" أنا ذلك الكذاب ، الذي يقول الحقيقة دائماً "
جان كوكتو
لم تستطع سنوات المنفى الثقيلة والخانقة أن تثبط آماله الكبيرة ، ولا المكان أن يطمس هويته ، فقد قرر لحظة وصوله أمريكا ، لاجئاً ، أن يجعل من كتاباته سلاحاً ، ومن غرفة مكتبه الصغير ، ورشة عمل يومي وساحة حرب ضد من شردوه .. ضد من خنقوا صوت الحرية في بلاده.. ضد وحشية الاستبداد و بربريته في كل مكان .
على أحد جدران غرفة مكتبه المعتم ، كان دورفمان يعلق صورة مواطنه بابلو نيرودا ، كانت تضيء له وحشة سنوات الاغتراب ، وبالقرب منها كتب بخط يده عبارة ، كان استعارها من أحد معارفه القدامى ، الروائي الأرجنتيني " هارولد كونتي " سلفه في المنافي . تقول العبارة : " هنا ساحة الحرب ، ساحة معركتي ، ولن أغادرهاً أبداً " .
كتب دورفمان الشر والرواية والقصة القصيرة والنصوص المسرحية والسينمائية والدراسات النقدية في الأدب والفن . وقد ترجمت نتاجاته تلك إلى ما يقرب الخمسين لغة . .
شغل و ما يزال ، موقع بروفيسور في جامعة ديوك في نيويورك ، لتدريس أدب أمريكا اللاتينية ، إضافة إلى نشاطه كمحرر دائم في صحف واسعة الانتشار أمثال نيويورك تايمس ، لوس أنجلوس تايم ، ناشينال ، فيليج فويس ، وغيرها . عرف عنه أيضاً ناشطاً بارزاً في منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان .
عاد دورفمان إلى تشيلي ، برفقته زوجته وولداه عام 1990 بعد زوال الدكتاتور بينوشيت وقيام السلطة الوطنية المنتخبة ، و منذ ذلك التأريخ وهو موزع بين بلاده والولايات المتحدة الأمريكية وأوربا .
( لابد لأحد ما أن يبقى حياً ، ليروي ما حدث )
لقد تم تصفية الكثير من أصدقاء دورفمان ورفاقه في ذلك اليوم الفاجع الرهيب ، يوم الانقلاب على حكومة أليندي ، في الحادي عشر من سبتمبر 1973 ساعة اقتحام قوات بينوشيت قصر لامونيدا .
أما هو فقد نجا بأعجوبة من موت محتم
كان دورفمان يشغل موقع بروفيسور لمادة الأدب والنقد محاضراً في جامعة تشيلي . وكان ُرشح في عام 1971 مستشاراً ثقافياً ضمن هيئة المستشارين الخصوصيين للرئيس أليندي في قصر لامونيدا .
دورفمان : كان عليّ أن أكون في قصر لامونيدا في ذلك اليوم الفاجع . كانت هناك قائمة بأسماء الأشخاص الذين ينبغي تواجدهم في الأحداث أو الأوقات الطارئة ، وكان اسمي واحداً من تلك الأسماء ، لكن أحداً لم يتصل بي ذلك اليوم ، وتركوني أستمتع بنومي ذلك الصباح .
لم أفهم السبب مطلقاً
وبعد ثلاث سنوات ، وبطريق الصدفة ، قابلت الشخص الذي كان مسئولا عن تنظيم تلك القائمة آنذاك واسمه فرناندو فلوريس ، وفي ذلك اللقاء فقط عرفت سر بقائي حياً
لقد أخبرني فرناندو أنه شطب اسمي من قائمة المناوبة تلك في ذلك الصباح ، وحين سألته عن السبب ، صمت قليلاً وغار عميقاً ، عميقاً ، كما لو أنه أراد إن يسترجع تلك اللحظات المرعبة ثانية .
أخيراً ، تطلع نحوي قائلاً : " حسناً .. كان لابد أن يبق أحد ما حياً ، ليروي ما حدث "
لم تكن ثمة معجزة دينية وراء بقائي حياً ، و لا أؤمن بأن قوى غيبية هي التي أنقذتني من ذلك الموت المحتم . لكنني موقن بشيء اسمه قدر الإنسان أو هو ذلك الشيء الذي يحيل الأحداث التي تمر في حياة الإنسان ، إلى شيء ضروري لابد من وقوعه .
ما فعلته أنا ، حسب ظني ، هو أنني أحلت نفسي إلى راوي حكايات .
وهكذا أمضيت الخمسة والعشرين عاماً الأخيرة أروي قصة شيلي بطرق مختلفة .
الكثير من كتاباتي تتحدث عن إنسان تنتابه فكرة ما تلازمه على نحو دائم ، وهي أنه يعيش كالشبح ، وأن كل شيء ما هو إلا مجرد وهم ، وأن ثمة أناس يموتون من أجل أن نستمر نحن على قيد الحياة . فلزاماً علينا أن نقدم لهم شيئاً ما . كيف يمكننا أن نفعل ذلك ؟ كيف يمكننا أن نتحدث إليهم ، نحكي قصصهم ، ومن أجلهم ، بل وعلى الرغم منهم ، و مع ذلك ، فإن قصصي هي ليست قصصاً عن الموت فقط . كلا ، إنها قصص عن الحياة ، والتغني بها أيضاً .
استوحى الكاتب عنوان مسرحيته " الموت والعذراء " من رباعية شوبرت الوترية التي تحمل ذات العنوان ، وهي قصيدة مغناة من تأليف ماتياس كلاوديوس 1740 ـ 1815 . أما الثيمة فقد استقاها من خبر كان قرأه في صحيفة تشيلية ، يحكي قصة رجل أنقذ حياة شخص انقلبت عربته في الطريق العام وكادت تودي بحياته . وأثناء دعوة الرجل لذلك الغريب ضيفاً إلى منزله ، تحدث المفاجئة المروعة .
ففيما هما يتحدثان ، تميز الزوجة نبرة صوت ذلك الرجل الغريب ، وتكتشف أنها نفس نبرة الرجل الذي عذبها واغتصبها في السجن قبل سنين . عند ذاك تقرر سجنه في المنزل وإخضاعه إلى محاكمة شخصية ، تنتزع خلالها اعترافاً كاملاً منه بتلك الجريمة ، ثم تحكم عليه بالموت ! .
يقول دورفمان : " .. لقد تأملت تلك الحادثة عميقاً ، وبدأت أستكشف في مخيلتي ، بشكل خجل ومتردد ، حالة دراماتيكية أصبحت فيما بعد نواةً لمسرحية " الموت والعذراء " .
كنت أجلس بين الحين والآخر أفكر بهذا الموضوع وأخربش على الورق ما تخيلته أن يكون في يوم ما رواية ! . لكن ، بعد جلسات عدة وبضع صفحات غير مقنعة عدلت ، خائباً ، عن الفكرة كلها تماماً ، بسبب أن ثمة شيئاً ما كان غائماً ، شيئاً ما جوهرياً وضرورياً في الحكاية كان مفقوداً . فمثلاً لم أستطع أن أستكشف شخصية زوج تلك المرأة . ترى من هو ؟ وكيف ستكون استجابته إن صدقها ؟
لم تكن واضحة عندي أيضاً ، الوقائع والظروف و الالتباسات التفصيلية ، تلك التي ظهرت من خلالها تلك الحكاية . كذلك كان ثمة غياب للعلاقات الرمزية والدلالية بين العام والخاص . بمعنى آخر ، ما نوع علاقة هذه الحكاية بالوضع العام للحياة في البلاد نفسها .
لم أفهم أيضاً ، صورة العالم الذي كان يقف خلف تلك الحدود الضيقة والخانقة والمغلقة لمنزل تلك المرأة ! " .
هكذا ولسوء الحظ ظلت المسرحية تنتظر مكرهة مثل دورفمان نفسه لوقت طويل ، لحين زوال النظام الديكتاتوري في البلاد عام 1990 وعودة الكاتب وعائلته إلى تشيلي بعد نفي استغرق سبعة عشر عاماً . ففي زحمة الأحداث السياسية الجديدة والشائكة ، عثر الكاتب على إجابات على تلك النقاط التي كانت غائمة في رأسه ، و استطاع أن يمسك بالخيط الذي قاده أخيراً إلى الطريقة التي ستروى بها تلك الحكاية .
( ديمقراطيات في دور النقاهة )
كان الوضع السياسي في تشيلي إبان زوال نظام بينوشيت الفاشي وقيام السلطة الوطنية المنتخبة ، ينذر باحتمال وقوع حرب أهلية في البلاد ، بسبب الإجراءات المؤقتة التي اتخذتها الحكومة الجديدة ، والتي في مقدمتها الإبقاء على الكثير من رموز النظام السابق في مواقع خطيرة وحساسة ، مثل المؤسسات القضائية والبرلمان والمجالس البلدية وكذلك المؤسسات الاقتصادية ، ناهيك عن ترك الكثير من أزلام السلطة من العسكر ورجال الأمن والمخابرات طليقين دون عقاب .
كان ذلك قد أثار غيظ الناس وضغينتهم ، خصوصاً أولئك الذين ظل يسكنهم الخوف رغم سقوط الدكتاتور، والذين أحالتهم زنازين الدكتاتور إلى مجرد أشباح ، أو أنصاف بشر . لقد أثارت فيهم تلك الإجراءات المؤقتة حقاً مخاوف عودة النظام القديم إلى السلطة . لكن واقع الأمر، إن الرئيس الجديد المنتخب ـ باتريسيو ايلوين ـ كان يسعى من خلال تلك الإجراءات ، إلى تطبيق برنامج إصلاحي برغماتي للبلاد ، ووضع حلول وسطية بشأن التعامل مع أدوات النظام القديم ، خوفاً من تجدد الوضع الإرهابي ، وتحت غطاء الديمقراطية هذه المرة ، وخشية من قيام مذابح جديدة وعمليات ثأر شخصية ، قد تقود البلاد فعلاً إلى حرب أهلية ن والى فوضى قد تفقد البلاد فرصتها التأريخية تلك ، وتفضي إلى عودة النظام الديكتاتوري ثانية إلى البلاد .
فلأجل تطبيق ذلك البرنامج قامت السلطة بتشكيل هيئة تحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان ، تلك التي اُرتكبت في زمن الدكتاتور بينوشيت سميت بـ " هيئة ريتيج " والتي كانت تنتهي عقوباتها بالموت أو احتماله ، شرط أن لا يعلن عن أسماء المجرمين أو تجرى محاكمهم علناً . علق دورفمان حينها قائلاً : " استطاع الرئيس ايلوين حقاً أن يدير الدفة بحذر وتبصر وشجاعة ، بإتباعه مسلكاً وسطاً يوفق مابين أولئك الذين يؤثرون دفن الخوف ، خوف الماضي الإرهابي كلياً ، وبين أولئك الذين يريدون الكشف عنه كاملاً " .
قامت تلك اللجنة حينها، و كإجراء احترازي ، بحجب أسماء أولئك المتهمين وعدم استدعائهم لحضور تلك المحاكم علناً ، خشية وقوع صدامات دموية بين عوائلهم وأهالي المتهمين . لكن المأزق الأكبر هو أن تلك العدالة المنتظرة كانت منقوصة ، فعلى الرغم من التجربة الموجعة لمئات الآلاف من ضحايا النظام القديم ، وخصوصاً أولئك الذين استطاعوا أن ينجوا من الموت ، إلا أن الكثير من حقوقهم الشخصية ضاعت وسط زحمة الأحداث العامة ، حيث كل شيء كان مؤجلاً ، كسباً للوقت ورغبة في استتباب الوضع العام للبلاد .
هذه الخلفية السياسية هي التي قدمت المفتاح الرئيسي لحل مغاليق الحكاية ، وأجابت عن تلك الأسئلة التي كانت أجوبتها مبهمة في رأس الكاتب .
يقول دورفمان : ( ... وفيما أنا أرقب بدهشة لجنة التحقيق تلك ، وهي تقوم بإنجاز مهمتها الشاقة والشائكة ، بدأت أدرك شيئاً فشيئا وببطء ، أنني أعثر أخيراً على الإجابة عن السؤال الملتبس للحكاية ، ذلك السؤال الذي ظل يدوي في رأسي لسنوات عديدة . وكانت الإجابة ، هي إن اعتقال المرأة للرجل الغريب في منزلها و إخضاعه إلى محاكمة شخصية ، لا يمكن أن تتم في دولة يتربع على السلطة فيها دكتاتور ، كما حدث في زمن تلك الحادثة التي قرأتها في تلك الصحيفة ، بل في دولة هي في مرحلة انتقال إلى الديمقراطية ، حيث جراح الكثير من التشيليين لم تندمل بعد ، وحيث الكثير من الجناة مازالوا أحراراً يتساءلون برعب عن المصائر التي تنتظرهم فيما لو تم الكشف عن جرائمهم . لقد أصبح واضحاً أن الطريقة التي يمكن أن نجعل فيها من زوج تلك المرأة التي تعرضت للاغتصاب والتعذيب ، يعيش حالة رهان مروعة ومربكة ، كونه زوجاً لتلك المرأة التي اعتقلت ذلك الرجل الغريب من جهة ، وفي نفس الوقت عضواً في لجنة التحقيق من جهة أخرى ! وهو الوضع المشابه إلى حد ما إلى وضع المحامي العجوز الذي عينته الحكومة الجديدة لرئاسة هيئة التحقيق " ريتيج " في الواقع ) .
لم يتطلب من دورفمان الوقت الطويل لاتخاذ قرار حاسم بشأن العمل ، وكان القرار ، هو أن الهدف كتابة نص مسرحي وليس رواية . وقد تم إنجاز" الموت والعذراء " عام 1991 وهو في نيويورك ، لكنه أرجأ إرسالها إلى تشيلي ، خوفاً من الاستجابات السلبية التي قد تثيرها أسئلتها المعبئة بخيارات صعبة ، وهي ذات الأسئلة التي كانت تسعى شخصياتها لأن تفهمها وتجيب على جملة منها ، والتي كان التشيليون يطرحونها على أنفسهم في السر ، ونادراً ما تجد من يرغب في طرحها علناً .
كيف يمكن للجلادين وضحاياهم العيش على أرض واحدة ؟
هل في الإمكان معافاة بلد قاسى صدمة القمع والكبت ، ومازال الخوف من إبداء الرأي سائداً في جنباته
كيف يمكن الوصول إلى الحقيقة ، إذا كان الكذب قد أصبح عادة ؟
كيف يمكننا الإبقاء على الماضي حياً ، شرط أن لا نكون سجناءه ؟ و كيف يمكننا أن ننسى ذلك الماضي دون المخاطرة بألا يتكرر في المستقبل ؟
ما هي عواقب كبح صورة ذلك الماضي ، وثمة حقيقة تهمس في آذاننا أو تنبح في وجوهنا ؟
هل من المنطقي أن نضحي بالحقيقة ، لكي نضمن الطمأنينة والأمن ؟
هل الناس أحرار حقاً في بحثهم عن العدالة والمساواة ، وتهديدات العسكر تلازمهم كالوسواس ؟
هل يمكن تجنب العنف في البلاد في ظروف كهذه ؟ وكم نحن ، جميعاً ، ودون استثناء ، مذنبون إزاء ما حدث لأولئك الذين قاسوا أكثر من غيرهم ؟
ومن المحتمل أن المأزق الأكبر هو ، كيف يمكننا مواجهة كل هذه المشاكل ، دون أن يؤثر ذلك في تقويض الإجماع العام ن ذلك الذي يرسخ الاستقرار للمضي في تحقيق الديمقراطية .
كتب دورفمان يومها : " كنت أدرك جيداً أنني سأنتقد بضراوة من قبل البعض في بلادي لأنني " هززت القارب بقوة " عبر تذكيري الناس بوقع الإرهاب والعنف الذي قاسوه طوال تلك الفترة الطويلة ، في وقت مطلوب منا جميعاً أن نكون حذرين إلى حد كبير .
لقد شعرت على أي حال ، أنني كمواطن ن ينبغي علي أن أتحلى بروح عالية للمسؤولية ، وكفنان ، علي أن أجيب على النداء المروّع والعاصف لشخصياتي ، وأن أحطم ذلك الصمت الذي كان يلقي بثقله على كاهلهم . كنت أتأمل من كان يتابع كتاباتي بوّد من الأصدقاء ، وخوفهم الجميل من أنني ، ربما ، أسهم ومن دون قصد ن في خلق مأزق لتلك الديمقراطية الهشة . لكنني كنت على يقين من قبل ، وزاد الآن يقيني أكثر من أي وقت مضى ، بأن الديمقراطية الهشة تتصلب ويقوى عودها ، عبر المكاشفات وإتباع نهج المصارحة والوضوح ، لكي يرى الجميع كيف ستتفتح و تزهر الأعمال الدرامية العميقة الرؤى ، ويرى أيضاً الأحزان العميقة والآمال الكبيرة ، تلك التي تشكل جميعها مرتكزات وجود صلبة للديمقراطية .
بهذه الطريقة فقط ، وليس عبر جلد الذات ، نستطيع أن نتفادى تكرار ما حدث لنا .. "
" هواجس الكاتب .. هواجس الشخصيات "
إن موضوع " الذاكرة " يكاد يشكل هاجساً دائماً لدورفمان ولشخصياته . الذاكرة التي تستعيد ماضي بلد جريح مثل تشيلي ، مجسداً بشكل كوابيس في النوم ووساوس في اليقظة ، والتي تلازم ضحايا الأمس ، أولئك الذين نجوا من الموت ، بشكل دائم . أما " الخوف " فهو يشكل موضوعاً جوهرياً في البناء الاجتماعي والسيكولوجي لشخصيات الكاتب . إنه يجري في عروقهم ، يؤرقهم ، ويشل حيواتهم .
فإذا كان ذلك الخوف يتشظى في الماضي سراً ، فقد أصبح في الحاضر معلناً ، لدرجة الخشية من أن يتحول إلى تأريخ رسمي للبلاد ، ومن الممكن جداً أن يقود إلى إعادة إنتاج مجتمع تمزقه النزاعات و الحزازات ، تلك التي يسعى الكاتب أصلاً إلى نسيانها .
لا يدعو دورفمان إلى تكريس ذلك الخوف ، بل إلى فهم مغزاه وأبعاده ، كي لا يتكرر في المستقبل .
موضوع " النسيان " هو أيضاً هاجس آخر له وجوهه المتعددة لدى الكاتب . فوجهه الأول ، طوي صفحة ذلك الماضي والبدء من جديد ، حيث الناس يسعون إلى نسيان أوجاعهم ومخاوفهم والعنف الذي نزل بهم ، وثمة أسباب عديدة وراء الرغبة في ذلك النسيان ، سواء للناس الذين تعرضوا للإساءات أو للبعض ممن ارتكبها . هؤلاء يشعرون أن استعادة الماضي هو تحطيم لهم . إنهم يقولون أن ثمة مستقبلاً ينتظرنا ، دعنا نطوي هذه الصفحة ، دعنا ننس ذلك ، دعنا نبدأ من جديد ، وهذا كله نعثر عليه ساطعاً في شخصية المحامي وعضو هيئة التحقيق جيراردو في " الموت والعذراء " وأيضاً في شخصية الكابتن في مسرحية " الأرامل " .
أما الوجه الثاني للنسيان فهو ذلك الذي يتعامل غالباً مع الناس الذين يخوضون نضالاً مسعوراً ضد من يريد إلغاءهم وتهميشهم وتجاهلهم ، بل وحتى محوهم من وجه الأرض . هؤلاء الناس ذاقوا جور الماضي ومرارته ، وخرجوا من تلك المحرقة مشوهين ومشوشين ، وحين استيقظوا على حاضر آخر جديد ، وجدوا أنفسهم منسيين مهمشين ، يسيرون على رصيف واحد وجلاديهم .
هذا ما نعثر عليه بصورة جلية لا لبس فيها في شخصية باولينا في " الموت والعذراء " والرجال المفقودين في " الأرامل " .
دورفمان يذهب أبعد من ذلك ، حين يضيف وجهاً ثالثاً لمغزى مفهوم النسيان وهو ذلك الذي يتعلق بالهوية . فقد كتب يقول :
" .. ومشكلة الذاكرة هي ليست مشكلة أننا نتذكر المخاوف التي مورست معنا وعلينا نسيانها ، بل تلك التي لها تأثير أيضاً على الهوية ، هويتنا التي فقدناها .
أين هويتنا ؟ علينا أن نفكر عميقاً وبدقة في هذا السؤال .
ـــــــ
اللوحة للفنان العظيم : رامبرانت