نوفمبر 07، 2009

الموت أقوى من الحب - ماركيز

...
عندما وجد السيناتور أونيسمو سانشيز امرأة التي انتظرها طوال عمره ، كان لا يزال أمامه ستة أشهر وأحد عشر يوماً قبل أن توافيه المنية . وكان قد التقاها في روزال دل فيري ، وهي قرية متخيّلة ، كانت تستخدم كرصيف ميناء سري لسفن المهربين في الليل ، أما في وضح النهار ، فكانت أشبه بمنفذ لا فائدة منه يفضي إلى الصحراء ، وتواجه بحراً قاحلاً لا اتجاه له ، وكانت قرية نائية وبعيدة عن أي شيء ، إلى درجة أن أحداً لم يكن يتوقع أن يكون بوسع أي إنسان أن يغيّر مصير أي فرد من سكانها .
حتى أن اسمها كان يثير الضحك نوعا ما ، وذلك لأن الوردة الوحيدة الموجودة في تلك القرية كان يضعها السيناتور أونيسمو سانشيز في سترته عصر ذلك اليوم الذي التقى فيه لورا فارينا .
وكانت كذلك محطة إجبارية في الحملة الانتخابية التي كان يقوم بها السيناتور كلّ أربع سنوات . فقد كانت عربات الكرنفال قد وصلت في الصباح الباكر ، ثم تبعتها الشاحنات التي تقل الهنود الذين كانوا يُستأجرون ويُنقلون إلى المدن الصغيرة لزيادة عدد الحشود في الاحتفالات العامة وتضخيمها . وقبل الساعة الحادية عشرة بقليل ، وصلت السيارة التابعة للوزارة التي يشبه لونها لون مشروب الفراولة الغازي ، بالإضافة إلى السيارات التي تقل الموسيقيين ، والألعاب النارية ، وسيارات الجيب التي تقل أفراد الحاشية . أما السيناتور أونيسمو سانشيز ، فكان يجلس مسترخياً في سيارته المكيّفة ، لكنه ما أن فتح باب السيارة ، حتى هبّت عليه نفحة قوية من اللهب ، وعلى الفور تبلل قميصه المصنوع من الحرير الصافي ، وأصبح وكأنه قد غمس في حساء فاتح اللون ، واعتراه شعور بأنه كبر عدة سنوات ، وأحس بالوحدة على نحو لم يشعر به من قبل . في الحياة الحقيقية ، كان قد بلغ الثانية والأربعين من العمر ، وكان قد تخرّج من جامعة غوتينجين بدرجة شرف كمهندس في استخراج المعادن . كان قارئاً نهماً للأعمال الكلاسيكية اللاتينية المترجمة ترجمة ركيكة . وكان السيناتور زوج امرأة ألمانية متألقة أنجبت له خمسة أطفال ، وكانوا جميعهم يعيشون بسعادة في بيتهم ، وكان هو أكثرهم سعادة إلى أن أخبروه ، منذ ثلاثة أشهر ، بأنه سيموت ميتة أبدية قبل أن يحل عيد الميلاد القادم .
وفيما كانت التحضيرات للاجتماع الحاشد على وشك أن تُستكمل ، تمكّن السيناتور من الاختلاء بنفسه لمدة ساعة في البيت الذي كانوا قد أعدّوه له ليرتاح فيه . وقبل أن يتمدد على الفراش ، وضع الوردة التي حافظ عليها طوال رحلته عبر الصحراء في كأس مليء بمياه الشرب ، وابتلع الحبوب التي أخذها معه ليتحاشى تناول قطع لحم العنز المقلّي التي كانت تنتظره أثناء النهار ، وتناول عدّة حبوب مسكّنة قبل وقتها المحدد خشية أن يعتريه الألم . ثم وضع المروحة الكهربائية قرب الأرجوحة واستلقى عارياً لمدة خمس عشرة دقيقة في ظلّ الوردة ، وبذل جهداً كبيراً كي يبعد فكرة الموت عنه كي يغفو قليلاً . وفيما عدا الأطباء ، لم يكن أحد يعرف أن أمامه أياماً معدودات سيعيشها ، لأنه قرّر أن يبقي سرّه طي الكتمان ، وأن لا يغيّر شيئاً في حياته ، لا بدافع من الكبرياء ، بل بسبب الخجل والخزي .
أحسّ أنه يمتلك زمام أموره عندما خرج للقاء الجمهور للمرة الثانية في الساعة الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم ، مرتاحاً ونظيفاً ، وهو يرتدي بنطالاً من الكتّان الخشن ، وقميصاً مزّهراً ، وكانت الحبوب المضادة للألم قد ساعدته في إضفاء شيء من السكينة على روحه . غير أن التآكل الذي كان الموت يحدثه فيه أكثر خبثاً مما كان يظن، لأنه ما أن صعد إلى المنصة ، حتى اعتراه شعور غريب بالازدراء للذين كانوا يسعون جاهدين لأن يحظوا بشرف مصافحته ، ولم يشعر بالأسف ، كما في السابق ، على جموع الهنود الذين قلما كان بوسعهم تحمّل جمرات نترات البوتاسيوم الملتهبة تحت أقدامهم الحافية في الساحة الصغيرة المجدبة . وبحركة من يده أوقف التصفيق ، بغضب تقريباً ، وبدأ يتكلم دون أن تبدو على وجهه أية تعابير محددة . وكانت عيناه مثبتتين على البحر الذي كان يئن تحت وطأة لهيب الحرارة . وكان صوته العميق الموزون يشبه المياه الراكدة ، لكنه كان يعرف أنه لم يكن يقول الصدق في الخطاب الذي كان قد حفظه عن ظهر قلب ، والذي كان قد ألقاه أمام الجموع مرات كثيرة ، بل كان يناقض أقوال ماركوس أوريليوس صاحب النزعة الجبرية في كتاب تأملاته الرابع .
" إننا هنا لكي نلحق الهزيمة بالطبيعة " ، بدأ خطابه بخلاف كلّ قناعاته . " لن نصبح لقطاء في بلدنا بعد الآن ، أيتام الله في عالم العطش والمناخ الرديء ، منفيين في أرض آبائنا وأجدادنا . بل سنكون أناساً مختلفين ، أيها السيدات والسادة ، سنكون أناساً عظماء وسعداء " .
كان ثمة نمط معين في هذا السيرك الذي يقوم به . ففيما كان يلقي كلمته ، كان مساعدوه يلقون بمجموعات من الطيور الورقية في الهواء ، فتدّب الحياة في هذه المخلوقات الاصطناعية ، وتحلّق حول المنصة المنتصبة من ألواح خشبية ، وتطير باتجاه البحر . وفي الوقت نفسه ، كان رجال آخرون يفرغون بعض جذوع الأشجار من الشاحنات ، ويغرسونها في تربة نترات البوتاسيوم وراء الجموع الحاشدة . وكانوا قد أقاموا واجهة كرتونية من بيوت خيالية من الآجر الأحمر ذات نوافذ زجاجية ، وأخفوا وراءها الأكواخ الحقيقية البائسة .
أطال السيناتور خطابه مستشهداً باقتباسين اثنين باللغة اللاتينية ليطيل أمد المهزلة . ووعد الحشد بآلات تصنع المطر ، وبأجهزة نقّالة لتربية حيوانات المائدة ، وبزيوت السعادة التي تجعل الخضراوات تنمو في تربة نترات البوتاسيوم ، وبشتلات من أزهار الثالوث المزروعة في أصص . وعندما رأى أنه استطاع أن يخلق عالمه الخيالي ، أشار إليه بيده ، وصاح بأعلى صوته : " ذاك الدرب سيكون دربنا ، أيها السيدات والسادة . انظروا ! ذاك الدرب سيكون لنا ".
التفت الحشد . كانت سفينة مصنوعة من الورق الملّون تعبر وراء البيوت ، وكانت أطول من أعلى بيت في المدينة الاصطناعية . وعندها لاحظ السيناتور ، أنها بعد أن شُيدت وأُنزلت وحُملت من مكان إلى مكان آخر ، التهم الطقس الشنيع البلدة الكرتونية المتداخلة ، وكادت تصبح سيئة كما هو حال قرية روزال دل فيري .
وللمرة الأولى منذ اثنتي عشرة سنة ، لم يتوجه نلسن فارينا ليرحب بالسيناتور . بل كان يستمع إلى خطاب السيناتور وهو مستلق على أرجوحته في ما تبقى من قيلولته ، تحت ظلال عريشة البيت ذي الألواح غير المستوية ، الذي بناه بيديّ الصيدلي اللتين جرّ فيهما زوجته الأولى والتي قطعّها إلى أشلاء . ثم هرب من جزيرة الشيطان ، وظهر في روزال دل فيري على متن سفينة محمّلة بببغاوات بريئة من نوع المقو ، برفقة امرأة سوداء جميلة كافرة ، كان قد التقى بها في باراماريبو وأنجب منها فتاة . لكن المرأة ماتت لأسباب طبيعية بعد فترة قصيرة ، ولم تلق مصير المرأة الأخرى ، التي ساهمت أعضاؤها المقطعّة إرباً في تسميد قطعة الأرض المزروعة بالقنبيط ، بل ووريت التراب بكامل جسدها ، محتفظة باسمها الهولندي ، في المقبرة المحلية . وقد ورثت الابنة لون أمها وقوامها الجميل ، فضلاً عن عينيّ أبيها الصفراوين المندهشتين ، وكان يحق له أن يعتقد أنه كان يربّي أجمل امرأة في العالم .
ومنذ أن اجتمع بالسيناتور أونيسمو سانشيز خلال حملته الانتخابية الأولى ، طلب منه نلسن فارينا أن يساعده في الحصول على بطاقة هوية مزورة تجعله في منأى عن قبضة القانون . إلا أن السيناتور رفض بطريقة ودّية ، ولكن حازمة . غير أن نلسن فارينا لم يستسلم ، بل ظل ولسنوات عديدة ، وكلما أتيحت له الفرصة ، يكرّر طلبه بأساليب مختلفة . أما هذه المرة ، فقد بقي في أرجوحته ، وقد كتب عليه أن يتعفّن حياً في عرين القراصنة اللاهب ذاك . وعندما سمع التصفيق الأخير ، رفع رأسه ، وأخذ يتطلع من فوق ألواح السياج ، ورأى الجانب الخلفي من المهزلة : الدعائم التي أُحضرت للمباني ، جذوع الأشجار ، والمخادعين المتوارين الذين يدفعون السفينة فوق المحيط . ثم بصق بإحساس مفعم بالحقد والازدراء .
وبعد أن ألقى كلمته ، أخذ السيناتور كدأبه يجوب شوارع القرية وسط أنغام الموسيقى والأسهم النارية ، وقد تحلّق حوله سكان القرية ، الذين راحوا يبثون له شكاويهم ومشاكلهم . وكان السيناتور يصغي إليهم باهتمام وود شديدين ولم يكن يتورع عن مواساة كلّ فرد منهم ، دون أن يقدم لأي منهم أي خدمات هامة . وتمكنت امرأة تقف على سطح أحد المنازل مع أطفالها الستة الصغار من أن تُسمعه صوتها وسط الضجيج وأصوات الأسهم النارية .
" إني لا أطلب الكثير ، أيها السيناتور " قالت ، " حمار واحد فقط لأتمكن من سحب الماء من بئر الرجل المشنوق " .
لاحظ السيناتور الأطفال النحاف الستة وسألها : " ماذا حدث لزوجك ؟ "
" ذهب يبحث عن الثروة في جزيرة أوروبا " ، أجابت المرأة بروح دمثة ، " وعثر على امرأة أجنبية ، من النوع الذي يضع الماس في أسنانهن " .
أحدث الجواب عاصفة من الضحك .
" حسناً " قرّر السيناتور ، " ستحصلين على حمارك " .
وما هي إلا لحظات ، حتى أحضر أحد مساعديه حماراً مزوداً بسرج جيد إلى بيت المرأة ، وقد دُوِّن على كفله شعار من شعارات الحملة الانتخابية بطلاء لا يمكن إزالته لكي لا ينسى أحد أبداً أنه هدية من السيناتور .
وعلى امتداد الشارع القصير ، قام ببعض الأعمال الصغيرة الأخرى ، بل وحتى قدم ملعقة دواء للرجل المريض الذي أمر بإخراج سريره ووضعه عند باب بيته كي يتمكن من رؤية السيناتور عندما يمرّ .
في الزاوية الأخيرة تلك ، ومن خلال ألواح السياج ، رأى نلسن فارينا وهو مستلق في أرجوحته ، وقد بدا شاحباً وكئيباً ، لكن ومع ذلك ، حيّاه السيناتور دون أن يبدي له أية مشاعر بالمودّة .
" مرحباً ، كيف حالك ؟ "
التفت نلسن فارينا من فوق أرجوحته ورمقه بنظرته المفعمة بالارتياب والغّل .
" أنا ، كما تعرف " ، قال .
خرجت ابنته إلى الباحة عندما سمعت التحية .
كانت ترتدي فستاناً هندياً رخيصاً من نوع غواجيرو ، وكانت تزّين رأسها أقواس ملوّنة ، وكانت قد دهنت وجهها بأصباغ لتقيه من أشعة الشمس . إلا أنه ، حتى في وضعها السيئ ذاك ، يستطيع المرء أن يتصور أنه لا توجد امرأة أخرى في جمالها على وجه البسيطة كلها . وقف السيناتور منقطع الأنفاس وقال بدهشة : " اللعنة . يفعل الله أكثر الأشياء جنوناً " .
في تلك الليلة ، جعل نلسن فارينا ابنته ترتدي أجمل ثيابها ، وبعث بها إلى السيناتور . وطلب منها الحارسان المسلحان بالبنادق اللذان كانا يهزان رأسيهما من شدة الحرارة في البيت المستعار ، أن تنتظر على الكرسي الوحيد في الردهة .
كان السيناتور يعقد في الغرفة المجاورة اجتماعاً مع أناس على قدر من الأهمية في روزال دل فالي ، الذين كان قد جمعهم لينشد على مسامعهم الحقائق التي لم يكن قد ذكرها في خطابه ، والذين كانوا يشبهون إلى درجة كبيرة جميع من كان يلتقي بهم في البلدات الصحراوية كلها . وكان قد بدأ يعتري السيناتور الملل ويشعر بالتعب من تلك الجلسات الليلية التي لم تكن تتوقف . كان قميصه مبللاً بالعرق ، وكان يحاول أن يجففه على جسده من التيار الحار المنبعث من المروحة الكهربائية التي كانت تصدر طنيناً كطنين ذبابة الفرس في وسط الحرارة اللاهبة التي تغمر الغرفة .
قال : " بالطبع لا نستطيع أن نأكل طيوراً ورقية " ثم أضاف : " إنكم تعرفون ، وأنا أعرف أن اليوم الذي ستنمو فيه الأشجار والأزهار في كومة روث العنزات هذه ، وفي اليوم الذي سيحل سمك الشابل محل الديدان في برك الماء ، عندها ، لن يعود لكم ، ولن يعود لي شيء هنا ، هل تفهمون ما أقوله لكم ؟ "
لم يحر أحد جواباً . وفيما كان السيناتور يتكلم ، مزّق صفحة من التقويم ، وشكّل منها بيديه فراشة ورقية ، ثم ألقاها نحو تيار الهواء المنبعث من المروحة ، فراحت الفراشة تتطاير حول الغرفة ، ثم خرجت وانسلت عبر شق الباب الموارب . وتابع السيناتور كلامه ، بعد أن تمالك نفسه ، يساعده في ذلك الموت المتواطئ معه .
وأضاف : " لذلك ، لا يتعين عليّ أن أكرّر على أسماعكم ما تعرفونه جيداً : بأن انتخابي مرة أخرى هو لمصلحتكم أنتم أكثر مما هو لمصلحتي أنا ، لأني سئمت المياه الراكدة وعرق الهنود ، في الوقت الذي تكسبون فيه أنتم ، أيها الناس ، رزقكم منه " .
رأت لورا فارينا الفراشة الورقية وهي تتسرب من باب الغرفة . رأتها فقط لأن الحارسين في البهو كانا يغطان في النوم وهما جالسين على الدرج ، يعانق كل منهما بندقيته . وبعد أن دارت عدة دورات ، انفتحت الفراشة المثنية بكاملها ، وارتطمت بالحائط ، والتصقت به . حاولت لورا فارينا أن تقتلعها بأظافرها . إلا أن أحد الحارسين ، الذي استيقظ على صوت تصفيق منبعث من الغرفة المجاورة ، لاحظ محاولتها العقيمة .
" لا يمكنك اقتلاعها " ، قال بفتور ، " إنها مرسومة على الحائط " . عادت لورا فارينا وجلست عندما بدأ الرجال يخرجون من الاجتماع . وقف السيناتور عند مدخل الغرفة ويده على المزلاج . ولم يلحظ لورا فارينا إلا عندما أضحت الردهة خاوية .
" ماذا تفعلين هنا ؟ "
قالت : " لقد أرسلني أبي " .
فهم السيناتور . أمعن النظر في الحارسين النائمين ، ثم تمعّن في لورا فارينا ، التي كان جمالها الفائق يفوق ألمه ، وهنا عرف أن الموت هو الذي اتخذ قراره نيابة عنه .
" ادخلي " قال لها .
وقفت لورا فارينا والدهشة تعتريها عند مدخل الغرفة : كانت آلاف من الأوراق النقدية تتطاير في الهواء ، تخفق كالفراشات . لكن السيناتور أطفأ المروحة ، فتوقفت عن السباحة في الهواء وأخذت تتهاوى وتتساقط فوق قطع الأثاث في الغرفة .
" كما ترين " ، قال مبتسماً ، " حتى الخراء يمكن أن يطير " .
جلست لورا فارينا على المقعد المدرسي . كانت بشرتها ناعمة ومشدودة ، وبلون النفط الخام وكثافته ، وكان شعرها مثل عرف فرس صغيرة ، وكانت عيناها الواسعتان تمنحان بريقاً أكثر لمعاناً من وهج الضوء . وتبع السيناتور مسار نظرتها ووجد أخيراً الوردة التي تلوثت بنترات البوتاسيوم .
قال : " إنها وردة " .
" نعم " قالت وفي صوتها نبرة ارتباك . " لقد شاهدتها عندما كنت في ريوهاتشا ".
جلس السيناتور على السرير العسكري ، وراح يتحدث عن الورود فيما بدأ يفك أزرار قميصه . وعلى الجانب الذي كان يخيّل إليه أن قلبه موجود فيه داخل صدره ، كان قد رُسم وشم في شكل قلب يخترقه سهم . ألقى القميص المبلل على الأرض وطلب من لورا فارينا أن تساعده في خلع حذائه الطويل .
جثت أمام السرير . لم يبعد السيناتور عينيه عنها وهو يتمعن فيها بدقّة ، وفيما كانت تفكّ رباط حذائه ، كان يتساءل من منهما سيكون سيء الحظ من لقائهما هذا .
قال : " إنك مجرد طفلة " .
قالت : " قد لا تصدق . سأبلغ التاسعة عشرة من عمري في شهر نيسان القادم " . أبدى السيناتور مزيداً من الاهتمام .
" في أيّ يوم ؟ "
قالت : " في اليوم الحادي عشر " .
أحس السيناتور بأنه أصبح أفضل حالاً ، ثم قال : " ننتمي كلانا إلى برج الحمل " ، ثم أضاف مبتسماً : " إنه برج العزلة " .
لم تكن لورا فارينا تبدي اهتماماً بما كان يقوله لأنها لم تكن تعرف ماذا تفعل بالحذاء . أما السيناتور ، فلم يكن يعرف ماذا يفعل بلورا فارينا ، لأنه لم يكن قد اعتاد مثل علاقات الحبّ المفاجئة هذه ، كما أنه كان يعرف أن أصل هذه العلاقة يعود إلى الذل والمهانة . ولكي يتاح له قليل من الوقت للتفكير ، أمسك لورا فارينا بإحكام بين ركبتيه ، وضمها حول خصرها ، واستلقى على ظهره فوق السرير . ثم أدرك أنها كانت عارية تحت ثيابها ، بعد أن انبعثت من جسدها رائحة قوية من عطر حيوان الغابة ، لكن قلبها كان واجفاً ، وكسا جلدها عرق جليدي .
" لا أحد يحبّنا " ، قال متنهداً .
حاولت لورا فارينا أن تقول شيئاً ، لكن لم يكن لديها من الهواء سوى قدر يكفيها كي تتنفس . جعلها تستلقي بجانبه ليساعدها ، وأطفأ الضوء وأصبحت الغرفة في ظلّ الوردة . استسلمت إلى رحمة قدرها . وراح السيناتور يداعبها ببطء ، يسعى إليها بيده ، يلمسها لمساً خفيفاً ، لكنه صادف شيئاً حديدياً يعوق طريقه في البقعة التي كان يسعى إليها .
" ماذا تضعين هناك ؟ "
قالت : " قفل " .
" لماذا بحق السماء ! " قال السيناتور غاضباً وسأل عن الشيء الذي يعرفه جيداً . " أين المفتاح ؟ "
تنفست لورا فارينا الصعداء .
أجابت : " إنه موجود عند أبي " ، وأضافت : " لقد طلب مني أن أخبرك بأن ترسل أحداً من رجالك للحصول عليه ، وأن ترسل معه وعداً خطياً بأنك ستحلّ مشكلته " .
ازداد السيناتور توتراً . ودمدم ساخطاً : " يا له من ضفدع ابن زنى " . ثم أغمض عينيه ليسترخي وألقى بنفسه في الظلام . تذكّر ، تذكّر ، سواء كنت أنت أو شخصاً آخر ، فلن تمضي في هذه الحياة فترة طويلة وستموت حتى لن يبقى أحد يلهج باسمك .
انتظر حتى تلاشت القشعريرة التي اعترته .
سألها : " قولي لي شيئاً واحداً : ماذا سمعت عني ؟ "
" هل تريد أن أقول الحق ؟ "
" الحق " .
قالت لورا فارينا : " حسناً ، إنهم يقولون إنك أسوأ من الآخرين لأنك مختلف " .
لم ينزعج السيناتور . لاذ بالصمت لفترة طويلة وهو مغمض العينين . وعندما فتحهما ثانية ، بدا أنه أفاق من أكثر غرائزه المثيرة للخوف .
ثم قرّر : " أوه ، بحقّ السماء ، قولي لأبيك ابن العاهرة بأنني سأحلّ مشكلته " .
" إذا أردت ، يمكنني أن أذهب وأجلب المفتاح بنفسي " ، قالت لورا فارينا ، لكن السيناتور أوقفها .
قال : " انسِ أمر المفتاح ، ونامي قليلاً معي . جميل أن يكون بصحبة المرء أحد عندما يكون وحيداً تماما " .
ثم وضعت رأسه على كتفها ، وعيناها مثبتتان على الوردة । طوّق السيناتور خصرها بذراعيه ، ودفن وجهه في إبطها الذي تفوح منه رائحة حيوان الغابة ، واستسلم للرعب . وبعد ستة أشهر وأحد عشر يوماً مات وهو في تلك الوضعية ذاتها ، مُحتقراً ومُهاناً بسبب الفضيحة التي شاعت بأنه كان مع لورا فارينا وكان يبكي بحرقة لأنه مات بدونها .

...

ترجمة : خالد الجبيلي

اللوحة : جبران خليل جبران

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق