمِل أقوال المعصومي وفوك فيما يمكن أن نسميه الميتانماذج meta-patterns.
أما المفارقة الكبرى في هذا السياق فهي أن تفسير النموذج الباطن والنموذج الظاهر كلاهما إنما يجري في النموذج الباطن. بكلمات أخرى: إن الميتانموذج الظاهر هو النموذج الباطن؛ بينما الميتانموذج الباطن هو النموذج الباطن بحدِّ ذاته. إن الميتامنظومة meta-system، بصورة عامة، تقع خارج المنظومة system – ونستثني من ذلك النموذج الباطن، كما نوَّهنا للتو. ولما كانت المفردات اللغوية نابعة في الأصل من النموذج الباطن، ولما كانت صياغة النموذج الظاهر تتم في قلب النموذج الباطن باستخدام تلك المفردات، فإننا نخلص، كما ذكرنا، إلى أن ما ذهب إليه فوك والمعصومي لا يعدو كونه رؤية جديدة لعلاقة النموذجين. ومن هنا كان تصنيفنا لها في قائمة الميتانماذج.
***
هاجم البيروني أرسطو في استشناعه القائلين بالجزء الذي لا يتجزأ atomos، ودافع عن المتكلِّمين الذين يثبتونه. فأجاب ابن سينا أن أرسطو إنما اعتبر المادة قابلة للتجزئة إلى ما لانهاية بالقوة لا بالفعل. وبذلك يكون المثل الذي أوْرَدَه البيروني عن عدم الاحتمال الظاهري لجسم متحرك أن يدرك جسماً آخر بسبب وجود عدد لامتناهٍ من النقاط عليه أن يجتازها غيرَ صالح في مشكلة كهذه.
لقد بقيت مشكلة انفصال المادة أو اتصالها تشغل أفكار كثير من المفكرين على مدى العصور التاريخية المختلفة. نعود هنا إلى بحث أينشتاين الذي نشره عام 1935 بعنوان "هل يُعتبَر التوصيف الكوانتي للحقيقة الفيزيائية كاملاً؟" تصور أينشتاين في هذا البحث منظومة كوانتية مؤلفة من قسيمين particles تفاعلا في وقت سابق مكوِّنين قسيماً واحداً. تخيل أينشتاين بعد ذلك أن طبيعة التفاعل قد دفعت القسيمين إلى الانفصال والتباعُد إلى حدِّ نفي أيِّ أثر لأحدهما على الآخر. تقع فترة التفاعل وما بعدها في مجال انطباق قوانين الانحفاظ التقليدية، كقانون انحفاظ كمية الحركة وقانون انحفاظ اللف الذاتي وسواهما. يمكن، من حيث المبدأ، قياس كمية الحركة لأحد الجسمين بأية دقة؛ ويسمح تطبيق القوانين المذكورة في هذه الحالة بحساب كمية الحركة للقسيم الآخر بنفس الدقة. بالمثل، نستطيع تحديد موقع هذا القسيم الآخر بالدقة التي نرغب؛ ونشتق، بتطبيق قوانين الانحفاظ، موقع القسيم الأول بالدقة نفسها. هكذا نكون قد خلصنا إلى موقع وكمية حركة كلٍّ من القسيمين وفق أية دقة نختارها.
على أن في ذلك ما يخالف مبدأ هاماً من مبادئ الميكانيكا الكوانتية، ألا وهو مبدأ هايزنبرغ في الريبة uncertainty. ينص هذا المبدأ على أن الطبيعة تمنعنا من معرفة كمية الحركة والموقع لأيِّ قسيم وفق الدقة التي نشاء؛ ذلك أن قياس إحدى الكميتين بدقة معينة سينقص من الدقة المقابلة المحددة لقياس الكمية الأخرى. خلص أينشتاين من هذه التجربة إلى تأكيد مبدأ تمايز الأجسام المكوِّنة للعالم وعزلتها، كما برهن على أن مبادئ الميكانيكا الكوانتية ليست مبادئ صحيحة إلا على المستوى الظاهري، وأن هناك مبادئ أخرى تحكم العالم لازالت بعيدة عن متناولنا.
ردَّ بوهر على أيتشتاين بقوله إن القسيمين بعد انفصالهما سيبقيان كلاً موحداً، ذلك أنهما كانا في الأساس منظومة واحدة. وقد أكَّدت تجارب متأخرة جرت في الأعوام الماضية صحة رأي بوهر؛ ذلك أن نقل تجربة أينشتاين العقلية إلى الحيِّز الحسي أثبت أن القسيمين المنفصلين ثابرا على التصرف بعد انفصالهما وكأنهما قسيم واحد. قد يُعزى ذلك، للوهلة الأولى، إلى قصور التجربة العقلية؛ إلا أن الأمر يتعلق هنا بقصور التجربة الحسية. فأجهزة الحس تفيدنا بانفصال القسيمين، في حين أن القسيمين لازالا، في واقع الأمر، موحَّدين في كينونة مندمجة.
نحن أمام مفارقة كبرى جديدة. لو كانت التجربة العقلية قاصرة لبلغت آراء بوهر حدَّ الكمال؛ إذ إن الأولوية ستعطى للنموذج الظاهر، كما أن النجاح سيكون من نصيب المبادئ الكوانتية. لكننا أثبتنا للتوِّ أن التجربة الحسية قاصرة في وجودها، وأن أينشتاين لم يمضِ بالتجربة العقلية إلى نهايتها. كان على أينشتاين أن يتساءل: هل انفصل القسيمان فعلاً أم لا؟ تطرح الأحكامُ العقلية مثل هذه الإمكانات؛ لكن الأنماط الحسية لا تفعل ذلك. أما المفارقة التي أشرنا إليها فهي: تؤيِّد التجربةُ العقلية المنبثقة عن النموذج الباطن فكرةَ اتصال العالم. يستخدم الكوانتيون هذه الفكرة لبناء علمهم، ويخلصون منه، كما بينَّا، إلى أولوية النموذج الظاهر. بكلمات أخرى، تُفضي أولويةُ النموذج الباطن إلى نتيجة مفادها أن الأولوية يجب أن تعطى للنموذج الظاهر! إن لهذه المفارقة بعداً آخر، سنلقي مزيداً من الأضواء عليه بعد أن نعرج على مفارقة مماثلة لدى البيروني.
نقرأ في اعتراض البيروني على جواب ابن سينا في المسألة الأولى:
فليس ولا واحد من الأجسام حالاً في موضعه الطبيعي. فإذن لا يبطل بهذه المقدمات دعوى من قال "إن الفلك ثقيل" لكن اتصاله مانعٌ عن الهويِّ نحو المركز.
يعود البيروني هنا إلى الحديث عن اتصال العالم، على الرغم من أنه كان قد ميَّز مفهوم الفعل المتبادل القائم على تمايز الأجسام وعزلتها. لا شكَّ أن البيروني قد أدرك نموذج التمايز والعزلة، لاسيما أنه دافَعَ عن المتكلِّمين بالجزء الذي لا يتجزأ. نثير هنا البعد الآخر بالمفارقة لدى أينشتاين. تدعى نظرية النسبية العامة بنظرية الحقل، حيث يتوزع تأثير الفعل الثقالي بشكلٍ مستمر ومتواصل عبر حيِّز معيَّن. ولا يُعرَّف التسارع، كما قد يُظَنُّ للوهلة الأولى، لكلِّ قسيم على حدة في هذه النظرية، بل على العكس، يتحدد التسارع بمعدل انحراف الخطوط المكوِّنة للحيِّز المدروس. أما ما نلمسه من تسارع قسيم ما فما هو إلا تجسيد للانحراف المذكور.
وهكذا، بدوره، يعود أينشتاين إلى مفهوم اتصال العالم، على الرغم من الركيزة الفلسفية التي بنى عليها نظرياته والتي تختزل العالم إلى كينونات منفصلة تبلِّغ عن وجودها بأقصى سرعة مسموح بها هي سرعة الضوء.
***
ننتقل إلى البعد الآخر للمفارقة لدى بوهر. إن اتصال العالم كان المفهوم الجوهري الذي احتل المساحة الرئيسية من ردِّ بوهر على أينشتاين. لكن الاتصال هنا هو اتصال ميتافيزيائي بمعنى من المعاني. فوفق الميكانيكا الكوانتية يتكوَّن العالم من بنى منفصلة؛ وانفصال البنى لا ينجم عن تحليل معطيات أجهزة الحس أو أدوات التجربة بشكل أعم، لكنه يتمخض عن توصيف كلِّ قسيم بمجموعة محددة من الأرقام تُعرَف بالأرقام الكوانتية. ونشير هنا إلى أن هذه الأرقام لا ترتبط بدلالات فيزيائية. فإذا تحدثنا عن اللف الذاتي فإن ذلك لا يعني على الإطلاق أن القسيم المعني يلف حول ذاته. إنها ميتافيزياء جديدة في ثوب الفيزياء! وهكذا تتمايز البنى بتباين أرقامها الكوانتية. أما إذا تساوت مجموعتا الأرقام الكوانتية لقسيمين فإن الميكانيكا الكوانتية تتحول إلى الحديث عن "ضياع الهوية". وما عدا ذلك، فالبنى كلها متصلة؛ واتصالها اعتباري، بمعنى أن بمقدور الدارس ضمَّ مجموعات منها في بنية واحدة، والنظر إلى بنى أخرى على أنها منفصلة. حقاً إنه اتصال ميتافيزيائي!
وتعجز التجارب اليومية المباشرة عن تحديد معنى الاتصال والانفصال في هذا السياق. ولعل من أغرب غرائب الميكانيكا الكوانتية هو تصور وجود قسيم معيَّن في مكانين مختلفين في نفس اللحظة أو ذوبان قسيمين. نوضح الفكرة الأخيرة بالقول إن اصطدام إلكترونين سيؤدي إلى تحويل جهتي حركتيهما. لكن المعضلة هي أن كلاً من الإلكترونين سيضيِّع هويته بعيد الاصطدام؛ إذ لو سألنا أحدهما فيما إذا كان هو ذاته قبل الاصطدام لما درى أية إجابة!
نصل هنا إلى المفارقة الفكرية لدى ابن سينا. ففي جوابه عن اعتراض البيروني على حجج ابن سينا في المسألة الأولى يذكر المعصومي ما يلي: "لأن كل مُحال يمكن أن يُتوهَّم كاجتماع الجرمين في مكان أو جرم في مكانين." ويؤكد في جوابه عن المسألة الرابعة: "فذكر أن الطبيعة كيف ما جزَّأت الأشياء بقي فيها ما تجزئ بالقوة إلى ما لانهاية. وإنما تركب الأجسام من أجزاء متناهية." وكان معلِّمه ابن سينا قد سبقه إلى طرح نفس الفكرة في سياق جوابه من المسألة الرابعة أيضاً إذ قال: "وبعض الأجزاء، وإن كانت لها في ذاتها واسطة ومنقسم، فليس يقبل لصغره الانقسام بالفعل."
نتلمس فيما تقدَّم، على نحو جليٍّ، مفهوم التمايز والانفصال في فكر ابن سينا. لكن بحثنا لا ينتهي عند هذه الحقيقة. إذ لا بدَّ من التطرق إلى ما ذكره آخرون في هذه المشكلة.* لخَّص الخوارزمي المشكلة في كتابه مفاتيح العلوم تلخيصاً جيداً أتى فيه على رأي المتكلِّمين وعلى رأي الفلاسفة فقال: "عند المعتزلة المتكلِّمين أن الأجسام مؤلَّفة من أجزاء لا تتجزأ أو هي الجواهر عندهم." حسبنا أن نذكر قول المعصومي في المسألة الرابعة من مسائل البيروني:
وإن كنت تريد به أجزاء الضلع والقطر من الخطوط الوهمية فإنها عندي تنقسم إلى ما لانهاية له بالفعل، وفعلُها هو التصور في العقل خارجة عن المادة وعن الهيولى، فيكون تجزئتها بالفعل وهمياً على حسب ذلك، وهو التصور العقلي لقبول تجزئتها إلى ما لانهاية.
يؤكِّد بوهر وابن سينا على اتصال العالم؛ إلا أنهما يشيران، من جانب آخر، إلى أولوية المفهوم الجسيمي في بنائه. وعلى الرغم من انفصال الجسيمات المكوِّنة للعالم وفق معطيات أجهزة الحس، إلا أنها متصلة في الواقع، هذا إلى أن أجهزة الحسِّ المذكورة لها دور كبير في تكثيف الهيولى غير المحددة في صورة الجسيمات قيد البحث.
يكتنف الغموض الموقف النهائي لبوهر وابن سينا في قضية الجزء الذي لا يتجزأ. فابن سينا يُبقي الباب مفتوحاً أمام إمكانية التجزئة إلى ما لانهاية، مذكِّراً بأن العالم لا يمكن أن يركَّب إلا من أجزاء متناهية. نجد ما يماثل ذلك، بل ما يطابقه، عند بوهر. فالمعادلات الموجية الكوانتية تصف عالماً مصنوعاً من دقائق متناهية؛ إلا أن هذه المعادلات تبقى قابلة للانطباق، مهما كانت حجوم الدقائق المعتبرة.
وهكذا تحول الأربعة الكبار بين عالم النموذج الباطن وبين عوالم النموذج الظاهر على نحو دوري أشبه بالنواس الذي لا تستقر له حال عند أيِّ طور. وهذا هو شأن الباحث في أيِّ مكان وزمان، إن كان الباحث ملتزماً بالإخلاص للحقيقة. وإلا انطبق عليه قول المعري:
سألتموني فأعيتني إجابتكم * من ادَّعى أنه دارٍ فقد كذبا
***
تصدَّى الأربعة الكبار للقضية الإشكالية الكبرى، ألا وهي قضية التفرُّد والتعددية. طرح البيروني الأمر في تساؤله التالي: "لِمَ استشنع أرسطوطاليس قول من قال: إنه يمكن أن يكون عالم آخر خارج هذا الذي نحن فيه، كائن على طبيعة أخرى؟" واستطرد في نفس التساؤل قائلاً: "ويكون كل واحد من العالمين محجوباً عن صاحبه ببرزخ."
لن نسرد ردَّ ابن سينا بكل تفاصيله، وحسبنا منه المقاطع التالية:
... أما هذه المسألة فليست هي حكاية قول أرسطوطاليس في كتابه السماء والعالم في إنكاره وجود عوالم غير هذا العالم لأنه لم يتكلَّم فيه مع من قال إن عوالم لا تشبه هذا العالم بوجه من الوجوه ثَمَّ، بل يردُّ على من جعل عوالم فيها سماوات وأرضون واسطقسات موافقة لما في هذا العالم بالنوع والطبع، مغايرة له في الشخصية...
... والممكن في الأشياء الأبدية واجب؛ فإذن كون عوالم كثيرة واجب. فمن الضرورة وجود عوالم غير هذا العالم. فمنهم من جعلها متناهية ومنهم من جعلها لانهاية لها، وكلهم أثبتوا الخلاف. والفيلسوف قد نقض هذه الحجة في كتاب السماء والعالم بما نقض، وبيَّن أنه لا يمكن أن تكون عوالم كثيرة...
... فإذن لا علة جسمية قاسرة، ولا علة غير جسمية، لأن العلل التي ليست بأجسام، كالأشياء التي يسميها الفلاسفة الطبيعة والعقل والعلة الأولى، لا تنقل النظام إلى اللانظام، بل شأنها أن تنقل اللانظام إلى النظام أو تمسك النظام على النظام. فليست علة جسمية ولا لاجسمية ذاتية تعمل ذلك...
وينتهي ابن سينا من ردِّه بالفقرة التالية:
فإذن لا عالم مخالف لهذا العالم بكيفيات جسمية. فإذن إن كانت عوالم كثيرة هي متفقة بالطبع. وقد بينَّا أن لا عوالم متفقة بالطبع كثيرة فيما تقدَّم؛ فإذن العالَم واحد. وذلك ما أردنا أن نبيِّن. وأعلم أنه إذا سلك طريق ما ادعي في هذه المسألة أدى ذلك إلى ما لانهاية له بالضرورة. وأبطل العلم بشيء من الأشياء وأثبت ما ينتحله الفرقة السوفسطائية. ومعالجة أولئك ليس بهذا الدواء، بل بأدوية غير هذا، وبالله العون. قبل أن نمضي قدماً في معالجة هذا الموضوع الشائك، نتزود بأقوال أخرى لابن سينا. نقرأ في جوابه عن المسألة التاسعة:
يجب أن تعلم أن الحرارات ليست سالكة من المركز لأن الحرارة غير متحركة، اللهم إلا بالعرض، لكونها في جسم متحرك، ككون إنسان متحرك في سفينة متحركة.
نجد في نفس الجواب:
ويجب أن تعلم أن الشعاعات ليست بأجسام، لأنها لو كانت أجساماً لكان جسمان في مكان واحد، وأعني الهواء والشعاع.
نثبت أولاً فهم ابن سينا لطبيعة الشعاعات: إنها ليست بأجسام ولعلها أثيرية. ترتبط هذه الحقيقة بتصور ابن سينا لعالم يسوده النظام على نحو مطلق، ولا تشكِّل الحرارة فيه إلا عرضاً لا حول له ولا دور. يخلص ابن سينا من هذا الاعتقاد ومن غيره إلى تفرُّد العالم. ولا شكَّ أن جملة أفكار ابن سينا هذه محكمة البنيان؛ ولو لم تكن كذلك لما كان ابن سينا شخصية حضارية تاريخية كبيرة. تنبع استحالة تعددية العوالم عند ابن سينا من النظام القائم في الكون. فلا يسع أية قوة أن تغيِّر من هذا النظام. وننسب إلى عبقرية ابن سينا إدراكَه العفوي الطبيعةَ الفوضوية للحرارة، وتنحيته، من ثَمَّ، للظاهرة بأكملها واختزالها إلى ما هو أثيري، بإبعاده صفة الجسمية عنها.
عرض البيروني للموضوع نفسه في كتابه الآثار الباقية، فرفض الرأي الذي يذهب إلى أن الحرارة ناجمة عن انعكاس الشعاع ونبَّه إلى أنها في الشعاع نفسه: "وقد قيل في سبب الحرارة الموجودة مع شعاع الشمس أنه امتداد زوايا انعكاسه وليس ذلك كذلك بل هو موجود معه." لقد وقع البيروني على التعريف المعاصر للحرارة؛ ويتأكد ذلك بما أورده في المسألة الثامنة: "وقد علمنا أن الحرارة بإزاء الحركة، والبرودة بإزاء السكون." ونجد في نفس المسألة أيضاً: "وكلما كانت الحركة أسرع كان الإحماء أبلغ وأشد."
التفت البيروني إلى مسألة فيزيائية أرضية، فعرض أنه:
مادامت حركة الفلك تولِّد الحرارة، ومادام يلزم أن يكون تولُّد الحرارة في خط الاستواء أكثر من تولُّدها في القطبين، فكيف اعتبر أرسطو عنصر النار ذا شكل كروي؟
ونتساءل هنا عن مواقع الكرة في نماذج البيروني، فنجد الإجابة في قوله:
وأيضاً لم ينكر أحد أن للكرة طولاً وعرضاً وعمقاً، غير أن كل واحد من أقطارها – ولا نهاية لها – يستحق بكلِّ واحد من هذه الأسماء.
تمثل الكرة إذن الكمال في تناظرها وتجانسها، وفق البيروني؛ والنار أو الحرارة ليست كذلك: إنها ضرب من ضروب الفوضى. استشعر البيروني نظرية الفوضى الكونية قبل صياغتها بقرون طويلة. فمن تصديقه للتغير نقرأ:
وما يُحكى عن الهند وأمثالهم من الأمم فهو ظاهر البطلان عند التحصيل لتعاقب الحوادث على سكان المعمور من الأرض، إما جملة وإما نوباً. وأيضاً فإن حال الجبال كلها كذلك في القدم وشهادة الأحقاب بمثل تلك الشهادة مع ظهور الحدث فيها.
أشار البيروني إلى الفوضى والاندثار والتبدد بما لا يقبل الشك. نؤكد ذلك بقوله:
لم جعل أرسطوطاليس أقاويل القرون الماضية والأحقاب السالفة في الفلك ووجودهم إياه على ما وجده عليه حجة قوية ذكرها في موضعين من كتابه على ثبات الفلك ودوامه؟
ولا أدل على ذلك من قوله: "فليس واحد من الأجسام حالاً في موضعه الطبيعي."
تلكم هي المسألة باختصار: رأى البيروني أن الحرارة حركة، وأنها تعدم أي تناظر أو تجانس، وأن الكون يندفع إلى الفوضى، فالاندثار والتبدد إلى جانب ذلك. تصور البيروني تعدُّدَ العوالم، ولم يستبعد وجود أكوان أخرى غير كوننا. وقد تحدث جيوردانو برونو بعد البيروني عن مثل هذه الإمكانية وأُحرِقَ من جراء ذلك.
أما عند ابن سينا، فالنظام في الكون هو الأساس. ومن حيثيات النظام تفرُّد الكون واستحالة تعدد العوالم. استكمل ابن سينا تصوراته بنزع صفة الحركة عن الحرارة ودمجها في الجسم المتحرك، وذلك كيلا تبقى ثغرة في آرائه قد يطلُّ منها شبح الفوضى. مهما يكن من أمر، فقد سبق ابن سينا أصحاب نظرية الكالوريك caloric بعدة قرون.
فأين أينشتاين وبوهر من نماذج البيروني وابن سينا؟ في معرض الإجابة على هذا السؤال، لا بدَّ لنا من أن نبحر قليلاً – ولربما كثيراً – في محيط الأطروحات المعاصرة لفلسفة العلوم.
تقع الاعتبارات الحرارية في المركز من أيِّ تحليل علمي لظواهر الطبيعة. إنها تهيمن على كل خبراتنا الزمنية، إن لم يكن لسبب فلأن صيرورة الظواهر المذكورة ترتبط بالضرورة بإحداثي زمني. تؤكد الدلائل اليوم أن العمليات الفيزيائية الكيميائية للمتعضِّيات الحية living organisms تخضع لقوانين الحركة الحرارية أو قوانين الترموديناميكا thermodynamics.
يشكل القانون الثاني للترموديناميكا، بلا شك، جوهر تلك القوانين، ويُعرَّف في أدبيات الفيزياء بالقانون الثاني أو المبدأ الثاني أو الموضوعة الثانية. تنجم أهمية هذا القانون عن أنه يوفر معايير لازمة، وبعيدة المدى، في تعريف اللاتناظر asymmetry المسيطر على السيالة الزمنية وفي تحديد القوى الدافعة السائدة وفي الطبيعة. يتعلق هذا القانون أيضاً بتوازن المنظومات وعَكوسيَّتها reversibility أو لاعَكوسيَّتها irreversibility وجنوحها عن حالة التوازن. تتميَّز كلُّ أحداث الطبيعة بلاعَكوسيَّتها؛ ويعني ذلك، فيما يعنيه، استحالة العودة إلى طور البدء بعد أن يأخذ الحدث مجراه، ولو وُظِّفَتْ في سبيل ذلك إمكاناتٌ غير محدودة.
نجد في الموروث الفيزيائي صياغات كثيرة لهذا القانون، يجتمع بعضها على مصطلح الاستحالة impossibility، بينما يذهب البعض الآخر إلى حد الحديث عن فقدان المبادئ في علم الفيزياء. من ذلك، مثلاً، استحالة الحركة الدائمة بسبب تبدد الطاقة، واستحالة آلة تعمل في نوبات متتالية دون توقف ودون أن تنتج أي أثر، باستثناء رفع ثقل وتبريد حوض حراري.
يُعبَّر عن القانون الثاني في عصرنا بدلالة الإنتروبيا entropy، حيث يتحول القانون إلى الصيغة التالية: إن تناقص الإنتروبيا لأية منظومة هو أمر مستحيل. وتقاس الإنتروبيا بواحدة الطاقة مقسومة على درجة الحرارة المطلقة، والإنتروبيا درجة الفوضى أو العشوائية في المنظومة المدروسة. نسرد فيما يلي قوانين الترموديناميكا:
القانون صفر: تنساب الحرارة من الساخن إلى البارد، وتصير درجة الحرارة واحدة عند بلوغ التجانس الحراري.
القانون الأول: الحرارة شكل من أشكال الطاقة؛ وهي بذلك تخضع لقانون انحفاظ الطاقة energy conservation.
القانون الثاني: لا تسمح الطبيعة بتحول الطاقة من شكل لآخر إن لم يترافق ذلك التحول مع ازدياد في الإنتروبيا، أي مع ازدياد في الفوضى. إذا حافظنا على ثبات الإنتروبيا فإن التحولات من النمط المشار إليه تتَّسم بانخفاض الطاقة الحرة الجاهزة للعمل.
القانون الثالث: هناك درجة حرارة دنيا تصير المادة عندها منظمة تنظيماً كاملاً ومطلقاً، وينتفي أي أثر للفوضى.
نعيد صياغة هذه القوانين بعبارات ذاتية:
القانون صفر: إن مصيرك الحتمي هو، بلا شك، التفكك والاندثار والاختلاط بالهباءات الكونية.
القانون الأول: إنك لن تستطيع الظفر بالطبيعة.
القانون الثاني: إن الانسلاخ عن الطبيعة مستحيل.
القانون الثالث: إنك لن تجد مهرباً من اللعبة.
ألا تكافئ هذه القوانين بمجملها المعنى الباطن في مصطلح الهمِّ الوجودي الذي أتينا على ذكره في مقدمة هذا البحث؟ ألم يدفع هذا الهمُّ العمالقة الأربعة وسواهم على درب المعرفة؟ سنعود إلى صياغة استنتاج نهائي للبحث على هامش العبارات الذاتية المجسِّدة لقوانين الترموديناميكا.
نجمع أفكار البيروني ونضعها في مجموعة. بالمثل، نفصل أفكار ابن سينا ونبني منها مجموعة أخرى. أخيراً نضم المجموعتين في مجموعة واحدة عبر عملية اجتماع. إن ما سنحصل عليه هو مجموعة من عناصر لا تحقق اتساقاً فيما بينها. قد يبدو عملُنا غريباً وغير معقول بسبب ذلك. لكن مهلاً! سيتبين لنا بسرعة أن إعادة توزيع هذه الأفكار سيخلص إلى نموذجي النسبية والميكانيكا الكوانتية الخاصين بتعدد العوالم، كما سيوضح موقف النظريتين من مفهوم الفوضى.
تولد الفوضى في الميكانيكا الكوانتية لحظة بدء الاختبار، أي لحظة اقتران أداة التجربة بمادَّتها. يتمخض هذا الاقتران عن عنصر فيزيائي جديد يسعى، كأمثاله، إلى التخلِّي عن معظم طاقته والانخراط في الكلِّ الكوني المتجانس، حيث لا هوية ولا هيئة، حيث الفوضى المطلقة. يؤكد هذا التحليل اندراج المبادئ الكوانتية تحت مظلة القانون الثاني للترموديناميكا. هنا ينفصل ابن سينا عن بوهر. ففي حين يتصور ابن سينا نظاماً مطلقاً في الكون، تخضع العناصر الكوانتية للقانون المذكور. على أية حال، يفتقد هذا الخضوع أيَّ تخلُّل للسببية؛ إنها عشوائية تنضاف إلى عشوائية. على أن للميكانيكا الكوانتية وجهاً آخر، لنقل إنه وجه تركيبي. يعني ذلك تعيين التجربة الكوانتية بعدد محدَّد من النتائج. بكلمات أوضح، يؤدي إجراء أية تجربة إلى انبثاق عدد مقرَّر من النتائج؛ على أننا لا نقع من هذه النتائج إلا على نتيجة واحدة وحسب. ذلك أن المخ الإنساني الذي تعوَّد على منهج السببية يعجز عن رؤية أكثر من نتيجة. أين تذهب النتائج الأخرى وما هو مصيرها؟ إنها تتحقق في أكوان أخرى، أكوان ليست بعيدة عنَّا. إنها تتخلَّل كوننا، الآن وهنا، لكن المكاشفة بيننا وبينها مستحيلة؛ إذ تنبثق في كلِّ كون منها نتيجةٌ منفصلة للتجربة. تُعرَف هذه الرؤية بتفسير الميكانيكا الكوانتية على أساس تعدُّد الأكوان multiple universes. نلاحظ هنا تباين فكري ابن سينا وبوهر. فبينما يؤكد ابن سينا حالة الكون المتفرِّد، يُعتبَر التفسير المتعدد الأكوان أحد التفاسير الأساسية للميكانيكا الكوانتية.
يختلف شأن البيروني وأينشتاين في هذا السياق. أدَّت الحلول الرياضية لمعادلات النسبية العامة إلى ما يُعرَف اليوم بالثقب الأسود black hole. والثقب الأسود يمثل النهاية المحتومة لنجم هائل الكتلة: فبعد نفاد مخزون النجم من الطاقة تتغلب قوة الجذب الثقالي gravitational force على باقي القوى الكونية الفاعلة فيه، ويترتب على ذلك تجمع مادة النجم في حيز بالغ الضآلة؛ وما هو أدهى من ذلك أن النجم يسلِّط قوة جذبه الثقالي على حيِّز من الفضاء حوله يعرف سطحه الخارجي باسم أفق الحدث event horizon؛ إن اجتياز أي جسم لأفق الحدث سيعني اختفاءه، ذلك أنه سيقع في فخ الثقب الأسود، مضافاً إلى المادة الأصلية لهذا الثقب. ينطرح عند هذه المرحلة التساؤل التالي: أين تذهب مادة الثقب الأسود وما هو مصيرها، خاصة أن تلك المادة في ازدياد مستمر؟ يقول بعض العلماء إنها تسلك أنفاقاً كونية غير مرئية في المُتَّصَل المكاني–الزمني لتبرز في أكوان وأزمان مغايرة. صفوة القول إن النسبية لا تنفي تعدد الأكوان. بذا اتفق البيروني وأينشتاين واختلف ابن سينا وبوهر.
ما موقف مدرسة أينشتاين من الفوضى الكونية؟ إنه موقف متحفِّظ بمعنى من المعاني. فأينشتاين قد استغرق في الصوفية الكونية، ورأى في النواميس الكونية ضرباً من نظام أعلى. عزا أينشتاين الميكانيكا الكوانتية وكلَّ المفارقات الأخرى إلى جهلنا، وكان على يقين من أن يوماً سيأتي يتجاوزُ الإنسانُ فيه كلَّ المفارقات ليكتشف قانوناً كونياً واحداً يحكم الوجود بأسره. لقد كانت الريبة والفوضى وكلَّ أصناف العشوائية والاحتمال بعيدة كل البعد عن فكر أينشتاين.
لم يخرج أنصار أينشتاين عن جوهر فكره وتمسَّكوا بمبدأ الحتمية كمبدأ وحيد مقبول في تفسير الوجود. نجد في عمل متأخر لواحد منهم تعميماً لهذا المنهج. إنه يضع كأساس للوجود عبارة تصف التوازن العام لأية خاصية جهارية. تنص العبارة على أن
المعدَّل الزمني لازدياد الخاصية في حيِّز معين يساوي معدل توليد الخاصية داخل الحيِّز مضافاً إليه معدَّل دفق الخاصية من الخارج باتجاه الحيِّز.
يمضي المؤلف بعد ذلك إلى استنتاج كل نواميس الفيزياء من هذه العبارة، وفي عمله هذا يختزل الإنتروبيا إلى ظاهرة يخلقها ويغذيها الجذب الثقالي. تنجم الفوضى المتزايدة في هذه الحالة عن شمولية الجذب الثقالي، حيث يقوم كل جسم بجذب كل جسم آخر مهما كانت طبيعة كل منهما، وعن الطبيعة الأحادية للثقالة، حيث يوجد جذب ثقالي ولا يوجد نبذ ثقالي. لن نعرض تفاصيل الأبحاث التي أجراها المؤلف في هذا السياق، ونكتفي بنقل فلسفته ورغباته: إنه يجنح إلى أن يرى كوناً عارياً عن الفوضى؛ وإن ظهرت الفوضى فيه فعلاً، فيمكن ردُّ هذه الفوضى إلى ظاهرة الجذب الثقالي. إنها فوضى وعشوائية تتخلَّق وتتحرك تحت مظلة الحتمية؛ وهي بذلك ليست ظاهرة أصيلة وجذرية.
لكننا بتنا نعلم اليوم أن القانون الثاني للترموديناميكا هو مبدأ كوني أساسي، شأنه شأن الجذب الثقالي. وفي ذلك نسوق مثال دورة الأرض حول نفسها: ذلك أن الأرض تدور حول نفسها من جراء الفعل المتأيِّن والمتضاد لقانون الجذب الثقالي، من جهة، وقانون ازدياد الإنتروبيا، من جهة أخرى.
باختصار، لم تكن لدى أينشتاين أية رغبة في تصور فوضى باطنة وأصيلة في الكون. وإذا ثبت وجود بعض الفوضى فيمكن ردُّ ذلك إلى ظاهرة لافوضوية. نعود هنا إلى بعض ما قاله أينشتاين:
أتساءل فيما إذا كان لدى الإله أيُّ خيار عند خلقه العالم...
لا يستطيع العقل الإنساني أن يحيط بالكون. إننا أشبه بطفل صغير يلج مكتبة كبيرة حيث ترتفع الكتب حتى السقف وتتوزع بين لغات مختلفة. إن الطفل على علم مسبق بأن بعضهم مسؤول عن كتابة محتويات هذه الكتب، إلا أنه لا يدري من هم هؤلاء البعض وكيف أنجزوا ما أنجزوه. كما أنه لا يفهم اللغات التي سُطِّرَتْ بها تلك الكتب. وعلى الرغم من ذلك يستطيع الطفل أن يتحسَّس خطة محددة في ترتيب تلك الكتب. إنه تنظيم غامض، لا يستطيع الطفل فهمه بشكل كامل، ولكنه يستطيع إدراكه على نحو مبهم.
عند هذه النقطة يفترق أينشتاين والبيروني. فأينشتاين لا يستطيع إلا مسايرة رغباته الداخلية برؤية عالم بالغ الكمال في بنيانه وتنظيمه؛ أما البيروني فهو، بدوره، تأسُره رغباته الداخلية. وتتجسد رغبات البيروني في الامتثال للمنهج العلمي بكلِّ صرامته وقسوته؛ ومن ذلك القبول بالفوضى الباطنة في العالم. يمكننا أن نعتبر، دون مبالغة، أن البيروني قد سبق بيكون في إرساء القواعد الأساسية للمنهج العلمي.
نخلص مما تقدَّم إلى استحالة إصدار حكم نهائي بشأن اتِّساق منظومة محددة من الأفكار. هل تقترن فوضى العالم بتعدد الأكوان، أم أن تعدد الأكوان لا شأن له بتلك الفوضى؟ يبيِّن العرضُ السابق الاستحالةَ الفعلية في عزل مجموعة من الأفكار وافتراض وجود ارتباطات منطقية عميقة بينها فيما يمكن أن ندعوه اتساقاً مطلقاً؛ إذ يبدو أن المنظومات الفكرية المتقابلة تبدأ بالاختلاط والتمازج بعيد حدٍّ معين.
نعود هنا إلى النموذج الباطن وأولويَّته. يعكس هذا النموذج حقيقة هامة، ألا وهي أننا نرى العالم كما نريد ونرغب، لا كما هو فعلاً. وما أدرانا، فقد لا يكون هناك عالم بذاته، بل عالم لنا! وكيف لا يكون العالم لنا وهو يستغرق بكلِّيته في النموذج الباطن؟
يؤكد التحليل النهائي للميكانيكا الكوانتية أن مفهوم البداية لا يشغل موقعاً هاماً في منظومة الأفكار الكوانتية، خاصة أن العالم لا يتحدد إلا بالتجربة، وأن الحدث لا يتحقق إلا بقفزة كوانتية؛ ناهيك عن أن القفزات الكوانتية لا علاقة لها بعضها ببعض، مما يجعل ترتيب الأحداث مجرد إضافة عقلية لا تمتُّ لواقع العالم بصلة. إن كان الأمر كذلك لا نجد مانعاً من قبول تاريخ كوني غير منتهٍ في امتداده الزمني الماضي. يقول المعصومي تلميذ ابن سينا:
وإنما الذي ينكره الفيلسوف من اللانهاية هو أن يوجد شيء لانهاية له في زمان متناهٍ. على أنَّا لا نكاد نتصور يوماً وإلا ويتقدمُّه أمس، ولا دجاجة إلا ويتقدَّمها بيضة، إلى ما لانهاية.
نلمس هنا تطابقاً واضحاً بين فكري ابن سينا وبوهر. تمثِّل مقولة المعصومي فكر ابن سينا، بينما يُستجَرُّ فكرُ بوهر مما قدَّمناه من تحليل للميكانيكا الكوانتية. تقوم اللانهاية الزمنية في كلا الفكرين على مجرد تصور: ذلك أن القدوم من لحظة لانهائية في الماضي والانحدار الفعلي إلى الآن هو أمر مستحيل تماماً. يفرض النموذج الباطن لدى المفكِّرين مفهوم أزلية الزمن.
ويفرض النموذج الباطن لدى كل من البيروني وأينشتاين القبول بلحظة بدء انطلق منها الوجود. يقول البيروني: "وما أحدث هذا الاعتراض إلا مما يقدر من تناهي الحركات والأزمان ضرورة من جهة الأول."
من المعروف أن نظرية النسبية كانت الأولى في طرح نموذج الكون الأول؛ ومن المعروف أن نظرية النسبية كانت الأولى في طرح نموذج الكون المتمدِّد. أتى الكون إلى الوجود، وفق هذا النموذج، إثر انفجار هائل حدث منذ حوالى خمس عشرة ألف مليون سنة؛ ثم تتالت الأحداث في تسلسل سببي تمخَّض عن الكون كما نعرفه اليوم.
نجمل بحثنا بالعودة إلى الصيغ الذاتية لقوانين الترموديناميكا. تُختزَل تلك القوانين بكلمة الاستحالة: فاستمرار التجسد مستحيل، والظفر والانسلاخ كلاهما مستحيل. أخيراً الهروب بدوره مستحيل. وإن كان ذلك كذلك فقد لا يستطيع المفكِّر إلا تجريب كلِّ الأفكار الممكنة والمتاحة، بما فيها الأفكار غير المتسقة والمتناقضة – وهذا ما فعله الأربعة الكبار.
فهل يعني ذلك استحالة بلوغ الحقيقة، أو حتى استحالة وجود حقيقة، ناهيك عن إمكانية معرفتها؟!
إذا نظرنا في الفضاء الكوني أبعد وأبعد فإننا، وفق النسبية، إنما ننظر إلى الماضي عبر فترات أبكر وأبكر، ذلك أن الرسول الكهرطيسي يستغرق آلاف وملايين السنين في الوصول إلى أرضنا. باختصار، عندما نحدِّق في النجوم فإنما نحدِّق في النجوم حيث كانت، لا حيث هي موجودة الآن بالفعل، لأن آلاف وملايين السنين قادرة على تغيير مواقعها بمسافات هائلة.
إن التحديق في الكون، واستجرار النظريات على هامشه، هو جزء من تسليط الفكر على العالم. وتسليط الفكر، بدوره، هو هبوط إلى النموذج الباطن وارتحال نحو البدء في أعماق الذات. ولا نجد هنا أداة فعالة في إلقاء الضوء على الظواهر الذاتية هذه أفضل من الميكانيكا الكوانتية. فبواسطتها نسوِّغ القفزات عبر تكوينات عالمنا الباطن، وعلى الأخص النموذج الباطن. وكلما أمعنَّا في الابتعاد في الكون ازداد عمق قفزاتنا الداخلية، وسعت الميكانيكا الكوانتية للاندماج بالنسبية، بينما نجنح إلى التواجُد مع الكون في نفس الوقت. إنه تصعيد لـ"مستحيل" قوانين الترموديناميكا.
أهي الحقيقة تدفعُنا لهذا التواجد؟ أعتقد ذلك، مؤكداً، بوجه خاص، على ظاهرة التحديق في الكون. فلا مفرَّ، على ما يبدو، من الاندفاع بحثاً عن الحقيقة في الكون، وفي أعماقنا، أو في موقع واحد، وفق وجهة نظرنا عن النموذج الباطن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق